للفكر العربي المعاصر (أو الحديث) خصائص محددة، تجمع عن طريق عناصر منهجية ومفاهيمية وموضوعاتية معينة بين اتجاهاته ومشروعاته المتباينة. وقد يمكن إجمال هذه الخصائص في التالي: 1-الخصائص المنهجية: أو ما عرفناه سابقًا بعنوان (منهج الحفر الأيديولوجي) وهو يعني باختصار قيام المفكر العربي المعاصر بتوظيف التراث توظيفًا أيديولوجيًا سلبيًا، أي أنه قد لا يدعو إلى أيديولوجيا واضحة بشكل إيجابي، لكنه قد يحارب الآخر الأيديولوجي المعاصر تراثيًا عن طريق هذا المنهج. ويقوم هذا المنهج على انتقاء نموذج معين من التراث، كالأشاعرة أو ابن رشد أو المعتزلة مثلاً، ثم يعيد بناءه، فيعيد وصف هذا النموذج بناء على ظروف تاريخية-سياسية-اجتماعية منتقاة بدورها لإثبات دور معين لهذا النموذج، ثم يوجه النقد في النهاية لهذا النموذج المعاد بناؤه أو اكتشافه على أساس كونه اتجاهًا مغرِضًا مدفوعًا من قبل دولة أو طبقة اجتماعية، وهو ما يسحب البساط تحت أرجل الخصم المعاصر الذي هو امتداد لهذا النموذج إلى اليوم. وقد استعمل أغلب المفكرين العرب المعاصرين هذا المنهج منذ أدونيس (أي في مرحلة مشروعات قراءة التراث النقدية وما بعدها)، فقد استعمله أدونيس ثم الجابري (بشكل طفيف) ثم الطيب تيزيني، ونصر أبو زيد، وعبد المجيد الصغير، وعلي مبروك، وغيرهم. 2-الخصائص الموضوعاتية: أي التيمات التي انشغل بها هذا الفكر، وعلى رأسها التراث والحداثة، والتحول، والتحديث، والثورة، والنهضة، وكشف المسكوت عنه، وإسقاط أحجبة التقديس. وقد نمت هذه التيمات في إطارين: الأول هو الاستقطاب العلماني/الإسلامي، والثاني هو النقد الارتيابي، أي اعتبار الظاهرة الفكرية قناعًا تتخفى وراءه السلطة أو القوة، وهو اتجاه نقدي فرويدي-نيتشوي-ماركسي شهير، وإن كان المؤثر الأساسي غالبًا هو ماركس واليسار الجديد. 3-البناء المشروعاتي: وهو إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي بشكل منهجي، تاريخيًا ونسقيًا، من أجل تفكيكه وإعادة تأويله، أو تفعيله واقعيًا. وهي خصيصة ظهرت مبدئيًا عند أدونيس، في السبعينات، ووصلت إلى ذروتها عند حنفي والجابري وتيزيني في الثمانينات، ثم بدأت بنية المشروع تنحل في التسعينات وما تلاها، وأصبح المفكر يركز على قضية محددة، كالنص، أو السلطة، أو المرأة، أو علم ما من العلوم الإسلامية. بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ثم في مصر عام 2011 ثم انتشارها، وهو ما يذكر العالَم بربيع الأمم، أو ثورات 1848 في أوروبا وأمريكا الجنوبية أساسًا، ظهر سؤال: إلى أي حد أدى أو ساعد الفكر العربي المعاصر على قيام هذه الثورات؟ وهو سؤال قد يُطرح بغرض بلاغي هو النفي المطلق أو النسبي، فالمشروعات الفكرية العربية ظلت معزولة عن جمهورها، ولم يتوقع مفكروها أن تؤتي ثمارها في بضع سنين على أية حال، وإنما من خلال عمل أجيال لم يكتمل بعد. الأمر الذي دعا البعض إلى وضع التثوير منفصلاً عن التنوير أو سابقًا عليه في أفضل الأحوال في السياق العربي المعاصر. فالثورات العربية لم تقم على أفكار المفكرين العرب المعاصرين ولا التيارات العلمانية ولا الجماعات الإسلامية، وإنما قامت بها نخب غير مسيسة في أغلبها، أو مختلفة ومتناقضة سياسيًا جمعتها قضية واحدة ضد الظلم والاستبداد، تبعتها الجماهير بشكل عفوي، ثم انفضت عنها بالعفوية نفسها! فاستغلت الثورات المضادة هذا الوضع، خاصة في مصر. لكن السؤال الأكثر طموحًا وجِدة: إلى أي حد سيؤدي الربيع العربي إلى ما بعد الفكر العربي الحديث؟ وهو سؤال تستلزم إجابته فحص الخصائص الثلاث سابقة الذكر من حيث ما طرأ وما سيطرأ عليها من متغيرات، وأهم هذه المتغيرات هي نشأة جيل ثوري يعرف بالتجربة التاريخية الواقعية الدامية أن الاستقطاب الإسلامي/العلماني والطائفي كان أخطر سلاح في يد الثورة المضادة، وهذا الجيل، الذي ربّته ميادين الثورة، لديه إشكالات وسياق فكري مختلف يتحرك فيه، ويظهر فيه سؤال الواقع بشكل مباشر، بينما يختفي إلى حد كبير فيه سؤال الأيديولوجيا، سواء كانت حداثية غربية أو تراثية، مما يعني تجاوز سؤال الموروث والوافد أو التراث والحداثة الأساسي الذي تحرك فيه الفكر العربي المعاصر بأسره.سيبرز سؤال الواقع: المشكلات الاقتصادية، وحقوق الإنسان، وإعادة هيكلة الأجهزة الحاكمة، وبنية النظام، وكيف يستمر، ومتى يسقط، ودور المؤسسات المدنية.. إلخ، وبالتالي سيتجاوز الفكر في المرحلة القادمة منهج الحفر الأيديولوجي، وإطاري الاستقطابوالنقد الارتيابي كليهما، ثم يتجاوز فكرة المشروعات النسقية؛ لأن النسق المسبق (التراث) أصبح أقل أهمية أمام أزمة الواقع الثائر، سواء ثورة أصلية أو ثورة مضادة. في النهاية نحن أمام جيل جديد يدشن لعهد ما بعد الفكر العربي الحديث.