تزامنت الماركسية مع أغلب فترة الفكر العربي المعاصر الممتد لقرنين من الزمان حتى اليوم. وقد كان لها تأثير هائل، منهجيًا ومذهبيًا، سلبًا وإيجابًا، على مواقف ومعالجات المفكرين العرب المعاصرين (يقتصر هذا المقال على المواقف غير السلبية من الماركسية). والمطلع على أفكار مفكر عربي مبكر كالأفغاني أو عبد الرحمن الكواكبي لواجد فيها توجهًا واضحًا نحو الاشتراكية، بل وحتى لدى الإخوان المسلمين، برسائل حسن البنا، وبعض مؤلفات سيد قطب الشهيرة، مثل "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، و"معركة الإسلام والرأسمالية"، و"الإسلام والسلام العالمي"، غير أنها لم تكن اشتراكية ماركسية بحال، غير أن النزعات الماركسية الخالصة ظهرت فيما بعد مع الإلمام الكامل بأفكار ماركس، وإنجلز، ولينين، وستالين، وتروتسكي، وماو تسي تونج، وروزا لوكسمبرج، وليبكنشت، وكاوتسكي، وبرنشتاين، وجورج بليخانوف، ثم اليسار الجديد أو مدرسة فرانكفورت فيما بعد، ونسويات مثلا كلارا زيتكين، وأدباء مثل ويلز، وجوركي، وبرنارد شو، وموسيقيين مثل فاجنر؛ وغيرهم، بل وسارتر في مرحلة الستينات في المركب الوجودي-الماركسي الشهير في "نقد العقل الجدلي"، لتشكل توجهات محددة يمكن تسميتها توجهات ماركسية خالصة أو جذرية (أرثوذكسية) وذلك بالنسبة لما تلاها من محاولات أكثر تحررًا من المذهب؛ فالفكر العربي المعاصر بعد أواخر الستينات، وتحديدًا بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل، وظهور فشل القومية العربية، والاشتراكية، والعلمنة العسكرية، والتغيير الانقلابي، بدأ تحوله الشهير في اتجاه اكتشاف الأسباب المثالية (الفكرية غير الاجتماعية) للفشل. وصار السؤال: ما عوامل الفشل في العقلية العربية، وليس فقط في المجتمع العربي؟ وهو الذي مهد الطريق لظهور واستعمال مصطلح العقل العربي عند الجابري، والوعي (أو الشعور) الإسلامي عند حسن حنفي، والعقل الإسلامي عند أركون، وبقية محاولات تحليل ووصف العقلية العربية عند أصحاب المشروعات الفكرية العربية المعاصرة، بل وأهّل الشعر العربي لدخول مرحلة الحداثة السبعينية التي حاولت تفكيك وبناء وعي جديد عند المتلقي، بعد مرحلة الواقعية الخمسينية والستينية، التي حولت المتلقي إلى مستقبِل سالب. ولهذا فإن مسار تأثير الماركسية في الفكر العربي المعاصر معقد، ويحتاج إلى مشروع بحثي كامل لوصفه، وتتبع مراحله المختلفة، وبرغم هذا يمكن تقديم وصف أوّلي لعلاقة الماركسية بالفكر العربي المعاصر في مراحل ثلاث: أولاً: المرحلة المذهبية-المنهجية: وهي التي مثلها على سبيل المثال سلامة موسى ولويس عوض في مصر، وهي مرحلة الاعتقاد في الماركسية كمذهب للتغيير الاجتماعي، وفيها كمنهج لتحليل مكونات البنية الفوقية كالسياسة والقانون والأخلاق والفن.. إلخ. ثانيًا: المرحلة المنهجية: وهي التي مثلها عدد أكبر من المفكرين، وأعمال أثقل وأشمل من إنتاجهم، كحسين مروة، وجانب من أعمال حسن حنفي، وأدونيس، ونصر أبو زيد، والطيب تيزيني. ففي هذه الأعمال مثلاً ظهرت الماركسية كمنهج لتحليل عناصر البنية الفوقية (التراث العربي-الإسلامي) فقط، وذلك بمحاولة ردها إلى عناصر تحتية اقتصادية سياسية اجتماعية. يظهر هذا في "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" لحسين مروة بأكبر درجة من الوضوح، كذلك قراءة أدونيس للتراث العربي الإسلامي في إطار مادي-تاريخي واضح في "الثابت والمتحول"، وكذلك تأويل المذهب الشافعي تأويلاً ماديًا تاريخيًا برده إلى الصراع الاجتماعي-السياسي الدائر آنذاك بين العرب والفرس في "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" لنصر أبو زيد، ومن الواضح أن حسن حنفي قد استعمل المادية التاريخية مرارًا لتحليل الصراع السني-الشيعي، والأشعري-الاعتزالي، والصوفي-الأصولي، والعقلي-النقلي، والتأويلي-التنزيلي، وذلك في أعماله المختلفة. وقد كانت هذه المرحلة هي الأكبر كمًا في تاريخ الفكر العربي المعاصر على مستوى الإنتاج النسقي، وبالتالي يمكن تحصيل نتيجة أن تأثير الماركسية الأكبر في هذا الفكر كان منهجيًا أكثر منه مذهبيًا. ثالثًا: المرحلة التأويلية (اليسار الإسلامي): خطا الفكر العربي المعاصر في هذه المرحلة خطوة مختلفة أبعد طموحًا وأكثر جرأة، فلم يتوقف عند مرحلة التسليم السهل بماركسية أوروبية أو سوفيتية أو صينية الصناعة، كما لم يتوقف عند حد اكتشاف العوامل المادية التي تحكمت في نشأة وارتقاء نظريات ومناهج التراث الإسلامي، بل حاول تحويل العلوم الإسلامية نفسها إلى أيديولوجيات ماركسية. والمفكر الأساسي على مستوى العالم الذي نظّر لهذه المرحلة هو حسن حنفي. ولكن مساحة اليسار الإسلامي (كما أسماه حنفي) عريضة تمتد من إندونيسيا شرقًا إلى المغرب الإسلامي، مرورًا بإيران والشام ومصر والسودان. ماركس ، الفكر العربي ، حسن حنفي