نشأت فكرة الديمقراطية في اليونان نتيجة ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية, حيث فرضتت مشكلة الانسان علي التفكير الفلسفي بعد انشغالهم لفترة طويلة بمشكلة الطبيعة, وذلك لدواعي أهمها بداية الفصل بين الطبيعة والمجتمع, ومن ثم بدأ التركيز علي النظام الاجتماعي والاقتصادي بدلا من النظام الكوني. وظهر السوفسطائيون كنتيجة منطقية لهذه التغييرات علي الصعيد السياسي عقب هزيمة حربية أمام اسبرطة, مما دعي إلي ضرورة اعادة الحسابات, وظهرت الدعوات إلي نظام جديد يستوعب جموع الشعب اعتقادا في وجود كفاءات في قلب الشعب قادرة علي التغيير, ولكن من ناحية أخري احتاج هذا الأمر إلي التعليم أو' التثقيف السياسي', فالسياسي يحتاج إلي جملة من الثقافات أو المؤهلات لمباشرة العمل السياسي مثل دراسة القانون واللغة والتدريب علي الخطابة للتأثير في الجماهير, فلنسأل ماذا يحتاج سياسي اليوم؟. ولما كان التعليم الجماعي غير متاح في ذاك الزمان فأصبح كل فرد يري في نفسه الامكانيات يبحث عن معلم يؤهله الخوض في مجال السياسة, ومن حسن الحظ حدثت تغييرات اقتصادية أتاحت إلي تزايد التعليم الفردي, اذ انتصرت أثينا علي الفرس بحريا, فتم تحويل بعض قطع الأسطول إلي سفن تجارية جابت البحار شرقا وغربا, وجلب هذا الأسطول التجاري رواجا كبيرا, أدي إلي تحقق الترف الاقتصادي, وفي هذا المناخ قدم بروتاجوراس الفيلسوف السوفسطائي الأبرز عبارة دالة' إن الانسان هو مقياس الاشياء', وبها فتح أفقا جديدا مفاده أن' التغيير والنسبية' هما المنطق الحاكم لكل شئ في الحياة, وهذا بدوره مسوغ لقبول تعارض الأحكام, ومن ثم نقطة بدء التنوير وممارسة الديمقراطية. وفي المقابل لهذه الوجهة من النظر, قدم سقراط الذي يمتهن نفس مهنة التعليم ولكن بغير أجر, علي خلاف السوفسطائيين, وإنما اعتمد الحوار منهجا, لأن سقراط كان مهموما بأن يكتشف من هو الذي يدعي الحكمة وهو ليس كذلك, ومن خلال الاكتشاف الذي يقوم به علي نحو جميل, حيث يدعي الجهل لمحاوره ويظهر له رغبته في التعلم من حكمته التي يفتقر إليها, وببساطة قدم للإنسانية' العبارة الخريطة' والخطيرة, في شعارين هما: أيها الانسان أعرف نفسك بنفسك, والعلم فضيلة والجهل رزيلة', وبها أراد أن يعود الانسان إلي ذاته, ليبحث عن القيم الكامنة في نفسه, لأنها' مجمع الحقائق' وعند معرفتها سيتحدد معناها وتثبت ماهيتها, وبذلك يصبح العلم فضيلة والجهل رذيلة, هكذا وضع سقراط' المسئولية الخلقية' في ضمير الإنسان لا في الواقع الذي يغلب عليه المصلحة الذاتية والأهواء المتضاربة. ولعلي أستطيع القول أن سقراط دفع حياته ثمنا لتناقض الديمقراطية مع أهدافها البراقة, حين أدرك مدعي الديمقراطية خطورة مضمون المعيار أو المبدأ الذي يعلمه سقراط لأفراد وطنه من الشباب والكبار وهو' أعرف نفسك بنفسك' فالمتأمل لهذا المبدأ يدرك أن سقراط يعني به أن القيم تسكن داخل الإنسان, وإذا استطاع أن يحدد مكان' المعايير والقيم الخلقية' سوف يشق طريقه في حرية, لأن الجهل هو عدم القدرة علي تحديد الطريق, أما العلم بما يريد الانسان/ المواطن فهو القدرة علي رؤية الطريق بلا معوقات أو تشويش, لأنه أصبح متسلحا بما في ذاته من فهم وإدراك وبصيرة تزيل كل أنواع العقبات, وبذلك فإن معيار أعرف نفسك بنفسك هو مبدأ لتحرير النفس والقدرة علي الفعل والتحصين من أي استعباد لعقل أو حس الإنسان, وبالتالي هو مبدأ يتضمن حث الإنسان أن يمارس الديمقراطية علي نحو جيد وصحيح بغير تلقين أو أملاء من أحد. ويبدو للأسف- عندما اكتشف أصحاب الديمقراطية حين اعتلوا كراسي الحكم, ما يتضمنه هذا المبدأ من التحريض علي ممارسة الحرية ومن ثم الديمقراطية, اتهموا سقراط بإلالحاد, وإفساد الشباب, وقدم إلي المحاكمة, ورغم أن تلميذه أقريطون قد هيأ له فرصة للهروب إلا أن الواجب الوطني لديه واحترامه للقانون, حتي لو كان ظالما, أو كان الحكم عليه بالموت, قد دفعه إلي رفض هذه الفرصة وفضل أن يذكره تلاميذه بتطابق قوله مع فعله علي أن يكون خائنا لمبادئه ووطنه ولذلك أوضح لصديقه في' محاورة أقريطون' حوارا افتراضيا بينه وبين القوانين/ الضمير حين ستقول له في حالة قبوله الهرب:' اتفقت يا سقراط علي أن تحكم وفقا لنا, بالفعل لا بالقول فقط؟ أهذا حق أم كذب؟ وسأل صديقه بماذا تجيب علي ذلك يا أقريطون, ألسنا مضطرين إلي التسليم؟. إذن علينا التأمل وإعادة القراءة لمفاهيم تفرض علينا, وتبهرنا ببريقها, وذلك بالعلو علي المصلحة الذاتية والأهواء المتضاربة, لتنفك أمامنا شفرتها من خلال المقارنة بين ماحدث في سياقها الذي نشأت فيه, وما يمكن أن تفعله في سياقنا بعد أن حمل مضمونها من التغييرات عبر أزمنة وما حدث فيها من التباسات ترتبط بمصالح وتوزانات القوي ولاسيما بعد أن أصبحت القوة هي قوة كونية تهيمن علي العالم من خلال أنظمة اقتصادية وتحالفات سياسية متسلحة بأدوات تكنولجية متقدمة بل ومتسارعة التقدم, وبها جميعا قد تغيب عن هذه القوة الكونية' ماهية' التفرد الثقافي والهوية الوطنية لأوطاننا, إنه دور المثقفين أمل مصر' الجديدة' فهم ركن من أركانها مثلهم مثل الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والأرض والشعب والماء والنور والهواء. لمزيد من مقالات د .وفاء ابراهيم