جبالي: أسماء النواب بصوت عالي لأهمية الجلسة و ليس لإحراج الغائبين    رئيس "صحة النواب": مستعدون لتعديل قانون التأمين الصحي الشامل إذا اقتضى التطبيق    وزير المالية: الموازنة الجديدة فيها نسب استثنائية لمساندة الأنشطة الاقتصادية    وزير الإسكان: ملتزمون بتذليل العقبات أمام المطورين والمستثمرين    بعد فتح المجال الجوي العراقي، إلهام شاهين وهالة سرحان تعودان لمصر    الرئيس الإيراني: لم نسعَ للحرب ولم نبادر بها    الزمالك يكشف حقيقة وصول عرض سعودي لضم ناصر منسي    تعاطى الحشيش وطعنها بشوكة، المشدد 10 سنوات لسوداني قتل أمه بمصر القديمة    محافظ سوهاج: مكتبي مفتوح لمن لديه دليل غش أو فساد بامتحانات الثانوية    وزير الثقافة يصل مبني ماسبيرو لافتتاح استديو نجيب محفوظ    إلهام شاهين وهالة سرحان تغادران العراق بعد تعذر العودة بسبب التوترات الإقليمية    بعد عرضه.. أسماء أبو اليزيد تنشر صورا من كواليس تصوير "فات الميعاد"    الضربة الإسرائيلية لإيران| وكالة الطاقة الذرية: لم تقع أضرار أخرى في منشآت التخصيب الإيرانية    اليوم.. محاكمة 29 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية فى المقطم    طالب يشنق شقيقه بحبل في سوهاج.. السبب صادم    رئيس مجلس النواب يضع مجموعة قواعد لمناقشة مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية    شوبير يكشف سبب تبديل زيزو أمام إنتر ميامي وحقيقة غضبه من التغيير    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    قصر ثقافة أبو سمبل يشهد انطلاق برنامج "مصر جميلة" لاكتشاف ودعم الموهوبين    الصحة: إصدار 19.9 مليون قرار علاج مميكن من الهيئة العامة للتأمين الصحي خلال عام    مستقبل صناعة العقار في فيلم تسجيلي بمؤتمر أخبار اليوم    وزير التعليم العالى: بنك المعرفة المصري تحول إلى منصة إقليمية رائدة    القبض على 3 متهمين بسرقة كابلات من شركة بكرداسة    الإعدام شنقا لجامع خردة قتل طفلة وسرق قرطها الذهبى فى العاشر من رمضان    انخفاض الطماطم.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    وفد من نواب المحافظين يتفقد مشروعات تنموية وخدمية في الوادي الجديد    معلق مباراة الأهلي: الحماس سبب تريند «تعبتني يا حسين».. والأحمر كان الأفضل (خاص)    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    شام الذهبي تطمئن الجمهور على نجل تامر حسني: «عريس بنتي المستقبلي وربنا يشفيه»    حكم الصرف من أموال الزكاة والصدقات على مرضى الجذام؟.. دار الإفتاء تجيب    السيسي لا ينسي أبناء مصر الأوفياء.. أخر مستجدات تكريم الشهداء والمصابين وأسرهم    صيف 2025 .. علامات تدل على إصابتك بالجفاف في الطقس الحار    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    تفاصيل إنقاذ مريض كاد أن يفقد حياته بسبب خراج ضرس في مستشفي شربين بالدقهلية    موريتانيا.. مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي على إيران وغزة    الاثنين 16 يونيو 2025.. البورصة المصرية تعاود الارتفاع في بداية التعاملات بعد خسائر أمس    تنسيق الجامعات.. اكتشف برنامج فن الموسيقى (Music Art) بكلية التربية الموسيقية بالزمالك    مستشار الرئيس للصحة: مصر سوق كبيرة للاستثمار في الصحة مع وجود 110 ملايين مواطن وسياحة علاجية    ترامب يصل إلى كندا لحضور قمة مجموعة السبع على خلفية توترات تجارية وسياسية    استكمالا لسلسلة في الوقاية حماية.. طب قصر العيني تواصل ترسيخ ثقافة الوعي بين طلابها    انقطاع خدمات الاتصالات في جنوب ووسط قطاع غزة    حالة الطقس اليوم في الكويت    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    مدرب بالميراس يتوعد الأهلي قبل مواجهته في مونديال الأندية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    عمرو أديب: كنت أتمنى فوز الأهلي في افتتاح كأس العالم للأندية    فينيسيوس: نسعى للفوز بأول نسخة من مونديال الأندية الجديد    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    موجة جديدة من الصواريخ الإيرانية تنطلق تجاه إسرائيل    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    أسعار الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الاثنين 16 يونيو 2025    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفكر مصري جديد‏2-1
د‏.‏علي مبروك‏:‏ الديكتاتورية العربية أشعرية
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 12 - 2011


حوار‏ :محمد حربي
لكل قراءة هو موليها وأينما توجه قراءتك في التراث ستجد لقراءتك موطئ قدم في خارطة التأويلات وعندما حاول الدكتور علي مبروك أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة الدخول إلي ميدان التراث تخلص إلي حد كبير من غلالة الأيديولوجية, وتسلح بالأسئلة المعرفية في محاولة لاكتشاف بنية النسق المعرفي الذي وجه حركة ثقافتنا فاكتشف:
إن الاشاعرة تنكروا للتاريخ وثبتوه عند لحظة نموذجية تنتمي إلي الماضي.
