تعرضت العلاقات المصرية-الأمريكية لموجة من عدم الاستقرار في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وهو الأمر الذي يُرجعه العديد من المحللين لافتقار السياسة الأمريكية في هذه المرحلة لرؤية واضحة ومحددة تجاه تطورات الأحداث المصرية. وسرعان ما تحولت حالة عدم الاستقرار التي اتسمت بها العلاقات إلى توتر وتراجع شديد في مسار العلاقات بين البلدين عقب إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من الحكم في الثالث من يوليو 2013. ويتفق المحللون على أن تطورات الأحداث في مصر لا تُنبئ سوى بزيادة معدل تفاقم الأزمة بين البلدين. وفي هذا الإطار، قدّم "د. عبد المنعم سعيد علي"، مدير المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، و"شاي فيلدمان"، مدير زمالة جوديث وسيدني شوارتز في مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط، في ورقة بحثية نُشرت لهما على موقع "مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط" تحت عنوان "إعادة ضبط العلاقات الأمريكية – المصرية"؛ رؤية حول مظاهر تراجع العلاقات المصرية-الأمريكية، وأبعاد التباين في الرؤى بين الطرفين إزاء تطورات الأحداث في مصر، وكذلك الأهمية الاستراتيجية لدور مصر الإقليمي من منظور المصالح الأمريكية. مظاهر التراجع استعرض الكاتبان في هذا الجزء تعاقب مراحل تدهور العلاقات المصرية-الأمريكية، ومظاهر ذلك بعد 30 يونيو 2013؛ حيث قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بعملية مراجعة شاملة لعلاقاتها مع مصر على خلفية عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي. ففي 15 أغسطس 2013 عقب مقتل المئات من متظاهري جماعة الإخوان المسلمين في كلٍّ من ميداني رابعة العدوية والنهضة، أعلن الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" إلغاء مناورات "النجم الساطع"، وهي مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين. وبحلول شهر أكتوبر عام 2013، دفعت عمليةُ مراجعة العلاقات الولاياتِالمتحدة إلى وقف تسليم مصر صفقة أسلحة كانت تتضمن طائرات أباتشي، وصواريخ هاربون، وقطع غيار دبابات. كما قامت الإدارة الأمريكية بتعليق 260 مليون دولار كان سيتم تحويلها مباشرة للحكومة المصرية، فضلا عن 300 مليون دولار أخرى كضمانات قروض أمريكية. وذهب الكاتبان إلى أن الإدارة الأمريكية قد فسّرت هذه الإجراءات بأنها حل وسط ما بين رغبتها في توبيخ الحكومة المصرية بشأن التوسع في حملاتها الأمنية ضد جماعة الإخوان المسلمين، وما بين حاجتها للحفاظ على علاقة بنّاءة مع حليف عربي محوري كمصر. ولكن جاء الرد المصري الدبلوماسي شديد اللهجة، ليؤكد على أن العلاقات المصرية-الأمريكية تعاني من حالة اضطراب تعكس حساسية الوضع في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ورأى الكاتبان أن التباين الشديد في الرؤى ما بين الولاياتالمتحدة ومصر تجاه أحداث 30 يونيو 2013، هو أحد أهم أسباب ما تعانيه العلاقات بين البلدين من انكماش وتراجع حاد. فالولاياتالمتحدةالأمريكية ترى أن الإطاحة بالرئيس المصري المُنتخب محمد مرسي هو "انقلاب عسكري" جاء تتويجًا لصراع سياسي عنيف بين كبرى القوى السياسية في مصر المتمثلة في المؤسسة العسكرية من جانب، وجماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر، وهو الأمر الذي لم يؤدِّ إلى حرمان مصر من استكمال تجربتها الديمقراطية فحسب، بل إنه أعاد رموز النظام القديم إلى سدة الحكم مرة أخرى. بينما جاءت وجهة النظر المصرية وكذا رؤية القوى المدنية تجاه تطورات الأحداث في 30 يونيو 2013، مغايرة تمامًا لنظيرتها الأمريكية، حيث رأوا أن ما حدث في 30 يونيو كان ثورة كاملة وشاملة تماثل تمامًا ثورة يناير 2011، ورأوا أن حركة تمرد، التي دعمتها عدة جبهات وطنية، استطاعت حشد ملايين