من الصعب في مصر أن تراهن على (ذاكرة السمك) كمدخل لاسقاط الجرائم والانتهاكات الممنهجة بالتقادم.. فالتقادم لا يسقط الدعوى القانونية مهما طال الأمد، والذاكرة المصرية يقظة لتاريخ دعاواها ضد الظلم الى الأمد، حتى لو كان الحاجز الزمني بين جريمة التحرش في ميدان التحرير وأصولها الجينية هو 9 سنوات، اندلعت خلالها ثورتان وسالت خلالهما بحور من الدماء، فهل لسجل الجراح المصري أن يطوي أفظع وأحط جرائم خريف عصر المخلوع (مبارك)، حيث كانت شرارة الموجة الاولى للتحرش العلني والممنهج في يوم الاستفتاء على التعديل الدستوري في 25 مايو عام 2005، في ذلك اليوم كان تحرش بلطجية النظام الساقط بصحفيات وناشطات سياسيات أقرب ل"مارش" هجوم الضباع الصهيونية الجائعة، وكانت تلك اشارة الانطلاق لأول مباركة حكومية شبه رسمية ل"التحرش الجماعي" كسلاح لاغتيال الدور السياسي النسائي المناهض لتوريث "العزبة". بعد ذاك التاريخ وحتى حادث التحرير، بدا واضحا استمراء بعض أجهزة الدولة للعبة التحرش، ومضيها في خطة اغماض عينيها أو قل مشاركتها الإجرامية في معركة هدم نصف المجتمع، ولعل المشاركة الحكومية السلبية بعد استفتاء التوريث كانت جزء لا يتجزأ من مؤامرة واسعة لاسقاط هيبة الدولة المصرية، فكانت تجمعات الأعياد والاحتفالات في عصر مبارك محافلًا للتحرش بالفتيات والنساء أمام دور السينما وأماكن الترفيه، في مقابل انسحاب غامض للشرطة من المشهد لصالح تلك الضباع الجائعة المنفلتة، وانكار سياسي حكومي مشبوه أو قل تعتيم على عصابات الاجرام المنظم في شوارع المحروسة، وسقوط إعلامي حكومي رسمي في جريمة الانكار والتبرير ووصم ما حدث بالاشاعات المغرضة من المعارضة التي تستهدف تشويه مصر وإسقاط النظام. في ال25 من يناير سقط نظام مبارك الراعي الحصري للتحرش والمتحرشين ، ثم لحقه نظام الاخوان (العديل الموضوعي لمبارك) الذي تسلم بدوره سكين التحرش والانتهاكات ضد المرأة (حادث المناضلة شاهندة مقلد نموذجا)، لكن ورغم الاسقاط بقيت تلك الوديعة الاجرامية ميراثا ثقيلا وكابوسًا مفزعًا يختبر ويؤرق شرعية أي نظام سياسي بعد الثورتين، وللمفارقة فإن ورقة الامتحان لم تمهل نظام السيسي ساعات قلائل بعد آداء اليمين الدستورية، لتجمع اسئلتها احتفالات التنصيب في قصر القبة ومحافل التحرش الجماعي بميدان التحرير في جملة واحدة، ولعل شيئا من الانصاف يفضي الى الثناء على خطوة المشير بزيارة الضحية ووعيده بالقصاص من المجرمين، فيما يعد اعترافا واعتذارا تاريخيا من الدولة عن سابق خطأها في حق نفسها وشعبها، لكن ميقاتي الأزمة يأخذ على السيسي رد فعله المتأخر ل48 ساعة منذ لحظة وقوع الحادث، لتسبقه بساعات ردود أفعال دولية واسعة شاجبة ومنددة بالحادث، ويتواكب هذا البطء الرئاسي مع ما كان يفرضه الحادث من اعلان حداد وطني عام على هذه الكارثة الوطنية بامتياز، وحساب عسير لمواقف مؤسسات وجهات رسمية انتظرت رد فعل الرئيس الجديد لتقوم بدورها المفترض، بل واستدعائها بعضا من التراث المباركي القديم في تجيير الحادث.. وهو أمر يقتضي تفسيرا ومراجعة واضحة لما صدر عن النائب العام من مواقف أو تصريحات أو بيانات رسمية بعد الحادث المروع! لا شكر على واجب هكذا جُبلنا وتربينا نحن معشر المصريين، لكن لا بأس ان تكرم مصر ضابط الشرطة الذي انتشل الفتاة من براثن الذئاب، فقد أثبت من معاني الشهامة والكرامة ما اصبح قطعة نادرة في سوق العملة الانسانية الصعبة، فيما من الواجب أيضا أن تدور علامات الاستفهام حول دور أقرانه من عناصر التأمين التي تواجدت في نفس اللحظة حول الميدان وداخله، وهي مسائل فنية يفتينا فيها خبراء الأمن الجنائي وليس السياسي، وبما قد يفسح المجال واسعا أما تساؤل أكبر بشأن فلسفة ومفهوم وجدوى التأمين والاحتراز الأمني في ميدان التحرير (رمز الثورة)، ليلة حفل رأت فيه أجهزة الدولة استعادة لمكانة مصر الدولية، وكرامتها التي استبيحت أمام صناديق استفتاء مبارك، وما تزال تنتظر رد شرف من قوات الامن واعادة لتعريف دورها في هكذا مواقف وجرائم. باغتتي صديقتي العزيزة بقول صادم صافع يكوي الضمير ويمزق الاحشاء، فاجأتني بالقول الذي ليس بعده قول: "دع عنك نظامي مبارك ومرسي، وجرائمهما في حق نساء مصر، وعليك طي صفحات النقد السياسي والامني، واسأل عن رجال مصر وشبابها، الذين سكتوا وتخاذلوا بل وتشاركوا قولا وفعلا في تلك الجرائم التي تنال من أعراض زوجاتهم واخواتهم وبناتهم، ماذا حدث للمصريين؟.. هل هي (الفراخ البيضاء) التي انتهكت الرجولة واخرست ضمائر الشوارب عن التحرش؟ أم اننا أمام معدن جديد من الرجال يختلف عن آبائنا واجدادنا؟.. هل حقًا ماتت الرجولة والشهامة والنحوة والاريحية مع رجال أكتوبر 1973 كما يردد البعض؟ .. أهي بداية النهاية لعصر الحياء والخجل؟!!.." تلقيت كلمات الصديقة وقد انعقد لساني وجف قلمي أمام مرارة ما القته من طلقات رصاص على أذني!