إنهم يرون التاريخ انهيارا دائما من حسن الي سيئ.
وإنهم روجوا, عقائديا, لفكرة المطلق فاستغل السياسيون هذه النظرية ذات الثوب الديني, وتبنوها سياسيا علي كل شكل من أشكال الديكتاتورية.
ان ابن رشد لم يكن عقلانيا كامل العقلانية كما يروج الخطاب الفلسفي العربي المتأثر بالمقولات الغربية, وأن الخطاب الرشدي كان خطابا نخبويا يتنكر للعوام,
ان المعتزلة كانوا الطائفة أو الفصيل الأكثر اقترابا من العقلانية في التراث العربي,ان القفز علي مقدمات التاريخ والتفكر له منهج عربي في السياسة والفكر.. وهذا نص اكتشاف علي مبروك او قراءته للتراث:
عندما علم نصر أبوزيد نية قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة أن يكون تخصصه في الدراسات العليا ميدان الدراسات الاسلامية, خاف بسبب ما تعرض له كل الذين اقتحموا هذا المجال بعقلانية, من طه حسين, وأمين الخولي, ومحمد أحمد خلف الله.ولكن صديقه جابر عصفور اقنعه بأن رغبته في دراسة الأدب والتخصص فيه لا تبتعد كثيرا عن رغبة القسم في أن يتخصص بالدراسات الاسلامية إذ إن الدرس الأدبي أو البلاغي للقرآن لا يبتعد كثيرا عن مجال الأدب. وعندما أنهي علي مبروك تلميذ أبوزيد- دراسته الجامعية بتفوق في قسم الفلسفة وبدأ دراساته العليا كلفه القسم بالتخصص في علم الكلام لان القسم في حاجة إلي من يعمل في هذا التخصص' يقول علي مبروك: عندما علمت أنه تم تكليفي بالتخصص في علم الكلام, كان لذلك وقع سيئ علي نفسي; حيث تصورت انه سيتم اقتلاعي من المنطقة التي تستهويني بشكل كبير, وهي الفلسفة المعاصرة, وإجباري علي العمل في منطقة ميتة. هكذا تصورت الأمر, ولكني عندما بدأت الدراسة اكتشفت أنه تم غرسي في التربة التي تناسبني. فإن تكون مأخوذا بأسئلة العصر ومسكونا بهمومه, ثم يتم غرسك في موروثك القديم- الذي لا يزال حيا- لابد أن يجعل منك شيئا مختلفا.
تم تكليفك ولم تكن حرا في اختيارك؟
عندما يتم تكليف أوائل الدفعات للعمل كمعيدين في الجامعات المصرية, فإنه يتم اختيار التخصصات التي سيعملون بها علي أساس احتياجات القسم العلمي,وليس علي اساس الرغبات الآنية لهؤلاء المعيدين. ورغم أن ذلك كان إيجابيا في حالتي كما أشرت, فإنه يبقي أن تلك الإيجابية جاءت بمحض الصدفة السعيدة; وأعني أننا جميعا ضحايا نظام تعليمي لا يسمح لنا بالتعرف علي ما نريده- أو نقدر عليه- حقا.
كيف وفقت بين رغبتك, وتكليف القسم؟
كانت تستهويني الحداثة فعلا,ورغم أن هذا الإعجاب لم يكن خاليا من بعض الانبهار, فإني سعيت إلي فهم ظاهرة الحداثة والوعي بأصولها. لم أكن غارقا في الفتنة بإكسسواراتها وزخارفها; بل سعيت إلي امتلاك الوعي النقدي بالمفاهيم المؤسسية لها. ولم يفارقني هذا النوع من الانشغال عندما بدأت أعمل في حقل الدراسات الإسلامية.
وإذا كان تحقق الحداثة, وما ترتب علي هذا التحقق من تحويل الغرب إلي قوة جبارة قادرة علي أن تتحكم في العالم, ارتبط بتبلور وانبثاق مفاهيم الإنسان والعقل والتاريخ, فقد سعيت إلي إثارة الأسئلة حول تلك المفاهيم الحاكمة للعصر, في ثقافة الإسلام. وهنا فإنه لا يمكن القول بأني أفرض علي عالم التراث مفاهيم عالم الحداثة, لأن مدار الانشغال في ثقافتنا علي مدي القرنين الأخيرين كان التساؤل عن سبب' تقدم الأوروبيين' في مقابل' تخلف المسلمين'; ما يعني أن وعي صانعي النهضة العربية لا يفصل بين العالمين, بل يربط بينهما إلي حد أنه لا يفهم' تخلفنا' معزولا عن' تقدمهم'.