المصريين مطالبين بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وسرعان ما تبنت هذه الحركة "خارطة الطريق" بهدف تسيير العملية السياسية في مصر. ويمكن القول إن القوى المدنية الوطنية المصرية قد وصلت في رؤيتها للأحداث إلى كونها نقطة تحول وجودية في تاريخ مصر، لأنه في مقابل النظرة الأمريكية للأحداث في مصر من منظور "الصراع السياسي على السلطة"، جاءت نظرة القوى المدنية المصرية للأحداث من منظور "النضال من أجل الحفاظ على الهوية المدنية للدولة المصرية". أبعاد التباين سرد الكاتبان في هذا الجزء أبعاد التباين في الرؤى بين القاهرةوواشنطن تجاه تطورات الأحداث في مصر، حيث أوضحا أن الرؤية الأمريكية لتطورات الأحداث في مصر استندت إلى كون واشنطن ساهمت في الثورة المصرية عام 2011 عندما حثت الرئيس الأسبق حسني مبارك على الاستجابة لمطالب المصريين، وبذلك تكون قد ضحت بحليف استراتيجي، كان يتم الاعتماد عليه في صيانة مصالحها في المنطقة على مدار ثلاثة عقود. وكذلك ترى الولاياتالمتحدة أن جماعة الإخوان المسلمين قد حازوا الأكثريةَ البرلمانية ورئاسة الجمهورية عن طريق انتخابات ديمقراطية نزيهة. وفي ظل التغاضي الأمريكي عن قصور الأداء السياسي للجماعة في مؤسسة الرئاسة؛ أكدت إدارة أوباما ضرورةَ إعطاء مرسي الفرصة، والاحتكام في النهاية إلى صندوق الانتخابات. ومن ثَمّ اعتبرت الإطاحة بمرسي في 30 يونيو "انقلابًا" إن لم يكن "ثورة مضادة". على الجانب الآخر، أقرّت القوى المدنية الوطنية في مصر بقصور الرؤية الأمريكية السابقة، كونها ربطت بشكل خاطئ ما بين الديمقراطية والانتخابات، ومن ثَمّ استندت رؤية هذه القوى لتطور الأحداث في مصر إلى أربعة محاور أساسية: المحور الأول: أن ما شهدته مصر خلال حكم الإخوان المسلمين لا يمكن أن يُطلق عليه "ديمقراطية تعددية"، وإنما كان أقرب إلى "حكم الأكثرية"، الذي تجاهل مصالح الأقليات والمحرومين، وهو ما تجلى فيما واجهه أقباط مصر من محن خلال فترة حكم الجماعة، وكذلك انعكس في صياغة دستور 2012. المحور الثاني: أن الممارسات السياسية لجماعة الإخوان المسلمين لم تكن تنم عن سعيهم نحو تحقيق الديمقراطية، بل إنهم سعوا إلى الانخراط بكافة أذرعهم السياسية للاستيلاء على السلطة، كما أنهم أطلقوا عملية اختراق مُمنهجة لأجهزة الدولة الحكومية، بالإضافة إلى تحصين قرارات مؤسسة الرئاسة ضد رقابة باقي مؤسسات الحكم في مصر، بما في ذلك مؤسسة القضاء، ثم جاء دستور 2012 ليُسرّع من وتيرة تحرك مصر تجاه تبني نمط الدول الدينية وفق النموذج الإيراني. المحور الثالث: أن افتقار جماعة الإخوان المسلمين للقيم والمبادئ الديمقراطية في الحكم، كان حاضرًا في صياغة وإقرار مجلس الشورى –الذي هيمنت عليه الجماعة– لاثنين من قوانين الانتخابات، والتي تم رفضها لاحقًا من قبل المحكمة الدستورية العليا، بسبب انحياز تلك القوانين الواضح وغير الدستوري لمصالح الجماعة دون غيرها. المحور الرابع: أن جماعة الإخوان المسلمين لطالما دعمت الجماعات الإرهابية، وهو ما يجعلها في مصاف تلك الجماعات، حيث سمحت خلال فترة حكمها بعودة ما يقرب من ثلاثة آلاف إرهابي ممن ينتمون إلى تنظيم القاعدة، كما أن مؤسسة الرئاسة قد أصدرت أوامر بالعفو عن عدد كبير من الإرهابيين في السجون المصرية، وبعد 30 يونيو شجّعت الجماعة على إنشاء خلايا إرهابية في سيناء، مما جعلها مسئولةً عن ارتفاع معدلات العنف والعمليات الإرهابية في كبرى المدن المصرية. ويُقر الكاتبان بأن التفاوت الواضح في الرؤى بين الطرفين لم يكن السبب الوحيد وراء تدهور العلاقات، وإنما يبدو أن كل طرف لم يقدّر رؤية وأولويات ومخاوف الطرف الآخر. فالولاياتالمتحدةالأمريكية ترى أن "المشروع السياسي" للمؤسسة العسكرية المصرية يعمد إلى انتهاك الحريات، وتقييد الفضاء السياسي، ومنح العسكريين امتيازات خاصة في