من الأسئلة المتكررة في الفلسفة الإسلامية السؤال عن مفهوم العقل العربي-الإسلامي؟ أو بصيغ أخريات: هل هناك عقل عربي، أو إسلامي؟ وما الذي يميزه؟ وهل هو بالمعنى المعرفي الخالص أم الأيديولوجي؟ وإلى أية درجة يمكن تعميمه على العرب أو المسلمين جغرافيًا وتاريخيًا؟ ومن أية علوم يستقَى؟ والمعنيّ بشكل عام بمفهوم "العقل" في تعبير "العقل العربي" أو "العقل الإسلامي" هو الثوابت المنهجية والنظرية معًا، أي كيف يفكر العرب والمسلمون في عمومهم وأغلبهم، وماذا يعتقدون. أما تحديد هذا العقل بالعربي وحده، أو الإسلامي فقط، فهو متعلق بمصادر استقاء معرفتنا بهذا العقل التي يعتمدها الباحث أو المفكر؛ فإذا اعتبرنا العقل السائد بين العرب (في الدول العربية) مثلاً قائمًا على عادات وتقاليد وظروف المجتمع العربي السائدة منذ ما قبل الإسلام، فإنه عقل عربي، أما إذا اعتبرنا الإسلام بداية جديدة نسخت ما قبلها واقعيًا، فإنه عقل إسلامي. والدقة أن يقال: العقل العربي-الإسلامي، نظرًا لتداخل المصدرين: العروبة والإسلام، في نشأة العقلية السائدة وارتقائها. ويُنسب العقل العربي كمفهوم إلى المفكر المغربي محمد عابد الجابري، في رباعيته: "نقد العقل العربي". في حين استعمل المفكر الجزائري الشهير محمد أركون تعبير العقل الإسلامي. وقد حاول الجابري في رباعيته المذكورة تطوير آخر ما وصل إليه المفكر السوري أدونيس في أطروحته للدكتوراه "الثابت والمتحول-1973″. فقد وجد الجابري أن أدونيس حاول التوصل بمنهج بنيوي معلَن إلى ثوابت العقلية العربية، وهو ما يكشف عنه جزئيًا العنوان الفرعي للأطروحة "بحث في الاتباع والإبداع عند العرب"، لكن أدونيس لم يستعمل المنهج البنيوي بصرامة منهجية، وإنما اعتمد أساسًا على المادية التاريخية. ومن هنا حاول الجابري إعادة المحاولة مع الاحتفاظ الكامل بالبنيوية كمنهج. أي أن الجابري حاول التوصل إلى البنية الثابتة نسبيًا التي للعقل العربي، من حيث المنهج المعرفي ومن حيث محتوى المعرفة، أي المنهج والنظرية، معًا، ومن هنا بدأ مفهوم العقل العربي، ومجال دراسته، يغزوان الفكر العربي المعاصر. وقد عاب محاولة الجابري عدم عمق بحثه في العلوم الإسلامية، ومنها أصول الفقه، الذي هو تأسيس منهجي لقراءة النص، وتأسيس نظري لنظرية القيمة عند المسلمين. صحيح أنه توقف عند أعمال ابن حزم والشاطبي مثلاً، لكن علم أصول الفقه-وسواه من العلوم الإسلامية-لا يمكن التعرض له باقتطاع نماذج منه، مما يغفل التطور التاريخي لهذه النماذج، كما يغفل علاقاتها البنيوية بغيرها من المذاهب. ويبقى السؤال: هل هناك ثوابت في العقلية العربية من حيث هي ثوابت؟ أم هل تتداخل المناهج والنظريات في كل جدلي يحدث فيه تبادل التأثير في ظاهرة أكثر تعقيدًا من هذه المحاولة التي تبحث عن الأصول لما هو فروع، بينما تتداخل في التأثير كل من الأصول والفروع؟ وقد وجدت-بسبب هذا السؤال الذي ظهر أحيانًا وبطن أحيانًا-محاولات أخرى نقيضة، ترى العقل العربي أو الإسلامي نهرًا سيارًا لا ثابت فيه. وتم بحثه لهذا بالمناهج الجدلية. وأهم هذه المحاولات "التراث والتجديد" لحسن حنفي. ومشكلة هذه المحاولة الأخيرة أنها لم تتوقف عند المفاهيم والنظريات والمناهج المؤسِّسة للعقلية السائدة، منهجيًا ونظريًا. وفعلاً فالمتابع لأعمال حسن حنفي يجد (آلية) للتجديد (منطق التجديد اللغوي، مستوى التحليل الشعوري، تغيير البيئة الثقافية)، ونظرية لقراءة النص (التفسيرية الظاهراتية)، ونظرية عامة للشعور (أو الوعي) في الإسلام (نظرية الوعي الثلاثي: التاريخي، النظري، العملي)، لكنه لا يجد تلك الثوابت المنهجية والنظرية على حال التعيين والدقة. إن مشروع حنفي على أية حال مشروع للتغيير، في حين كانت مشاريع أدونيس والجابري وأركون ونصر أبو زيد مشاريعَ للتفسير. ولكن رغم صعوبة موضوع البحث فإن على المفكرين أن يبذلوا الجهد الأقصى في استقصاء هذه الأصول، اعتمادًا على عدة مناهج، أهمها البنيوي والتاريخي، معًا، من أجل عدم إغفال أي من الثوابت أو المتحولات. ولا يمكن بحث العقل العربي-الإسلامي بمعزل عن الدراسة الشاملة للعلوم الإسلامية الأهم، التي سبقت الإشارة لها في مقالات سابقة: أصول الدين، وأصول الفقه، والتصوف، والتفسير. والمقصود بالدراسة الشاملة تتبع التطور التاريخي لمفاهيم ونظريات ومناهج العلم منذ نشأته حتى اليوم، وملاحظة الظواهر النظرية الثابتة نسبيًا، والمفاهيم الأساسية.