وهل حملت هذه الأسئلة معك في ترحالك صوب التراث؟
أخشي ان يكون مغزي سؤالك أنني دخلت التراث بفكرة مسبقة, وأنا أبعد ما أكون عن هذه الفكرة وهذا المنهج لأن الدخول إلي ميدان التراث بأفكار مسبقة لن يؤدي إلي فهم دقيق له بل سيؤدي إلي ماسماه الباحث العربي الكبير جورج طرابيشي مذبحة التراث.
دخلت التراث مسكونا بأسئلة اللحظة التي تثقل بضغطها علي الواقع الذي أنتمي إليه, ورحت أبحث لها عن إجابات داخل التراث. ولأني أبحث عن إجابات لأسئلة يتفق عليها الكافة, ولا أسعي وراء أسانيد أدعم بها رؤية أيديولوجية جاهزة مسبقة, فإن اشتغالي علي التراث كان اشتغالا معرفيا في الأساس.
هناك قراءات نقدية كثيرة للتراث تقدم اجتهادات جديدة, هناك قراءات سلفية تعيد طرح التراث كما هو من دون نقد أو تمحيص كيف تقرأ هذه القراءات؟.
من خلال قراءتي لمعظم هذه القراءات اكاد اكتشف ان مفهوما واحدا يخترقها جميعا, هو مفهوم الايديولوجيا; فبعد هزيمة يونيو1967 وعلي مدي عقد السبعينيات من القرن الماضي يمكن للمرء أن يكتشف أن الانشغال العربي النقدي كان انشغالا ايديولوجيا في الأساس. ومع بداية الثمانينيات بدأ يظهر شكل جديد من النقد, هو النقد المعرفي, يحاول أن يتجاوز هذا النقد الايديولوجي. و بدأنا نقرأ عن نقد العقل العربي عند الراحل الكبير محمد عابد الجابري, وعن العقل الاسلامي عند الراحل الكبير محمد اركون, وهما المفكران اللذان حاولا تجاوز الايديولوجية.
ولكن أي قاريء لأعمال الجابري واركون يكتشف اختراق الايديولوجيا لأعمالهما بشكل هائل.
كيف؟
اعطيك مثالا عاما هو مفهوم' العقل الاسلامي', الذي يستخدمه أركون والذي اري أنه مفهوم ايديولوجي والمفهوم الايديولوجي هو ذلك المفهوم الذي لا يساعدنا علي فهم ظاهرة ما فهما دقيقا, لأنه يقدم- في أغلب الاحوال- وجها واحدا من وجوهها ولا يقدم كل الجوانب المكونة لها والمحيطة بها, وذلك علي عكس المفهوم المعرفي الذي يستوعب كل جوانب الظاهرة, فيسمح لنا بفهمها وفهم آليات تشكلها جيدا.
وعندما اتحدث عن العقل الاسلامي, فإن ما يتبادر الي الذهن هو أنه العقل الذي انتجه الاسلام او حتي الذي أوصي به و ذلك ليس دقيقا أبدا, بينما الأدق أن نقول انه العقل الذي تحققت له السيادة في الإسلام, وهو الاصطلاح الذي افضل استخدامه.
لأنه مفهوم يخلصني من الظلال الايديولوجية التي تسكن مفهوم' العقل الاسلامي'. فإن كونه' عقلا إسلاميا' لا يدع أمامي من سبيل لتفسيره إلا بالإسلام كدين; وهو ما لا يمكن اعتباره تفسيرا علميا, بل إنه تفسير ملغوم تماما لأنه يجعل من نقدي لهذا العقل مثلا بمثابة نقد للإسلام. وأما كونه' عقلا ساد في الإسلام' فإنه يساعدني كباحث علي فهم وتفسير ما جري بخصوص تبلور عقل بعينه تحققت له السيادة في الإسلام.
ولكن اركون طرح مفهوم العقل الاسلامي بطريقة نقدية ومعرفية ؟
اركون تكلم عن العقل الاسلامي باعتباره عقلا حاملا لسمات بعينها اكتسبها من الإسلام كديانة وحي, واحيانا يتكلم عن الطريقة التي تمت بها صياغة هذا العقل, اي عن عقل صنعه المفكرون والفقهاء بشكل اساسي, أو ما يسميه العقل العليم أو العقل الكتابي أو عقل الوحي, او ذلك العقل المقيد بسلطة الوحي, أي أن اركون يقدم لنا عقلا حاملا لسمات جوهرية, وهذا نمط من الارسطية الجديدة, وقد تجاوز العالم المفهوم الاوسطي للعقل كجوهر ويتعامل مع العقل كحدث ينبثق ويتشكل ويتكون داخل ثقافة معينة, وبذلك فإنه لا يمكن أن نتحدث عن سمات ثابتة للعقل, حيث ان هناك امكانية لأن تتم عمليات زحزحة داخل فضاء ثقافة ما في لحظات تاريخية ما, وهذه الزحزحة من شأنها أن تحدث تحولات داخل هذه الثقافة, تلقي بأثرها علي العقل السائد نفسه, وربما تصل إلي إقصائه. ولا شك أن فكرة العقل حامل السمات الثابتة تقترب من التصورات الأوروبية العنصرية التي تتحدث عن عقل أوروبي حداثي, في مقابل عقل شرقي بدائي, وهذه فكرة عنصرية بامتياز.
