ربما لا يكون الداعي قويًّا إلى إبراز هذه المواجهة التي حدثت بين ابن باجة ومناوئيه من الفقهاء في زمانه، فلقد أصبح الحديث بهذا الصدد مكرورًا، مما قد يبعث على السأم، لكن الداعي القوي الذي لا يستطيع أن يغالبه باحث في سيرة ابن باجة وفلسفته وآثاره العلمية، هو ذلك الصراع الذي عانى منه الرجل بسبب قناعته أن يستمر وزيرًا لدى أبي بكر بن إبراهيم والي مرسين وسرقسطة إبان حكم دولة المرابطين، وما يتيحه ذلك من إمكانية تطبيق لمقترحاته وأفكاره في السياسة والأخلاق، ونحوه الذي نحاه بشأن المدينة الفاضلة، متجاوزًا أفلاطون والفارابي إذ رأى ابن باجة أن "القضايا الاجتماعية وخصوصًا الأخلاقية منها ليست مستمدّة من أوامر الدين والنواهي التي يقول بها، ولا حتّى من قوانين المجتمع والدولة، بل هي مبنية على التفكير ومستمدّة مباشرة من العقل". وكان هذا الرأي مخالفًا لكل ما يروج من أفكار في هذا الوقت بهذا الخصوص، إذ عُدَّ الشرع أساسًا للقيم والأخلاق الاجتماعية، وبالقطع فإن هذا الرأي كان كافيًّا وحده بأن يُنعت صاحبه بالزندقة والإلحاد من قِبَل فقهاء عصره الذين أرادوا أن يخضعوا الحياة بما تعتمل به من متغيرات لأهوائهم، ولما جبلوا عليه من جمود وبغض لإعمال العقل. ونعود إلى النقطة التي انطلقنا منها، وهي ما عاناه ابن باجة من تمزق داخلي؛ بسبب ما كان يعتقده من أفكار ورؤى فلسفية تتصادم كليًّا مع واقعه، وهو إن رأى إعلانها أو التصريح بها، فمعنى ذلك أن يضطهد أو يبعد أو تخمد أفكاره إلى الأبد، وبالقطع فإن سبيله إلى محاولة تحقيقها سيندرس بالكلية، فماذا هو فاعل؟ مارس ابن باجة شيئًا من المداراة في آرائه المعلنة التي كانت تتوافق وما يعتقده الحاكم الذي استوزره، بينما كانت قناعاته تتسلل عبر كتاباته الفلسفية، بأساليب لا تخلو من تحايل، وهو ما يعكس أزمة ذلك الفيلسوف الذي عُدَّ من قِبَل الكثيرين فيلسوف الأندلس الأول، وقد أفاد منه ابن رشد كثيرًا إذا أسس لفلسفته بقيمتين أساسيتين لم يسبقه إليهما أحد، أولاهما أنه بنى الفلسفة العقلية على أسس الرياضيات والطبيعيات فنزع عن الفلسفة الإسلامية سيطرة الجدل، وخلع عليها لباس العلم، وثانيتهما أنه أول فيلسوف في الإسلام فصل بين الدين والفلسفة في البحث، وانصرف إلى العقل، وبالقطع فإن ذلك قد فتح عليه بابًا من أبواب الجحيم. ولعل ابن باجة قد أهدى إلينا بنموذجه هذا تفسيرًا لأزمة المثقف الذي لا يستطيع أن يحل تلك الإشكالية بين طوقه، للتفكير بحرية مطلقة بعيدًا عما يفرضه الواقع من اعتبارات، ومسؤوليته حيال مجتمعه الذي يطمح أن تنفذ إليه أفكاره ورؤاه؛ فتدفعه نحو التقدم والنهوض، تلك الحالة الحرجة التي ربما لا يحافظ عليها باتزان حقيقي كثير من مثقفي هذا العصر، فتراهم يدجنون في حظائر السلطة بالكلية، أو أنهم يؤثرون الانزواء بعيدًا، مكتفين بتعاطي الأفكار والأطروحات الفلسفية الخاصة بهم، أما أندرهم فهم من يرون في الصدام مع السلطة الاستبدادية وتثوير المجتمعات ضدها حلًّا لا بديل عنه. وعلى الرغم من محاذرته، وحرصه ابتداء على عدم المواجهة المباشرة مع من جعلوا من أنفسهم حراسًا للعقيدة الإسلامية وحماة لها،إلَّا أن ذلك لم يمنع من تعرضه لعدة محاولات للاغتيال من قِبَل هؤلاء الذين جعلوا دين الله سلعة يأكلون بها، حتى نجحوا في قتله بالسم، وهو بعد في الثالثة والأربعين من عمره وكان ذلك بفاس ببلاد المغرب نحو عام1138م. وعلى قصر عمره فقد ترك الرجل مؤلفات وصلت عددًا إلى نحو المائة بين كتاب ورسالة ضاع منها الكثير، لكن بقي منها ما يكفي لإعطاء فكرة حقيقية عن فلسفته، وتشكّل كتب تدبير المتوحد، ورسالة الوداع، ورسالة الاتصال أبرز المؤلفات التي يشرح فيها فلسفته وتأملاته. وقد قال عنه ابن طفيل: لم يُخلق أثقب ذهنًا ولا أصحّ نظرًا ولا أصدق روية من أبي بكر الصائغ الملقب بابن باجة. وقد شدد ابن باجة على أهمية العقل، بل رفعه إلى مرتبة القداسة وجعله العنصر الحاسم في خيارات الإنسان واختياراته، والمصدر الأساس الذي تتوقف عليه سعادة الإنسان، فيقول في هذا الأمر موضحًا في تدبير المتوحد: ولما كانت الأفعال الإنسانية هي الاختيارية كان كل فعل من أفعال هذه القوى يمكن أن يكون للناطقة فيها مدخل. والنظام والترتيب في أفعال الإنسان إنما هو من أجل الناطقة، وهما للناطقة من أجل الغاية، التي جرت العادة أن يقال لها العافية والسعادة.. وكل ما يوجد للإنسان بالطبع ويختص به من الأفعال فهو باختيار. وكلّ فعل يوجد للإنسان باختياره فلا يوجد لغيره من أنواع الأجسام، والأفعال الإنسانية الخاصة به هي ما تكون باختيار، فكل فعل إنسانيّ هو فعل باختيار. وأعني بالاختيار الإرادة الكائنة عن روية، أمّا الإلهامات والإلقاء في الروع وبالجملة الانفعالات العقلية إن جاز أن يكون في العقل انفعال يشارك الإنسان فإنّ الإنسان مختص بها. وإنما احتيج إلى اشتراط الاختيار في الأفعال التي من جهة النفس البهيمية، فإنّ الحيوان غير الناطق إنما يتقدم فعله ما يحدث في النفس البهيمية من أفعال". كما يذهب ابن باجة بخصوص العقل إلى أبعد من ذلك إذ قال بخلود العقل والصور العقلانية من جهة، وفساد كلّ خصائص الإنسان الأخرى بما فيها الصور الجسمانية والروحية من جهة أخرى. كما كان لابن باجة إسهامه المهم في نظرية المعرفة، إذ حصرت من قِبَل التقليدين في زمانه، بالإلهيات والروحانيات، بينما قال هو بالمبادئ الفلسفية التي تفترض أنّ العقل هو وحده مصدر المعرفة الإنسانية، وهو الذي يحقّق الإنسان بواسطته كماله الطبيعي، بل إن سائر الأفعال الإنسانية والقيم والفضائل ليست سوى وسيلة وآلة في خدمة هذا العقل وترجمة لأفعاله. ولإعطاء هذا العلم موقعه الذي يستحقّ، يرى ابن باجة ضرورة أن يكون بعيدًا عن المادة للوصول إلى مرتبة العقل المستفاد، حيث يقول في رسالة الوداع:فلأنّه واحد من كلّ جهة، فهو في غاية البعد عن المادة. لا يلحقه التضادّ كما يلحق الطبيعة، ولا العمل عن التضاد كالنفس البهيمة، ولا يرى التضادّ كالناطقة. فهو أبدًا واحد أو على سنن واحدة، في لذّة فرح وبهاء وسرور. كما اعتبر أنّ من يدرك هذه المرتبة من العلم يكون قد ظفر برضى الله ونعمته، إذ ليس أحبّ عند الله من هذا العقل، وإثباتًا لذلك يستشهد بما جاء في بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى"… وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (7)آل عمران، وقوله سبحانه"… إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فاطر. كما يستشهد ببعض الأحاديث النبوية لتأكيد أهمّية العقل ولدحض رأي الفقهاء الذين يشنّون الحملات ضدّ الفلاسفة، فيقول:"خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر. فقال وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقًا أحبّ إليّ منك". لقد انتصر ابن باجة في ذاته للفيلسوف وانحاز بالكلية إلى ما اعتقده من أفكار، ورأى أن مواجهة من جعلوا الدين والإيمان حكرًا عليهم مواجهة واجبة، كما أنه وصل يقينًا إلى أن عليه أن يدفع راضيًا ثمن اختياره مهما كان فادحًا.. رحم الله ابن باجة الفيلسوف المنتصر للعقل والحقيقة.