كم من خيبة أمل عنوانها هو الضعف، ليس ضعفا مصريا بمعناه المادي الضيق، لكنه ضعف معنوي إنساني عام يسود ويتسيد في المنحدرات، فتتجرد معه النخوة من آخر وأعز ما تملك من معنى وقيمة وجوهر، وتُرفع خلف أستاره أجهزة التنفس عن الكرامة الإنسانية "الميتة إكلينيكيا"، وتصبح مساندة قيم الحق والعدل والدفاع عن الأرض والعرض مجرد هذيان وهلوسة، هذا إذا افترضنا أن حسن النية ما يزال يعتمر في نفوس البعض، ولم يختلط الدم بالماء أو البترودولار فيصبح الدفاع عن تلك القيم خيانة وعمالة وتآمرا. أذكر يوم اصطفافي في طابور طويل بإحدى المصالح الحكومية انتظارا لإنهاء بعض المعاملات الحكومية، يومها لمحت عجوزا سبعينيا يتصبب عرقا وتهن قدماه على حمله، فقررت أن أتجاسر أتخذ زمام المبادرة واستميح شابا العذر في أن يقف هذا العجوز أمام الشباك وأن يقدمه لانهاء المعاملة، لكن حدث أن ثار أحد المصطفين بالطابور واتهمني أغرب تهمة في التاريخ، وهي انني ادبر مؤامرة لتخطي الواقفين وتخليص والدي العجوز، انتظرت أن يؤازرني مواطنا ممن حضروا الواقعة، لكن هول المفاجأة الأكبر كان نظرات ضعف وبلاهة في الأعين تكاد تتهمني بالجنون أو أنني قادم من كوكب آخر، المضحك أن المصلحة الحكومية كتبت على الشباك لافتة عريضة بان الشباك محل الواقعة قد تم تخصيصه لكبار السن!! انه الضعف لا شك.. الضعفاء لا يمكن أن يكونوا مخلصين، لكن الضعف هذه المرة كان قد استبد بهذا الطابور، وربما تنتقل عدواه لآلاف الطوابير التي تشاطره موقفه المخزي، ضعف أحال الإخلاص للكثير من قيم المجتمع المصري الأصيلة الى التقاعد، ليس في نصرة هذا المسن المسكين فقط، لكن أيضا أمام حالات تحرش رأيتها بالعين المجردة، تصرخ فيها بناتنا من أصابع ضباع جائعة في الشوارع والطرقات، فلا تجد سوى مجتمع أصابه الصمم والبكم بعد أن تقاعد ضميره، أو لنغمة عامة تنعت أطفال الشوارع ب"البلطجية"، ليتبرع أحد كتبة الزمان بمقال ملفق يدعي على البرازيل كذبًا بإبادة هؤلاء الضحايا كفاتورة دموية لنهضتها. لا داع أن نتساءل إذن عن السر وراء عدم مؤازرة غزة بمليونية بشرية تدين شلالات الدماء التي تنفجر فيها، أو أن يتطلع نساء وأطفال وعجائز فلسطين الى كلمة عزاء ومواساة مصرية في عداد مجازرهم اليومية، أو أن يطمع بني غزة في أكثر من الصمت ان لم يكن تحمل عناء الشماتة والسخرية، أو أن تلقى مقاومة المحتل عنتًا من أشقاء الأرض والقدر والمصير، فقد أكل الجسد إصبعه قبل أن يأكله الثور الأبيض، واستنزفت سهام المجد في السخرية من نساء وعجائز وبنات مصر، وأصبحوا هم الضحايا والجناة في كل الأحوال، وعجز النظام القائم عن توفير الحماية لهم، ومع الضعف ومتلازمته من عدم الإخلاص للقيم الإنسانية الأساسية، يصبح حتى المثل الشعبي الدارج (اللي يجوز للبيت يحرم على الجامع) قد فقد صلاحيته، لأن البيت فارغ والجامع مقصوف. (فلسطين أولا) قالها المفكر الكبير الدكتور جمال حمدان، لكن الإعلامي توفيق عكاشة كان له رأي آخر حين قال (ما تتحرق غزة على اللي فيها)، لا بأس ففي لحظات اضمحلال الحضارات الإنسانية ما يؤكد تضاؤل نفوذ الحكماء وتفشي السفالة السياسية؛ حيث تروي حكايات أثينا الإغريقية توارى سقراط ليفسح المسرح لمهرجين سياسيين سيطروا على المشهد، لكن خطورة عصرنا وما تشهده مصرنا هو تبخر حكمة سقراط وبعد نظر حمدان، حتى بات المهرجون يمارسون عبثا ممنهجا بالوعي والضمير المصري على مدى زمني طويل وبتأثير تراكمي، ولا يطيحون فقط برصيد مصر التاريخي مع القضية الفلسطينية، بل يزيفون رصيدا إنسانيا وقيميا زاخرا ارتبط بالمجتمع المصري، ويهدد نفاده بالتفكك والفوضى والتقسيم، وهذا أخطر ما نواجهه في حرب التدمير الذاتي اليوم. لا شك في أن مصر (أم الدنيا) ستظل أسيرة للحظات الاضمحلال لفترة من الزمن، فتأثير مخدر (كامب ديفيد) المدمر والمستقر كان من القوة بحيث شل القومية والعروبة والأخلاق والضمير، وخلف مجتمعا متفككا يئن تحت تأثير لقاحات التخلف والفقر والنهب والجريمة والإرهاب، والى أن يتعافى الجسد من تأثير هذا المخدر وأعراضه الجانبية، فستظل مصر تقف على قارعة الطريق في ارتباك مميت، تتلفت يمينا ويسارا ولا تدري مقدار ساعات الانتظار أو موعد العبور وشروطه وأسبابه، وحين يتخلص الجسد الضخم من علله وأمراضه سينتفض ليبهر العالم بتقدمه ورفاة أبنائه، ولن يجد من تلك الرفاة منفذا يمد اليد لاصدقاء خليجيون يتصدقون، أو منة مسلحة من عدو يساوي بين مكافحة الإرهاب في مصر ومقاومة الصهيوني في غزة.