هل تعني أن هذا غاب عن عقل جبار كعقل أركون؟
أعرف أن باحثا بحجم محمد أركون استخدم مفهوم العقل الإسلامي وفي ذهنه أن يستخدمه معرفيا وأن يقدم نقدا معرفيا له, لكن الطريقة التي تم بها استخدام المصطلح فتحت الباب لحضور الأيديولوجيا- واختراقها للجانب المعرفي في بنية المصطلح. وفيما يخص مفهوم العقل الذي ساد في الإسلام; فدعنا نوضح أولا أننا نعني بهذا المفهوم سيادة طريقة بعينها في التفكير داخل ثقافة الإسلام. وقد تبلور داخل هذه الثقافة ما يمكن اعتباره طرائق في التفكير, لكن واحدة فقط من هذه الطرائق قد تحققت لها السيادة داخل تلك الثقافة, لأسباب يمكن اكتشافها داخل التاريخ بالطبع. وكمثال فإنه إذا كان( الأشعري) قد بلور طريقة في التفكير تقوم علي الاستدلال بالخبر أو النص( فالنص هو الأصل في أي معرفة), في مواجهة طريقة أخري بلورها المعتزلة وتقوم علي الإستدلال بالمشاهدات الواقعة( وبمعني أن الواقعات هي أصل المعرفة); فإن الغالب علي الممارسة العربية الآن يكشف عن تحقق السيادة لواحدة من هاتين الطريقتين( أو العقلين) علي حساب الأخري.
هل تنطبق ما تسميه' القراءة الايديولوجية' علي طروحات محمد عابد الجابري ؟
إن اختراق الأيديولوجيا لأعمال الجابري يكاد يكون أوضح منه مما عند اركون, لأن الجابري كان يمارس نوعا من' الإكراه المعرفي', حيث إن المفهوم الأساسي الذي كان يعمل الجابري من خلاله هو' القطيعة المعرفية' بين المشرق العربي, والمغرب العربي, وهي منطقة مسكوت عنها في خطاب الجابري. فالعقل المشرقي بياني ثم عرفاني بمصطلحات الجابري, وليس عقلا برهانيا( كالعقل المغربي), وهو المسئول عن الهزيمة العربية, لأنه عقل لا يفكر, و مقيد بقطعيات ثابتة, وعندما قدم الجابري العقل المغربي قدمه من خلال نماذج برهانية- بحسب تصوراته- حيث قدم ابن خلدون, والشاطبي, وابن رشد, وسكت عن اسماء تنتمي للعقل البياني, واخري تنتمي للعقل العرفاني. كما أن ابن خلدون الذي جعله الجابري' عقلانيا برهانيا', لا يمكن فهمه بعيدا عن البيانية الأشعرية. بل إن ابن خلدون نفسه يعتز في مواضع كثيرة باشعريته, كما ان المقولات المركزية التي كان يعمل بها في مقدمته الشهيرة هي مقولات أشعرية صاغها الغزالي من قبل فمفاهيم مثل' الطبع' الذي عمل به ابن خلدون في طبائع العمران, ومفهوم' الغلبة'و العصبية والشوكه وهي من المحركات الأساسية للسياسة والإمامة تبلورت في عمل الغزالي, قبل ابن خلدون. إن ذلك يعني أن مفهوم القطيعة المعرفية الذي اشتغل به الجابري مفهوم مفروض من أعلي, وأعني بذلك أنه قد فرض عليه نوعا من الجغرافيا التي يتمايز فيها المغرب معرفيا عن المشرق, كما يفرض عليه السكوت عن الاختراقات في الأنساق المعرفية بين الشرق والغرب.
وهل توافق علي مقولات جورج طرابيشي في نقده لمشروع الجابري؟
طرابيش لم يفعل شيئا سوي إعادة إنتاج منظومة الجابري علي نحو معكوس, حيث حاول رد الاعتبار للمشرق الذي ظلمه مشروع الجابري. وأعني أن مفهوم المركزية والأصالة الذي ينتجه الجابري لصالح المغرب, لا يفعل طرابيشي إلا أن يعيد إنتاجه لصالح المشرق. وإذن فإننا بإزاء مفهوم واحد يعاد انتاجه بصرف النظر عن الحمولات التي تعطي له.
الجابري قرأ العقل العارف, وأركون قرأ العقل العليم فأين العقل الثقافي الشعبي من مشاريع قراءة التراث؟
العقل الشعبي في حاجة إلي فحص كبير وتحليل لمنطقه وتجلياته, واكتشاف طرائق اشتغاله, ورغم ما يبدو من بعض الدراسات هنا وهناك, فإن الغالب, علي العموم, هو أن مشاريع قراءة التراث العربي قد سكتت عن هذا العقل, لسوء الحظ.
هل لذلك ارتباط بالتنكر الثقافي للواقع؟
يحتاج مفهوم الواقع إلي ضبط كبير, ولكن يبقي علي أي حال أن إهمال بلورة مفهوم منضبط للواقع في المشاريع الفكرية العربية لا يرتبط فقط بما تراه من إهمال الموروث الشعبي في تلك المشاريع. فإن إهمال الواقع يتعدي مجرد ذلك إلي ما يتعلق بكيفية تصور الواقع من خلال مجرد الاختزال الايديولوجي في تلك المشاريع....وتلك هي المعضلة الكبري.
وأما فيما يخص إشارتك السابقة إلي الجابري( والعقل العارف) وأركون( والعقل العليم) فإنها تكشف عن اتفاقهما علي تجاهل حقبة الثقافة غير المكتوبة, وأعني بها ثقافة المنطقة العربية قبل الإسلام, والتعاطي معها باعتبارها صفحة' بيضاء' لم تؤثر بأي شكل من الأشكال علي العقل الذي تشكل بعد ظهور الاسلام. و اللافت ان القرآن الكريم والسنة النبوية لم ينظرا إلي هذه الفترة السابقة علي الاسلام نظرة اقصاء, بل ان هناك في الاثر اعجابا بتلك الفترة وبعض قيمها يلخصها القول' خيركم في الجاهلية خيركم في الاسلام.
وأنا اري أن قراءة هذه الفترة التاريخية يمكن ان تعطينا مفاتيح اساسية لفهم العقل الذي ساد في الاسلام. ولعلنا عندما نتحدث عن الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم, نعني أنه كان يتحدي منظومة من الأفكار والأساليب ولم يكن يتحدي صفرا, ولذلك أندهش من تجاهل الجابري واركون لهذه المنطقة المعرفية التي يكشف التحليل عن أنها لعبت دورا بالغ المركزية في بناء العقل الذي ساد في الإسلام.
ما هو السؤال الرئيسي الذي كان يشغلك في قراءتك للتراث: السؤال عن الانسان, أم العقل؟
قراءتي تقوم علي المساءلة, وأنا من المؤمنين بان انحطاط المجتمعات يبدأ من غياب السؤال. ومساءلة التراث ونقده كما امارسها تنبع من تقديري العميق للتراث, لأن المنجز التراثي يملك من القيمة الكبري ما لا يخول لنا أن نتعامل معه بمجرد التلقي والقبول والصمت, فإن ذلك يمثل استهانة به, بل وحتي إهانة له. إن احترامه يفرض علينا, في المقابل, أن نحاوره ونتفاعل معه بالتفسير والفهم, وحتي النقد. إن هذا هو الاحترام الحقيقي, وأما ما يراه البعض من احترامنا للتراث يعني أن نقلده ونكرره, فإنه لا يعني ألا ندخل به إلي دائرة الجمود والإضمحلال; الذي هو قرين التقليد والتكرار. وفي كلمة واحدة, فإن حياة التراث الحقة ترتبط بالتفاعل المعرفي النقدي معه.
لماذا برأيك ساد العقل الأشعري في التراث الاسلامي؟
لأسباب شتي أهمها علي الإطلاق أنه' عقل سلطة'. فهو عقل تلق وتبرير; وتلك هي السمة البنيوية لعقل السلطة. ومن هنا راحت السلطة تفرضه علي الكافة, باعتبار أنه عقل الإسلام. وهكذا يتم تنسيبه إلي الإسلام بالقول أنه' العقل الإسلامي'- بألف ولام العهد وبما راح يتخفي وراء تلك النسبة من حقيقة أنه كان العقل الذي قامت تلك السلطة بتسييده لما يؤديه لها من خدمات كبري.. ولعلي أشير- في هذا السياق- إلي أن هذا العقل لا يزال يفرض سطوته علي الواقع الذي نعيشه الآن. ومن هنا فان السعي لفهمه هو- في جوهره- سعي لفهم هذا الواقع والسيطرة عليه توطئة لتغييره إلي الأفضل.فالتراث هو أقرب ما يكون إلي الصندوق الذي يختفي فيه مفتاح فهم واقعنا.
اسطورة الاشعري
ماذا تعني بهذا الواقع؟
يمكن ان نميز في الواقع بين مستويين: الاول مستوي الممارسة علي السطح, والثاني مستوي الفكرة العميقة الكامنة تحت السطح. ومشكلتنا الاساسية اننا فصلنا بين هذين المستويين, وانشغلنا فقط بمستوي السطح او الممارسة الظاهرة. وكمثال علي ذلك, أشير إلي الديمقراطية التي انشغلنا برسومها وإكسسواراتها بأكثر من انشغالنا بجوهر ما تقوم عليه في العمق. ومن هنا أننا إستوفينا الشكل الديمقراطي, ولكن هذا الشكل تحول إلي قناع تتخفي وراءه إرادة المتسلط المنفردة. فتحت الشكل الديمقراطي ترقد بنية أبوية تسلطية عاتية; وهي بنية تجد ما يؤسسها كاملا الفكرة الأشعرية. وهكذا فإن هذه الفكرة الأشعرية هي ما يشكل جوهر ما يسكن تحت سطح الواقع. ومن هنا فان تفكيك الأشعرية هو من أجل الإمساك بما ينتظم عمق الواقع الذي نعيشه اليوم.
ولعل أحد المداخل إلي هذا التفكيك تنطلق من فهم مسيرة أبي الحسن الأشعري نفسه; وهو الذي بدأ مسيرته الفكرية معتزليا ثم تحول في سن الاربعين تحولا دراميا بلا مقدمات تمهد لهذا التحول. حيث تقول الروايات انه رأي النبي( صلي الله عليه وسلم) في منامه في العشر الاوائل من شهر رمضان, وقال له النبي: أترك ما أنت عليه, وانصر مذهبي, وفي العشر الثواني ظهر النبي مرة أخري للاشعري في المقام وسأله عما فعل بخصوص ما طلبه منه. ثم ظهر له مرة ثالثة في العشر الاواخر من رمضان مؤكدا علي ضرورة تحقيق هذا المطلب. فما كان من الأشعري بعد هذه الرؤي الثلاث إلا أن خرج للناس خاطبا فيهم: أنه قد تاب عن الاعتزال وانخلع عنه, وأنه سيقوم بكشف كل فضائح المعتزلة ومخازيهم. وهكذا تقدم الرواية انقلاب الأشعري علي الاعتزال علي أنه كان استجابة لمطلب سماوي نبوي. ولقد قمت بقراءة مدققة لتلك الرواية في إطار ما هو معروف عن حياة الأشعري, وبدا لي أنه يمكن تفسير إنقلاب الأشعري علي الاعتزال علي أنه كان استجابة لمطلب سياسي نفسي. إنه يمثل أحد تجليات نظرية قتل الأب.
لا أومن بنظرية' قتل الأب' كما روج لها فرويد ولكني أسأل عن علاقة الأشعري بهذه النظرية؟
تزوجت والدة أبي الحسن الصبي من أحد كبار شيوخ المعتزلة بعد وفاة والده. وبالتالي فإنه يمكن فهم سلوكه ضد الإعتزال من خلال نظرية' قتل الأب', لأن انقلابه العنيف والمفاجئ لا تفسير له من زاوية منطق التطور المعرفي. ولعل ما يزيد الصورة وضوحا يتجلي فيما يبدو أنه توحد الأشعري مع أحمد إبن حنبل وخطابه; حيث يتحدث الأشعري عن أصول أربعة لمذهبه هي الكتاب والسنة والإجماع وما قال به أحمد بن حنبل. إن الدلالة هنا تتمثل في أن إبن حنبل كان مثل الأشعري ضحية للمعتزلة; ولذلك إرتفع به الأشعري إلي مقام الأصل الذي يفكر به. وإذن فإنها الرغبة في الإنتقام من المعتزلة هي ما تجعله يتوحد مع خصمهم اللدود إبن حنبل; وهو إنتقام راح يعبر عن نفسه فيما يطفح به خطابه من عنف لغوي.
أما مسألة الرؤيا فإنها نوع من التغطية علي هذه الرغبة في الإنتقام التي تجد ما يفسرها في المكبوت النفسي, والتي تلاقت مع ما يمكن القول أنه إحتياج سياسي, فكان هذا الإنفجار العارم لتلك الرغبة. ولعله يمكن الإشارة- في سياق هذا التحول للأشعري- إلي تحول نقيض قام به القاضي عبد الجبار الذي بدأ أشعريا, وإنتهي معتزليا, ولعل بقايا الأشعرية التي لم تفارقه قد أسهمت في تقويض الفكر الإعتزالي من داخله.
تقول ب' لاعقلانية' الأشاعرة, مع أنهم يقدمون علي أنهم ممثلو الوسطية العقلانية في الخطاب الإسلامي,؟
في الحقيقة يمكن القول أن الجوانب العقلية في الفكر الأشعري تعمل في سياق مجرد التبرير, أو تعمل كمجرد قناع شكلي فقط; وأعني من دون أن تكون قادرة علي مساءلة المنهج الأشعري, ونقده..
وإذا كان الأشاعرة قاموا بتكريس سلطة النص علي حساب العقل, وتثبيت مفهوم العقل المقيد بأصل معطي سلفا, فإنهم فيما يتعلق بالإنسان جعلوه بلا حول ولاقوة. إذ ليس من فاعلية للإنسان في الخطاب الأشعري, لأنهم يتبنون نظرية الفاعل الأوحد علي الحقيقة, والتي يكون معها البشر مجرد فاعلين بالمجاز; وهي نظرية ذات وظائف وغايات سياسية زاعقة, رغم سعي القائلين بها إلي القول بأن غايتها صيانة التوحيد الخالص. ولعل ما يؤكد علي الدور السياسي لهذه النظرية يأتي- أولا- من تأكيد المعتزلة علي أن الجبر, وهو جوهر هذه النظرية, عقيدة أموية( أي سياسية), كما أنه يتجلي في أنها تمثل, وللمفارقة, تهديدا لنقاء التوحيد. ويظهر هذا التهديد واضحا إذا ما إنتقلنا بهذه النظرية إلي الميدان الإجتماعي; حيث نجد أنها تؤدي إلي نتائج مهددة لنقاء الوحدانية علي نحو كامل. فحين يتحدث الأشاعرة عن أن غلاء الأسعار ورخصها يكون من الله, لأنه هو الذي يخلق رغائب الشراء عند الناس, ويوفر للبعض منهم الدواعي علي الإحتكار. وبالطبع فإن جعل الله قناعا للمحتكرين- علي هذا النحو- لا يمكن أن يكون ناتجا عن الحرص علي نقاء التوحيد, بل إنه يلوث هذا النقاء.
ومن جهة أخري, فإنه إذا كانت عقيدة الجبر تضع الله في مواجهة مع البشر, فإن المواجهة الحقيقية هي بين البشر أنفسهم; الذين يتخذ البعض منهم وضعية الحاكم في مواجهة المحكومين, وما يحدث فقط هو أن الحاكم قد أراد لعلاقته مع المحكوم أن تكون علاقة إكراه وجبر, فما كان منه إلا أن راح يتخفي وراء الله. ومرة أخري, فإن جعل الله قناعا للمتسلط المستبد لا يمكن أن يكون نقاء للتوحيد. لا يتعلق الأمر, إذن, بما يعلنه الأشاعرة من القصد إلي إفراد الله وحده بالفعل, بل يتعلق بما يخفونه من القصد إلي التغطية به( أي الله) علي أفعال الاحتكار والاستبداد وغيرها من أفعال الظلم السياسي والإجتماعي. وأظن أن ذلك ليس من قبيل التوحيد, بل إنه من صميم السياسة...بل إنه يجوز القول انه من قبيل الشرك الصريح. وهكذا يجعلنا الأشاعرة نتعبد الله بموقف سياسي, يقولون عنه إنه التوحيد.
هل لهذا تعمل علي نزع القداسة عما هو غير مقدس ؟
لعلك تندهش عندما تدرك أن الله نفسه كان' يؤنسن' ما يوحي به إلي البشر من علم ومعرفة. وبالطبع فإن ذلك يرتبط بأن قصده من الوحي هو أن يتفاعل معه البشر فهما وتفسيرا. فالهدف هو أن يتحول الوحي إلي فاعلية إيجابية تئول إلي تغيير العالم إلي الأفضل. وإذ' يؤنسن' الله وحيه للبشر- علي هذا النحو- لكي يفهموه, فإن الغريب حقا أن يضفي البشر هالات من القداسة علي ما ينتجوه هم من الأفكار والمذاهب; وعلي النحو الذي راحت معه مذاهب فقهية وعقائدية, تتعالي إلي مقام المقدس الذي لا مجال فيه إلا لمجرد التلقي والقبول بلا اي نقد اوحوار وبالطبع ولذلك لابد من نزع أقنعة التقديس عن تلك المذاهب والأفكار; وذلك عبر فهمها في سياقها التاريخي والمعرفي الذي تبلورت داخله, علي نحو يسمح للعقل بإنتاج معرفة تتجاوب مع التحديات التي يفرضها الواقع.
مذا تعني بأنسنة الوحي ؟
كمثال علي أنسنة الله لمعارفه الموحاة للبشر, دعنا نقرأ إلي قصة النبي موسي مع الخضر التي يبدو فيها النبي عاجزا عن فهم أفعال الخضر( من خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار) إلا حين يتم ردها إلي السياق الذي يجعلها مفهومة. وهكذا يرد الله الأحداث إلي سياقها الأشمل لكي تصبح مفهومة; وبالطبع فإنه لا معني لنزع أقنعة التقديس عن مذاهب ومعارف البشر إلا بردها إلي سياقها الذي تصبح داخله مفهومة.
ونحن لا نفهم ذلك من القرآن, لأننا نكتفي بما قال عنه' ابن كثير' انه' الحمل الحسي' له, وليس' الحمل المعنوي العقلي'. فأي متابع للمشهد الإسلامي يجد أن الغالبية منا لا تحمل القرآن وحده حملا حسيا, بل إننا نحمل ديننا كله هذا الحمل الحسي; حيث تحولت العبادات الي مجرد طقوس شكلية مظهرية, وبات خطابنا مركزا فقط علي قضايا الشكل كالحجاب واللحية والزي, ومتجاهلا لقضايا مثل الاستبداد والاحتكار واغتصاب الحقوق الفردية والجماعية وغيرها. وبالطبع فإن هذا الخطاب الذي يهمل ما يتعرض له الناس من مظالم لا يكف عن مطالبتهم بأن يقابلوا ذلك كله بالطاعة والصبر.
ألا تري أن اتهام الاشعري ابن القرن الرابع الهجري او العاشر الميلادي بانتاج الديكتاتورية في القرن الحادي والعشرين يجافي المنطق والتاريخ؟
دعني أقل مرة أخري أني لست مشغولا بالاشعري( الشخص) بقدر ما أنا مشغول بما أنتجه من خطاب لا تزال له السيادة والهيمنة في الواقع الاسلامي. وحتي حين أتحدث عن هذا الخطاب فإن ما يهمني فيه هو ما أنتجه هذا الخطاب الأشعري من' عقل' لا يعرف إلا أن يفكر وهو يخضع علي الدوام لسلطة ما تقوم خارجه. وإذن فإنه من نوع العقل الخاضع غير المستقل. وبالطبع فإن عقلا كهذا هو ما يؤسس لكل إستبداد وديكتاتورية, لأن الديكتاتورية في الواقع هي فرع علي الديكتاتورية القائمة في العقل. وتبعا لذلك فإنه لن يكون ممكنا تجاوز ديكتاتورية القائمة في الواقع إلا بتفكيك ما يؤسس لها في نظام العقل أولا.
ولكن ما الذي جعل الاشاعرة أباء روحيين للسلطة و الطغيان؟
لا توجد سلطة أو دولة إلا وهي في حاجة إلي عقيدة أو ايديولوجيا تؤسس بها لشرعيتها وقبول الناس لها. وما يجعل سلطة ما تتخذ من عقيدة ما غطاء لها هو مدي ما تقدمه تلك العقيدة لها من الرسوخ والثبات والحماية من كل أشكال المعارضة والتحدي. ولعله يمكن القول انه بقدر ما تكون العقيدة سلطوية بقدر ما لابد أن تكون الأكثر تجاوبا مع طبيعة تلك الدولة التي تسيدت التاريخ السياسي للإسلام; والتي قامت- حسب الكثيرين من الأشاعرة أنفسهم- علي مفاهيم الغلبة والعصبية والشوكة( بحسب تعبيرات الغزالي وابن خلدون). إن سلطة تقوم, هكذا, علي محض' القوة' بكل ما تحمله من معاني الإكراه والعسف والإخضاع, هي في مسيس الحاجة إلي غطاء عقائدي يعمل علي ترسيخ معاني الطاعة والخضوع. وهكذا كانت الأشعرية, بكل ما تئول إليه من تثبيت آليات التلقي والإذعان والخضوع, هي العقيدة الأنسب والأكثر تجاوبا مع معطيات دولة القوة والإكراه التي تسيدت معظم التاريخ الإسلامي. فليس من شك في أن عقيدة تكرس قبول الاحتكار والقتل والغصب من خلال نسبتها لهذه الأفعال إلي الله بما هو فاعلها بحسب نظرية الفاعل الأوحد المشار إليها سلفا, وتنزع الفاعلية عن الإنسان( محكوما), في الوقت الذي تنزع فيه المسئولية عن الإنسان( حاكما), لا يمكن أن يوجد أفضل منها غطاء لدولة' القوة والعصبية' العربية.
كيف تم استنساخ الخطاب الأشعري في المشهد الحالي ؟
يحضر الأشعري في المشهد الراهن بخطابه المتخفي تحت أردية الحداثة الشكلية التي تعرفها المجتمعات العربية, ولكنه يحضر أيضا من خلال حضوره الطاغي في الخطاب السلفي. فقد إستعار إبن تيمية بنية خطابه بأسرها من الأشعري; وبالذات من كتابه الذي أسس فيه طريقته في التفكير' رسالة إلي أهل الثغر' التي يكاد إبن تيمية أن يستعير أفكارها بقاموس مفرداتها. وهكذا يخترق الأشعري- ولست أقول الأشعرية- خطاب السلفية في تجلياته الكلاسيكية والحديثة. إن طريقة استدلال الأشعري بالنص هي ما سيستفيد منه إبن تيمية, وما سوف ينسرب منه بعد ذلك إلي الأتباع المعاصرين. والحق أن العلائق بين المذاهب والأفكار والشخوص داخل الإسلام تحتاج إلي تدقيق يتجاوز التصنيفات الشائعة المستقرة. وفيما يخص إبن تيمية فإنه إذا كان قد أخذ من الأشعري' نصيته' فيما يخص تعامله مع أصول الإسلام, فإنه أضاف إليها' نقديته' فيما يخص تعامله مع أصول اليونان. وإذا كان أتباعه المعاصرون إحتفظوا منه بنصيته, فإن ذلك يعني أنهم إحتفظوا بجانبه الأشعري, وليس النقدي وتلك مفارقة تثير العجب حقا!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.