احتلت مشكلة التراث وجودا بارزا في الفكر العربي المعاصر، وبصفة خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أصبح مفهوم التراث كثير التداول في الأوساط الفكرية العربية، وصار يتردد علي ألسنة معظم المفكرين العرب، من تيارات واتجاهات مختلفة، ولقد تداخل مصطلح التراث تداخلا عميقا مع بعض المصطلحات الأخري، والتي تستخدم أحيانا لكي تعبر عن التراث، أو ترمز إليه، مثل استخدام مصطلح الأصالة لكي يشير إلي التراث، وكذلك مصطلح الخصوصية لكي يشير إلي الملامح الاجتماعية المميزة لكل شعب عن آخر، والتي يعكسها تراث هذا الشعب، مثل عاداته وتقاليده وأعرافه، ويلتحم التراث بمفهوم القومية، وبصفة خاصة مكونات هذه القومية من لغة وتاريخ ودين. حول هذا الإطار كانت دراسة الدكتور أحمد محمد سالم عن "اشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري " والتي تزامن نشرها مع رحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري قبل أسابيع قليلة. وإذا كان مفهوم التراث في الفكر العربي المعاصر، يبدو واحدا من أكثر المفاهيم تجريدا وإثارة للبس والإبهام، فنحن لا نستخدم التراث استخداما واحدا، وبالمعني نفسه دوما، وإنما نستخدمه علي أنحاء متعددة متفاوتة في الدقة والوضوح فهو تارة الماضي بكل بساطة، وتارة العقيدة الدينية نفسها، وتارة الاسلام برمته وعقيدته وحضارته، وتارة التاريخ بكل أبعاده ووجوهه. يعرف الجابري التراث قائلا : إن لفظ التراث قد اكتسي في الخطاب العربي الحديث والمعاصر معني مختلفا ومباينا، إن لم يكن مناقضا، لمعني مرادفه (الميراث) في الاصطلاح القديم، ذلك انه بينما يفيد لفظ (الميراث) التركة التي توزع علي الورثة، أو نصيب كل منهم فيها، أصبح (التراث) يشير اليوم إلي ما هو مشترك بين العرب، أي إلي التركة الفكرية والروحية التي تجمع بينهم لتجعل منهم جميعا خلفا لسلف، هكذا فإن كل الإرث أو الميراث هو عنوان اختفاء الأب، وحلول الابن محله، فإن التراث قد أصبح بالنسبة للوعي العربي المعاصر، عنوانا علي حضور الأب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر...ذلك هو مضمون التراث الحي في النفوس، الحاضر في الوعي. بينما يري حسن حنفي أن التراث ليس مخزونا ماديا في المكتبات، وليس كيانا نظريا مستقلا بذاته، فالأول وجود علي المستوي المادي، والثاني وجود علي المستوي الصوري، فالتراث في الحقيقة مخزون نفسي عند الجماهير، فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق فحسب،الذي ولي وطواه النسيان ولا يزار إلا في المتاحف، ولا ينقب عنه إلا علماء الآثار، بل هو أيضا جزء من الواقع ومكوناته النفسية، مازال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجها لسلوك الجماهير في حياتها . انتقل الباحث الدكتور أحمد محمد سالم إلي موضوع نقد العقل العربي مؤكدا ان حسن حنفي والجابري اتفقا في استخدام مجموعة من المنهجيات، ولم تقتصر علي منهج واحد، فقد كرس حنفي من خلال منهجه الشعوري الاجتماعي مجموعة من الآليات الغربية مثل الفينومينولوجيا، الماركسية والهيجلية، في حين ان الجابري قد كرس البنيوية، والتحليل التاريخي فيما يزعم، والطرح الايديولوجي، غير ان ثمة خلافا واضحا بين كل من المنهج الشعوري الاجتماعي عند حنفي، وبنيوية الجابري، فالأول يضع في اعتباره أهمية الذات، والشعور، والوعي، بل ويري كل موضوعات التراث والثقافة العربية من خلال الذات، ويتم تأويلها كذلك من خلالها، في حين ان المنهج البنيوي يركز علي اللاشعور كمقولة فلسفية تسود أثناء دراسة الموضوعات، ومن ثم فقد أعلنت البنيوية موت الانسان من اجل الدراسة الموضوعية لموضوعات العلوم الانسانية، ورفضت مقولات الشعور واللاوعي، وقد اعلن فوكوه في مؤلفاته (موت الانسان) وذلك حتي يتم البحث عن منطق العلاقات الثابتة التي تحكم دراسة الموضوعات. وفي نقد الغرب كان ثمة اتفاق واضح بين حنفي والجابري، سواء كان هذا النقد عند حنفي في رؤيته علم الاستغراب او نقد الغرب عند الجابري من خلال نقد الاستشراق معا، فقد نقل حنفي عن الغرب الكثير من المعارف وبصفة خاصة البنيوية، ومن ثم فإذا كان كل منهما يسعي سواء في نقده للغرب أو الاستشراق لتحطيم المركزية الأوروبية، إلا ان كلا منهما يكرس هذه المركزية، باتباع نفس آليات الحضارة الغربية واعطائها الأولوية في التعامل مع موضوعات التراث، وانعكست بعض المؤثرات الاستشراقية علي فكر كل منهما، وإذا كان حنفي قد انتقد التيار العلماني والليبرالي، وانتقد الجابري الليبرالية، إلا ان هذا لا يعني رفض كل منهما للعلمانية أو اللليبرالية، إذ إن حنفي يسعي لتأصيل العلمانية داخل التراث العربي، والقول بأن الاسلام دين علماني في جوهره، فهو إذ ينتقد العلمانية، لأنها تسقط التحديث من الخارج، فإن هذا لا يعني رفضه لها، بل يبحث عن تأصيلها تاريخيا في تراثنا القديم، وكذلك الوضع بالنسبة للجابري، والذي ينتقد الليبرالية العربية لأنها تنقل المكتسبات الليبرالية الغربية، دون الوعي بأن هذه المكتسبات وصل اليها الغرب بعد تاريخ طويل، إلا أن هذا لا يعني رفضه لليبرالية ولكنه يذهب إلي القول: بأنه من الضروري تهيئة هذه المكتسبات داخل الأنا، وتأصيلها داخل تراثنا. الموقف من علم الكلام يفضل حسن حنفي تسمية علم الكلام بأصول الدين لأن هذه التسمية تجعله أقرب إلي الواقع، فعلم اصول الدين يحمل بداخله محاولة لإيجاد رؤية عصرية للعقائد، في حين أن علم الكلام هو تاريخ لعلم العقائد، في حين ان الجابري لم يقف عند تحليل أسماء هذا العلم، ولكنه كان كثيرا ما يستخدم تسمية (علم الكلام) . وقد اتفق الجابري وحنفي علي أهمية علم الكلام، والدور الذي لعبه في الحضارة الإسلامية، فقد كان هذا العلم هو الواجهة التي كان يواجه بها المسلمون التيارات الوافدة من البلاد المفتوحة مثل الزنادقة والمانوية، كما ساهم هذا العمل في تشكيل الآليات المعرفية السائدة في الثقافة العربية، وفي سياق آخر يتفق كل من حنفي والجابري علي الدور الذي لعبته المعتزلة في الحضارة الاسلامية، فنجد حنفي ينسب مشروع اليسار الاسلامي إلي المعتزلة،ويقول إن مشروعه لتطوير الفكر الاعتزالي العقلاني في مواجهة الأشعرية، وبالمقابل نجد ان المعتزلة تمثل أنصح صور المعقول العقلي في هذه الحضارة، ولكن الخطأ الذي أدي بها إلي الاندثار والاختفاء هو ربط مصيرها بالحكم، فانتهت بقيام الانقلاب السني في عهد المتوكل، ويري الباحث احمد سالم أن اهتمام كل من حنفي والجابري بقيمة المعتزلة هو جزء من اتجاه عام سائد في الفكر العربي المعاصر . ويضيف الباحث : لقد رأي حنفي في ( استدلال بالشاهد علي الغائب) تأكيدا لوجود الانسان، بل وان الانسان هو الموجود الحقيقي، والله هو الموجود بالمجاز، فالإنسان هو الذي يحمل الصفات، ويضيفها علي الله، وبالتالي يكرس هذا الاستدلال عند حنفي من أجل إثبات وجهة نظره في القول بأولوية الانسان علي الله، في حين يري الجابري عكس ذلك، حيث يؤكد علي أن المتكلمين استخدموا كلمة استدلال وليس كلمة قياس، لأنه في قياس ( الفرع علي الأصل الفقهي) يكون الأشرف هو الأصل وليس الفرع، في حين ان الاستدلال بالشاهد علي الغائب، يؤخذ فيه حكم الشاهد فقط ليطبق علي الغائب، وذلك لأن الغائب أشرف عندهم من الشاهد، وهو مايؤكد القول بأولوية الله علي الإنسان، وإذا كان حنفي يؤكد علي أهمية قول المعتزلة بالحرية الانسانية، وذلك لأن القول بالحرية يؤدي إلي القول بتغييرالمجتمع، وضرورة العمل فيه، وتحمل مسئولية العمل والفعل، فإن الجابري يري أن المعتزلة لم يقولوا بالحرية بالمفهوم المعاصر، فالحرية عند المعتزلة مفهوم ميتافيزيقي كما ان قولهم بالتجويز يهدم أساس نظريتهم في الحرية، وإذا كان حنفي قد سعي في قراءته لعلم الكلام إلي بناء صياغة علمية لهذا العلم تهدف إلي ربط العقيدة بالواقع، وقراءة العقائد بناء علي حاجات الواقع ومشكلاته، فلا قيمة للعقائد إلا بمقدار ما تساهم في تغيير الواقع، وكذلك سعي حنفي إلي البحث عن الانسان والتاريخ داخل موضوعات علم الكلام، وبالمقابل فقد سعي الجابري إلي البحث عن الأساس النظري لعلم الكلام من خلال التركيز علي الكشف عن الآليات المعرفية السائدة في هذا العالم، ألا وهي آليات القياس البياني، والتي تسود عند النحاة، والأصوليين، والمتكلمين. من ناحية اخري اهتم حنفي اهتماما كبيرا بمشكلة الإمامة، وهو يعتبرها أصلا من أصول الدين، علي غير عادة اهل السنة، فالإمامة عنده ترمز للثوره، يقتدي في ذلك بالثورة الإيرانية والتي كان يرمز لها بشخصية الإمام الخوميني، فحنفي يتخذ من الإمام رمزا للثورة وليس قول حنفي بالإمامة دليلا علي قوله بالحاكمية، بقدر ما تجسد الرمز الي الشخصية التي تقود الأمة إلي التغيير والنهضة، وبالمقابل فلم يهتم الجابري بالإمامة في موقفه من العرفان، ولكنه حين تعرض للإمامة، كان يهمه الجوانب المعرفية التي تحكم تصورات الشيعة لها، وكذلك الاهتمام بعلاقة العرفان الشيعي بالعرفان الصوفي، وقد شكلت الآلية المنهجية المستخدمة في مشروعي (التراث والتجديد) و (نقد العقل العربي) الدور الأكبر في صياغة موقف كل من حنفي والجابري من علم الكلام، فنجد ان حنفي من خلال منهجه الشعوري الاجتماعي، تصور العقيدة علي انها بناء شعوري يمكن استخدامه كمخزون نفسي عند الجماهير، ويمكن تغيير هذه الأبنية الشعورية بما يتوافق مع متطلبات العصر، في حين ان الجابري من خلال منهجه البنيوي، سعي إلي قراءة علم الكلام في ضوء علاقته بعلوم اللغة، والعلوم الاسلامية، وحاول البحث عن الثابت البنيوي الذي يحكم هذه العلوم علي اختلاف توجهاتها ألا وهو القياس البياني.