محمد شوقي الزين.. ولد عام 1972 في مدينة وهران الجزائرية، ودرس في جامعتها قبل أن يلتحق بجامعة بروفونس الفرنسية. حصل على درجة الدكتوراه في الدراسات العربية الإسلامية حول محيى الدين بن عربي، وتبعها بدطتوراه في الفلسفة حول فلسفة ميشيل دي سارتو. عمل أستاذا للفلسفة بجامعة تلمسان، وباحثا بمعهد البحوث في علم النشاطات البشرية الابستمولوجيا المقارنة – جامعة أكس بمرسيليا. له العديد من المؤلفات والترجمات في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي، وسعى إلى مواكبة الجديد في «الهرمنيوطيقا» التي وعاها منذ أفلاطون وهسلر وهيدجر حتى جادامر وهابرماس. مع «الزين» كان ل «البديل» هذا الحوار.. - كيف ترى «المدرسة الإخوانية»؟ هل هي بالفعل تتبنى فكرا إصلاحيا من منطلقات إسلامية وهل بوسعها التأثير على الثقافة العربية والإسلامية؟ وجود مدرسة فكرية أو إصلاحية ليس عيبا في ذاته. في التاريخ المسيحي، كانت هنالك العشرات من المدارس الإصلاحية، التي حاولت بدرجات متفاوتة، إعادة ابتكار المجتمع وفق مجموعة من القواعد رأتها وجيهة واستنبطتها من التراث القائم، وأعني به الدين. الإخوان مدرسة جادّة، قريبة من هموم المجتمع الحياتية. لكن الاهتمام بالمجتمع لتربيته وتثقيفه من أجل أن يكبر المجتمع عقلا وسلوكا وثقافة شيء؛ والاهتمام بالمجتمع من أجل انتظار مقابل في شكل امتنان وانتخاب، شيء آخر. هذا عيب كل المؤسسات والهياكل في دولنا: سلطة ومعارضة. لا نملك ما يعرف ب "تكوين المجتمع" من أجل نفع المجتمع، دون انتظار منفعة. الغالب هو انتظار شيء من المجتمع بالترغيب أو الترهيب أو الابتزاز، وهذا يخالف بُغية تنوير المجتمع ليبلغ الرشد العقلي ويأخذ زمام أموره بنفسه، دون وصاية أو إملاء. وقع الإخوان المسلمون في الخطأ نفسه، مع أن البداية كانت محمودة وهي تكوين المجتمع بقواعد تربوية وفكرية وجيهة. أن نقول إن الإسلام هو الحل شيء، وأن نقوم بتطبيق هذا الإسلام على أرض الواقع شيء آخر. لأن هناك "قوالب" (قواعد، مُثُل، أحكام) جميلة نظريا، مستحيلة التطبيق عمليا؛ وهناك "قوابل" (نفسية المتلقي، الطوائف المختلفة، الحساسيات المتباينة.. إلخ) هذه القوابل متموّجة، صعبة الضبط. ما ينقص الإخوان وكل التنظيمات الإسلامية هو الطابع "التداولي"، أو "أقلمة" الخطاب النظري مع الواقع العملي، ومراعاة الحرية في خيارات الأفراد. كل الهواجس حول الخلافة والعصر الذهبي للنبوة، رأينا كيف كانت تطبيقاتها.. من السيئ إلى الأسوء، في أفغانستان والصومال. فقط لأن البُعد التداولي يؤكد أنه ليست كل فكرة قابلة للتطبيق، بحكم اختلاف الأزمنة والأمكنة والأمزجة. فقط، بحكم عنادنا وأحيانا غباءنا، نتمسّك بقوالب فجة ونريد تطبيقها حرفيا، فنهدم أكثر من أن نبني؛ نفسد أكثر من أن نصلح. وهل كل دواء مفيد لكل داء؟ ما الحصص والمقادير؟ ما الأوزان والجرعات؟ ينبغي النظر في حركة المجتمع ومشكلاته لاستنباط قواعد آنية تضبط حركته ونموه وسلوكه، حراك الزمن لا يسمح باستنساخ الماضي، واستحضار قواعد برمتها من الأزمنة العريقة – ولو كانت مثالية – ليس ضمانا لصلاحها لكل مجتمع في كل آن. - هل هناك جذور للصراع بين الإسلاميين والعلمانيين؟ ** بلا شك. هناك صدام في الرؤى والحساسيات بين إسلامي متيقّن من مشروعه، وعلماني متيقّن من تحضّره. الأول يعتمد على ثابت مريح، يعفيه عناء التفكير، فيعتقد أنه ينطوي على كل شيء؛ والثاني يعتمد على متحرك جلبه من أنظمة في التفكير، ناجحة في إقليمها التاريخي والجغرافي (أوروبا، أمريكا)، لكن هل يمكن أن تنجح في مجتمع لا يزال فقيرا ولم يصنع برجوازية قوية للانتقال إلى ليبرالية فاعلة؟ مجتمع لا يزال يجرّ التقاليد الموروثة، الممزوجة بالخرافات والخوارق؟ مجتمع لا يزال يُنظر إليه على أنه "طفل" يحتاج إلى وصاية سياسية ودينية تقوم بعملية الفطام والرضاعة واتخاذ القرارات بدلا منه؟ المشكلة مع الإسلامي أنه يجرّ "أحلام" عصر أصبحت اليوم عبارة عن "أوهام"، نظرا للاختلاف في الأزمنة والأمكنة والظروف والسياقات (أي البعد التداولي الذي أتحدث عنه)؛ والمشكلة مع العلماني أنه ابتعد عن المجتمع ولم يبحث في تكوينه أو يحاول فهمه وقراءته. ابتعد في أبراج عاجية من التفكير، أو انخرط في صالونات الترقية، أو التحق بالسلطة ليساهم بكفاءته النظرية في إيجاد بعض الحلول، لكن الإغراءات جذبته والامتيازات أعمت بصيرته، فاكتفى بشُغل الوظائف والارتقاء في المهام، وانتهى بأن شارك، بشكل أو بآخر، في التخلي عن المجتمع مثلما تخلت عنه السلطة الحريصة على مصالحها وامتيازاتها. لا الإسلامي يصلح اليوم مع مجتمعات عربية جديدة ومتجدّدة بفعل شباب ونساء ورجال يحاولون مجاوزة العُقم في الأفكار والاستهتار في السياسات وتأويل التراث الديني والتاريخي تبعا لسياقاتهم التداولية؛ ولا العلماني يصلح اليوم مع نفس هذه المجتمعات التي تريد ابتكار حياتها اليومية بوسائل خاصة تراها وجيهة. نعود دائما إلى ذلك الرُشد العقلي الذي تحدث عنه الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" في منعطف الحداثة والأنوار، وهذا ما تريد المجتمعات العربية الإسلامية بلوغه بشبابها ونسائها ورجالها. تريد هذه المجتمعات التخلص من كل وصاية: سياسية، دينية، ثقافية، فكرية؛ لأن هذه الوصاية فقدت كل مصداقية، ولم تفلح في الاقتراب من المجتمع وفهمه بفهمه هو، لكنها تصر على فهمه بفهمها هي، من خلال تطبيق سياسي عنيد أو تطبيق ديني متصلّب أو مثقف خاوي العُدّة وقصير الرؤية. ينبغي التعويل على "مجتمع مدني" بدأ يتشكل اليوم في النطاق العربي الإسلامي، بشكل جدلي وحي، ليتجاوز الثنائيات المغلقة والفاشلة: المثقف/السلطة، الإسلامي/العلماني، العسكري/السياسي.. إلخ. - كيف نفيد من العلوم الإنسانية في مشاكلنا المعاصرة؟ وهل الفلسفة الإسلامية بإمكانها الإجابة عن تساؤلاتنا أم أنه يتحتم علينا اللجوء إلى الفلسفة الغربية؟ ** اللجوء إلى العلوم الإنسانية في معالجة معضلاتنا الوجودية والفكرية أمر لا مناص منه، فالعلم يفيدنا في حمل أجسادنا (وسائل النقل المتطورة)، ومعالجة أجسادنا (الصحة والطب)، وترفيه أجسادنا (الوسائل المريحة في الحياة اليومية: التلفزة والفيديو، أدوات الطبخ المتطورة، إلخ)؛ لكننا لم نجد بعد العلاج الملائم لذواتنا الجريحة أو المحبَطة أو الخسيسة أو الدنيئة. العلم بالمعنى التقني لن يوفّر أدوات هذا "الطب الروحاني" كما سماه أبو بكر الرازي في الماضي. العلوم الإنسانية والاجتماعية والروحية والآداب والفنون هي التي على عاتقها توفير هذه الأشكال بالاشتغال على الذات. لا يتعلق الأمر بالعودة لا إلى الفلسفة الإسلامية ولا إلى الفلسفة الغربية ولا غيرها. هذه الفلسفات هي أشكال ثقافية فقط، هي أطر نظرية وعقلية؛ لكن المضامين لا تزال صعبة الضبط والتحديد، هذه المضامين نجدها في حركة المجتمع، هنا والآن، في تدبيره اليومي وسعيه المتجدّد. فلسفة التكوين التي أشتغل عليها تنخرط في هذه الرؤية التي تقول إن المجتمع يستنبط مقوّمات وجوده وسلوكه من ذاته ومن عفوية سلوكه وآنية تصوّره. هذا لا يعني أنه لا يعود إلى تراثه بحكم الانتماء والتاريخ؛ ولا يعني أنه لا يرجع إلى غيره للإفادة منه بحكم الإنسانية الجامعة؛ لكن أقوى شيء يمكن للمجتمع أن يبلغ به رشده العقلي ويكتمل وعيه هو أن يشتغل على ذاته، بقوة وجهد، بمواظبة مضنية تخلو من مبرّرات الفشل من عدو يحيك المؤامرات أو يد خفية تدبّر الخيوط. في الاشتغال على الذات هناك المسئولية الذاتية في سلوك طريق التنوير، والعثرات والأخطاء تنتمي إلى التجربة التكوينية ذاتها من أجل تصحيحها وإعادة توجيهها وتطويرها، لأن الأمور في الحياة تتحرك بشكل دائري (على شاكلة دائرية الأرض وعولمة العالم) هذه الدائرية تتيح التجدُّد والانبعاث، وتسهم في إعادة تركيب ما نقص في وجودنا من أجل اكتمال منشود وموعود. لكن ينبغي تهيئة الظروف لذلك لا تعتيمها، وتوجيه الإرادات لا استغلالها، ومصاحبة الوعي لا تزييفه. بمعنى أن الأمر يتطلب أن تتلبس فلسفة التكوين عباءة "أخلاقية"، فهذه الأخلاقية تتيح لكل من السياسي والديني والمثقف أن يكون نفسه قبل أن يدّعي تكوين غيره. - ما نقاط الخلل والضعف في النخبة المثقفة العربية ولماذا نجدها دائما تواجه اتهاما بالانفصال عن مجتمعاتها؟ ** ليس بوسعنا إنكار صحة هذا الاتهام، فلم يطلب أحد من النخبة أن تتمثل المسيح وتحمل آلام البشر. ليس للنخبة تمثيل المجتمع ولا يسوغ اختزال المجتمع في النخبة. الدور الحق للنخبة قراءة المجتمع وفهمه في مرجعيته الخاصة؛ وعلى عاتقها مقاربة الواقع بأدوات نظرية وجيهة وإيجاد المفاهيم الملائمة، واقتناص التصوّرات المناسبة؛ على عاتقها مسئولية تكوين المجتمع وتربيته وتهذيبه ومصاحبته في عملية بلوغ الرشد العقلي، من منظور يتوافق والمجتمع نفسه، لا الحديث باسمه أو فرض الوصاية عليه. نحن بحاجة إلى نخبة مثقفة تفارق «الوصاية»، وتلزم «المعية والمصاحبة». ليس للمثقف أمر المجتمع بما يجب فعله، وإنما عليه مصاحبة الفاعل الاجتماعي، يدلّه، يبيّن له الأفق، يعطيه المصباح لينير الدروب الحالكة التي يجتازها، وبذلك «التنوير» يحقق المجتمع المبتغى من نمو ورشد وتطور. لكن للأسف، مجتمعاتنا تفتقد هذه «المعية» أو «المصاحبة». - تحدثت في كتابك «الثقاف في الأزمنة العجاف» عن طريقة تشكيل الذات بأدوات تربوية وتثقيفية، كيف يتأتى إدراك ذلك التشكيل؟ ** عالجتُ في "الثقاف في الأزمنة العجاف" مسألة الثقافة القائمة على ثلاث ركائز جوهرية: (الصناعة بالاشتغال بالأداة "البُعد المادي"، التكوين بالاشتغال على الذات "البُعد الفكري والروحي"، والعلاقة بالآخر بتشكيل رؤية حول العالم "البُعد التصوّري والتمثّلي"). وإيجاز ذلك أن الثقافة تقوم على حدود ثلاثة، تقوم بينها علاقات مرنة متباينة: الأداة – الذات – العالم. أترك جانبا فكرة الأداة لأنها تتطلب دراسة مستقلة تبيّن جانبا من "فلسفة الاستعمال"، وأترك جانبا فكرة العالم لأنها تقتضي أيضا دراسة مستقلة تُبرز جانباً من "فلسفة تصوّر العالم"؛ وأركّز جهدي على "فلسفة التكوين" التي تضطلع بها الذات في سبيل الحصول على الاكتمال في القوى الذهنية والملكات الفكرية والروحية. الفكرة المحورية في "فلسفة التكوين الذاتي" أن الحضارة انتهت بالتمركز على ذاتها بعد أن انطلقت من التركّز على ذخائرها التراثية وفتوحاتها العلمية. هذا التركز على الذات بركائز مادية وروحية كان في حاجة للخروج إلى الوجود والالتقاء بالآخر؛ كان في حاجة للتوسُّع والتعرُّف وطلب الاعتراف. لكن، ولسبب نجهله، ينتمي فقط إلى بلاغتنا الوصفية، نقول إنه بسبب غرور أو كبرياء، انتقلت الحضارة من عوامل "التركيز" على الذات في المواهب والروائع إلى أشكال "التمركز" على الذات التي انجرّ عنها توسُّع وهيمنة واستعمار وعدوان. الهم النظري الذي أشتغل عليه الآن: كيف يمكن العودة إلى التركّز بتنقيحه وتصحيحه وتوجيهه نحو غايات ثقافية وتربوية وروحية، وسحبه من بساط السياسة والدين الذين أديا به إلى التمركز؟ في محاولة لإعادة تثقيف السياسة وتثقيف الدين بأطر في التعقُّل والتبصّر بعد أن تمّ تسييس الثقافة وأسلمة الثقافة. ونعرف مآل ذلك: الحاجات الثقافية والروحية أصبحت رهينة السياسة لغايات ذرائعية أو أسيرة التصوّر الديني لأهداف رجعية. انهزمت الثقافة أمام السياسة وأمام الدين، لأن أهدافها تربوية، تنويرية، تكوينية؛ فيما آلت السياسة نحو الاستغلال الذرائعي والدين نحو الاستغلال العاطفي، فكان الإطار الاجتماعي الذي يتحركان فيه هو: الحشدية، القطيعية، الشعبوية. الغرض هو حشد الكميات الهائلة وحشر الأكوام البشرية نحو غايات تمركزية في استعراض القوة وبسط الهيمنة كما حصل مع أنظمة سياسية في القرن العشرين (الفاشية، النازية، الستالينية..). - هل إعادة قراءة التراث الصوفي وابن عربي والرومي والتبريزي من شأنها الإسهام في إعادة تشكيل الوعي العربي والإسلامي؟ ** دون شك، لأن هذا التراث كان يحمل عناصر "فلسفة التكوين" التي أهملناها وانصرفنا إلى التركيز على قشور أو أمور جانبية: الشطحات، الاتهام بالحلول والاتحاد، النزعات الغنوصية والخرافية، زيارة الأضرحة وعبادة الأولياء، إلخ. حجبنا اللباب بالقشور. فكانت المحصلة ظهور مقلوب الرؤية التي نحملها اليوم حول العالم، مثل مقلوب القفاز: رؤيتنا اليوم للعالم هي صراع الآخر ("الجهاد المقدس" في الأدبيات الإسلامية)، والغرض العودة إلى صراع الذات (جهاد النفس)؛ ويكون ذلك باشتغال حثيث ومتواصل على الذات بكسب استعدادات ومواهب تساعدنا على الارتقاء في الحضارة. التراث الصوفي غني بهذه الإشارات في سياسة الذات بعناصر رمزية وروحية تستقيها من التراث أو من ذاتها، في علاقتها بالإله الذي تؤمن به، أو العالم الذي تنتمي إليه، أو الآخر الذي تتواصل معه. تكتسي هذه السياسة في الذات قيمة عالمية وكونية، لأنها تخلو من الهوس بخصوصية مغلقة وأنانية نرجسية؛ لكن لها الهم الوجودي في أخذ عناصر كثيرة، من مختلف الثقافات والأقاليم واللغات والروحانيات، لتكمّل بها ما نَقُص فيها. من يزعم بأن فلسفة التكوين تكون فقط بالتراث الذي ننتمي إليه، واهم. في كل مرة انغلقت فيها أمة أو حضارة على نفسها، لم تستطع أن تكتمل باكتفاء ذاتي؛ بل هذا الاكتفاء الذاتي يفجر انشقاقا داخليا يتجلى في حروب طائفية أو دينية أو حروب أهلية أو استبداد، فكل هذه المظاهر تتولد من الاكتفاء بالذات، الذي يؤول بالضرورة إلى التصدع والانهيار، فتلك هي العلاقة القائمة على الصراع من أجل الاعتراف كما بيّن «هيجل» و«أكسل هونيث». وأقول هنا، إن الاكتفاء الذاتي هو نقطة الانطلاق لا الوصول. فالانطلاق يجب أن يكون من ذواتنا في "تركيز" عميق، لنتوسّع بشكل "متراكز" دوائر متداخلة، يلتقي بالآفاق الأخرى والدوائر المجاورة. فالمسألة هي ابتغاء الكونية وليس الانغماس في الخصوصية. ينبغي أيضا إنقاذ التراث الصوفي بالثقافة بعدما تم استغلاله من طرف السياسة. استعملته السياسة للقبول بنظام سياسي غير مجمَع عليه، وراحت تبحث في الطرق الصوفية عن شرعية افتقدتها في صناديق الاقتراع، لأن السياسة استغلت الطابع المتسامح للتراث الصوفي ووضعته تحت تصرفها بشكل مراوغ وذرائعي. ينبغي أن نُرجع للتراث الصوفي قيمته الثقافية، حقيقته الروحية، ميوله الكونية. لدينا الكثير الذي يمكن تعلمه من التراث الصوفي، ليس فقط في الجانب العملي من أخلاق روحية وسلوك متسامح؛ لكن أيضا في الجانب النظري باستخلاص بعض الأطر النظرية الخاصة بمداواة نفوسنا الجريحة، فيمكن تأسيس ما سميته "التحليل النفسي الصوفي"؛ وبدأ هذا الأمر يشق طريقه مع الصديقة حورية عبد الواحد – الأستاذة بجامعة السوربون، والمحللة النفسية، حيث وظّفت بعض مفاهيم التصوف الإسلامي في ابتكار معجم في التحليل النفسي قادر على وصف الأحوال النفسية ومعالجتها. لا أتعجب من ذلك، لأن ميشيل دي سارتو الذي أتخصص فيه كان مؤرخا للعرفان المسيحي، وساهم بإثراء التحليل النفسي في فرنسا (مدرسة جاك لاكان) انطلاقا من تجارب روحية لدى المتصوفة المسيحيين، فالتراث الصوفي يساعدنا كثيرا في إعادة تشكيل حياتنا الفكرية والروحية، والعودة إلى فكرة "التركّز" بالاهتمام بالإنسان في أبعاده المحلية والكونية.