الحياة السياسية. وفي المقابل، يبدو أن هناك حالة من الارتياب لدى الحكومة المصرية تجاه مكون "أجندة الحرية" في السياسة الخارجية الأمريكية، كما أن القاهرة ترى أن الإدارة الأمريكية لم تراعِ في ردود فعلها تجاه الأحداث في مصر بعد 30 يونيو، مدى الخطر الذي كان يمثله وجود جماعة الإخوان المسلمين في سدة الحكم على مصير وهوية الدولة المصرية. الأهمية الاستراتيجية لمصر تصور الكاتبان في هذا الجزء، أن الإدارة الأمريكية تدرك عمق الأزمة التي تعاني منها علاقتها مع مصر، وكذلك ترغب في إصلاح هذه العلاقات، ولكنها ترى أنها قضية ليست ملحة على الأجندة الأمريكية الحالية. وهو الأمر الذي يستند إلى تقييم مفاده أن الصراعات الداخلية التي تعاني منها مصر قد قّلصت دورها الإقليمي بشكل ملحوظ، وجعلته دورًا هامشيًّا. وهنا يجادل الكاتبان بأن التقييم الأمريكي للدور الإقليمي المصري ينُم عن قصور الرؤية الأمريكية في هذا الصدد، وهو ما حاولا إثباته من خلال ما يلي: أولا: أن العوامل الجغرافية والتاريخية قد منحت الدور الإقليمي المصري عبر التاريخ المعاصر قدرًا كبيرًا من الزخم والمحورية. وذلك انطلاقًا من الأهمية الجيوسياسية لموقع مصر الجغرافي، بالإضافة إلى توافر العنصر البشري بكثافة، وهو الأمر الذي جعل مصر مرتكزًا أساسيًّا في مختلف التحالفات الإقليمية التي نشأت لمواجهة التهديدات الأمنية للمنطقة. كما كانت مصر عاملا رئيسيًّا في اعتدال الجانب العربي في تعاطيه مع قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي. بالإضافة إلى دور مصر في دعم جهود الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. ثانيًا: امتلكت مصر دومًا -وما زالت- القدرة على احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، وذلك بغض النظر عما ستئول إليه المفاوضات النووية الحالية مع إيران، وهو الأمر الذي تدركه جيدًا دول الخليج العربي، ويُفسّر إلى حد كبير أسباب منح هذه الدول عدة حزم من المساعدات المالية لمصر بعد 30 يونيو. ثالثًا: أهمية الدور المصري في توفير الدعم اللازم للجهود الإقليمية التي يبذلها وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" لتحقيق انفراجة في عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. لأن التواجد المصري يمثل ضمانة بالنسبة للرئيس الفلسطيني، قد تدفعه لتقديم المزيد من التنازلات، ناهيك عن الدور المصري في احتواء حركة حماس التي ربما قد تسعى إلى إفشال المفوضات. رابعًا: تتجلى أهمية التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل من منظور الحرب الأمريكية على الإرهاب، في منع الجماعات التابعة للقاعدة وغيرها من الخلايا الإرهابية من تحويل شبه جزيرة سيناء إلى قاعدة انطلاق عملياتهم الإرهابية تجاه دول المنطقة ومصالحها الاقتصادية. خامسًا: قد تلعب مصر دورًا رئيسيًّا –باعتبارها بلدًا مسلمًا سنيًّا معتدلا– في إعادة التوازن الإثني لسوريا في ظل تدهور الأوضاع هناك، من خلال التوصل إلى اتفاق يعادل "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. وفي الختام، يؤكد الكاتبان أن المسار السلبي الذي تشهده العلاقات المصرية-الأمريكية لا يمكن تجاهله، ويجب إطلاق جهود حثيثة في سبيل معالجة جميع أبعاد الأزمة، وذلك عن طريق عملية "إعادة ضبط" العلاقات بين البلدين، وهو الأمر الذي لن يتحقق سوى من خلال إجراء مناقشات جادة لتقريب وجهات النظر تجاه تطور الأحداث في مصر. كما يشير الكاتبان إلى ضرورة أن تتبنى الولاياتالمتحدة خيار الانخراط في محادثات جادة مع مصر بهدف إعادة الاستقرار للبلاد مرة أخرى، والمُضيّ قدما في تنفيذ "خارطة الطريق" من أجل وضع مصر على المسار الديمقراطي. عرض: محمد محمود السيد، باحث متخصص في الشئون العربية المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية