توفي يوم الاثنين الماضي في الدارالبيضاء المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن عمر ناهز خمسة وسبعين عاما, بدأ الجابري تعليمه في( فكيك) شرق المملكة المغربية قبل أن يغادرها الي الدارالبيضاء, وتدرج في تعليمه حتي نال درجة دكتوراه الدولة في الفلسفة عام1970 م, في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط, وتذكر المصادر أن الراحل كان ناشطا في خلايا العمل الوطني ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب في بداية خمسينيات القرن الماضي, كما كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية, قبل اعتزاله العمل السياسي وتفرغه للفكر والكتابة. لم أقابل الجابري سوي مرتين, ومع ذلك شعرت بأن صديقا حميما غادرني, وأن هناك شيئا مهما قد خسرته في مستقبل قراءاتي, لقد خسر الفكر العربي كثيرا بوفاة هذا المفكر الذي ينتمي الي فئة فكرية رفيعة, وقليلة العدد, من المفكرين العرب الذين أثاروا قضايا مهمة كبري جاوزت الجوانب الابستمولوجية في مشروعاتهم, الي اسقاطات حادة علي واقعنا الاجتماعي التاريخي, هذا علي الرغم من الملاحظات, والمؤاخذات المنهجية, التي يمكن ان تسجل علي مجمل مشروعه, خصوصا علي الرغم من اقتناعنا بصحتها, فإنها لاتقوم إلا علي الاعتراف بمنجزه, فقد اجتهد وله علي أقل تقدير أجر اجتهاده. للجابري مؤلفات كان لها تأثيرها القوي علي الواقع الفكري العربي, وترجع أسباب هذا التأثير الي منهجية أعماله, وشيوعها, وإثارتها للجدل بين عموم المثقفين, فضلا عن كثرتها, ألف الجابري في رحلته المعرفية مايزيد علي ثلاثين كتابا, بالاضافة الي عدد كبير من الدراسات الفكرية, والمقالات, ونستطيع في عجالة ان نضع معظم أعماله في ستة اتجاهات أساسية, يمثل الأول الكتابات العلمية الأكاديمية التي تبدأ من أطروحته للدكتوراة في كلية الآداب جامعة محمد الخامس عام1970 م, وعنوانها( علم العمران الخلدوني: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي), وقد صدرت بعنوان( العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي)1971 م, فضلا عما نشره بعد ذلك في كتابه مدخل الي فلسفة العلوم1976 م, وهما عملان يغوصان عميقا في التراث العربي والإسلامي من جهة, وفلسفة العلوم ومناهجها المعاصرة من جهة أخري, وأظن أن هذين الحقلين قد شكلا جناحي الجابري اللذين حلق بهما بعد ذلك في مشروعه الفكري كله, ويجئ كتابه( نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)1980 م, كي يؤكد مرة أخري من عنوانه اهتمام الجابري بالعلاقة بين التراث والمعاصرة, بين السلف العربي والآخر الغربي, أما الاتجاه الثاني في كتابات الجابري فتناول قضايا التعليم في المغرب العربي, وذلك في عدد من كتبه مثل( أضواء علي مشكلة التعليم بالمغرب)1973 م, و(من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية)1977 م, و(السياسات التعليمية في المغرب العربي)1988, وغيرها. أهتم الاتجاه الثالث في أعمال الجابري بتشريح العقلية العربية, من خلال نقده للعقل العربي الذي جاء في ثلاثة أعمال أساسية هي:( تكوين العقل العربي)1984 م,( بنية العقل العربي)1986 م, و(العقل السياسي العربي)1990 م, وقد شهدت هذه الأعمال الثلاثة ذيوعا هائلا بين عموم القراء والمثقفين, وكانت إيذانا بدخول الاجتهاد الفلسفي العربي الي مرحلة جديدة, تتحري فهم التراث من خلال الاختبار والشك, عبر التخلص مما اسماه الجابري القراءة التراثية للتراث, هذا علي الرغم من التجزيئية التي مست منهجه في مواضع كثيرة من أعماله, وللمقال مناسبة لا تسمح بالإفاضة في النقد والتعليق, كما يضم الاتجاه ذاته كتاب الجابري( العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية)2001 م. أولي الجابري بعد ذلك اهتماما خاصا بابن رشد, بدءا بكتابه( المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية, محنة ابن حنبل, ونكبة ابن رشد)1995 م, مرورا بما كتبه من مقدمات تحليلية, وشروح لأعمال ابن رشد التي أشرف علي نشرها في الفترة الممتدة بين1997 1998 م مثل( فصل المقال في تقرير مابين الشريعة والحكمة من الاتصال),( تهافت التهافت), وغيرهما وانتهاء بكتابة( ابن رشد: سيرة وفكر)1998 م. أما الاتجاه الخامس الذي انشغل به الجابري في أعماله, فكان تحليل العلاقة بين الشرق والغرب في ظل الظرف الحضاري المعاصر, وهو اتجاه ظهرت آثاره في خمسة كتب هي( التراث والحداثة: دراسات ومناقشات)1991 م, و(المسألة الثقافية)1994 م, هذا فضلا عن كتبه( مسألة الهوية: العروبة والإسلام, والغرب)1995 م, و(قضايا في الفكر المعاصر: العولمة, صراع الحضارات, العودة الي الأخلاق, التسامح, الديمقراطية ونظام القيم, الفلسفة والمدينة)1997 م. و(التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجا)1997 م. وأنهي الجابري منجزه الفكري باتجاه أخير, حاول فيه تفسير القرآن, وتأويله وتبرير منهجه في ذلك, بداية من كتابه( مدخل الي القرآن)2006 م, وانتهاء بالأقسام الثلاثة لما أسماه( فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول), الذي صدر القسم الأول منه في2008 م. وصدر الثاني في السنة نفسها, أما القسم الثالث فصدر في2009 م وهي من أكثر أعماله التي أثارت لغطا, وتعرض بسببها الي اتهامات بالخروج عن الملة, وبالتكفير. حاول الجابري في مشروعه الأساسي أن يشد معارف الحق الي علوم البرهان في اطار المعقول, وجاوز في مشروعه النقد والتشريح, الي التأسيس والدعوة, متلمسا منهجا لقراءة التاريخ علي نحو معرفي, وأري ان مشروعه الفكري كان ممتدا ورابطا بين سؤالين ملحين, الأول سؤال السلطة, والثاني سؤال النهضة, وهذا مايلقي ببعد سياسي في أعماله, وذلك عند أي اشتباك معرفي مع مشروعه الفكري, فقد كان انتماؤه العروبي, واهتمامه بواقعه السياسي المحلي وثيق الصلة بمشروعه, الأمر الذي مس أحيانا سلامة منهجه, وحيدة موقفه المعرفي, ظل الجابري لصيق تراثه, وربما وقع في أسر ما أراد نقده, لكنه وقف من التراث موقفا تحري فيه أن ينقد عددا من المسلمات السلفية التي اتخذت شكولا صنمية في العقل العربي, وأظنني لا أعدو الحق اذا قلت انه من أكثر المفكرين الذين استفادوا من المناهج النقدية المعاصرة, ومن تراثه العربي الممتد في الآن ذاته, مثل أستاذه الجليل محمد عزيز الحبابي(1922 1993). لقد حاول الجابري عبر مناهج مختلطة, أصابها التلفيق حينا, والتوفيق أحيانا, إعادة قراءة تراثنا الفكري, وتشريحه, وسواء اتفقنا معه في بيانه, وعرفانه, وبرهانه, أو اختلفنا عليه, فانه سيظل حاضرا دائما بفكره, واجتهاده, بعد ان أثارت أعماله, مثل كل عمل مهم, وجديد, رياحا من النقد السلفي المرتد الي الوراء, وقف معها جانب كبير من نظامنا الثقافي التقليدي. كان الجابري ملتزما علي مستوي السلوك السياسي والأخلاقي, فرفض جائزة صدام حسين. ورفض جائزة القذافي, مثلما رفض عضوية الأكاديمية الملكية المغربية, مؤكدا بذلك ان الانسان لا يحاسب علي مايفعله فحسب, بل يثاب علي مالم يفعله أيضا, لقد كانت له مبرراته, ومواقفه التي كشفت عن صدقه مع ذاته, وإخلاصه لأفكاره. اثري الجابري رحمه الله الفكر العربي, وستبقي كتاباته علامة فكرية علي تفوق العقل العربي, وحضوره في مرحلة تاريخيه مازالت تشهد كثيرا من السوء والتردي.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى