وزير الدفاع الصيني: مستعدون للعمل مع جميع الأطراف لبناء نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا    أحمد شوبير يعلن عن بشرى سارة لجماهير الزمالك    عاجل:- اعتماد نتيجة الشهادة الإعدادية في محافظة المنيا بنسبة نجاح 75.27%    تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفي داخل شقتها بالجيزة    صرف منحة 500 جنيه إضافية للمستحقين بمناسبة عيد الأضحى    رئيس الوزراء يُتابع إجراءات سد العجز في أعداد المُعلمين على مستوى الجمهورية    وزير المالية: مصر تنتج حوالي 100 مليار رغيف مدعم سنويا    وزارة التخطيط تعلن خطة المواطن الاستثمارية لمحافظة دمياط 2023/2024    محافظة القاهرة تضع ضوابط لذبح المواشي في عيد الأضحى: غرامة المخالف تصل إلى 10 آلاف جنيه    الشرقية تتصدر محافظات الجمهورية في توريد القمح ب 603 ألف طن    محافظ بني سويف يعقد اجتماعا لبحث تعزيز منظومة الصرف بمنطقة كوم أبوراضي الصناعية    محافظ مطروح يبحث مع وفد جامعة الأزهر جهود إنشاء فرع بالمحافظة    %86.58 نسبة نجاح الشهادة الإعدادية بكفر الشيخ    وسائل إعلام لبنانية: شهيدان مدنيان في غارة إسرائيلية على بلدة حولا    كوريا الجنوبية وتنزانيا تتفقان على تعزيز التعاون في مجال المعادن الحيوية    تعيين الشيخ صباح الخالد الحمد وليا للعهد بالكويت    جلسة مناقشة الموازنة.. برلمانية تطالب بدعم المنشآت السياحية المتضررة ومواجهة «فوضى الأسواق»    فلسطين ترحب بإعلان تشيلي التدخل في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل    رئيس جامعة طنطا يتفقد لجان امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية الهندسة    باتشوكا المكسيكي يتوج بطلا ل كونكاكاف ويصبح خامس المتأهلين لبطولة إنتركونتينتال    الاتحاد السكندري يخشى مفاجآت كأس مصر أمام أبو قير للأسمدة    محافظ كفر الشيخ يسلم جوازات وتأشيرات السفر ل 314 الفائزين بالحج    جامعة طيبة: امتحانات نهاية العام تسير في أجواء هادئة ومنظمة    السجن المشدد 7 سنوات وغرامة 100 ألف جنيه لمتهم بحيازة هيروين وحشيش في الشرقية    محكمة النقض تؤجل نظر طعون المتهمين في قضية شهيدة الشرف بالدقهلية ل3 نوفمبر    ضبط 9 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالعملات الأجنبية خلال 24 ساعة    مي عز الدين تعلن تعرض والدتها ل أزمة صحية تطلب الدعاء لها    أكدوا أن التكريم بمثابة اعتراف رسمى بأن أعمالهم مؤثرة ومحفوظة الفائزون: احتفاء الدولة المصرية بالمبدعين يفوق أى جائزة عالمية    الشرقية تحتفل بذكرى دخول العائلة المقدسة ومباركتها لأرض مصر في منطقة آثار تل بسطا    أحمد حلمي بمهرجان روتردام: الفنان يجب أن يتحمل مسؤولية تقديم الحقيقة للعالم    «عاشور»: الجامعات التكنولوجية تعتمد على أحدث النظم العالمية لتقديم تجربة تعليمية متميزة    جواز ذبح الأضحية للمصريين المقيمين بالخارج: التفاصيل والأولويات    د. على جمعة عضو هيئة كبار العلماء يجيب عن أشهر أسئلة الحج: التخلف من العمرة للحج مخالفة لا تتفق معها العبادة.. ويحقق أذى المسلمين فى الحج    متحدث الزمالك: شيكابالا أسطورة الزملكاوية.. وهناك لاعب يهاجمه في البرامج أكثر مما يلعب    انتقادات أيرلندية وأمريكية لاذعة لنتنياهو.. «يستحق أن يحترق في الجحيم»    بعد دعوته للحديث.. كم مرة تكلم نتنياهو أمام الكونجرس؟ وماذا قال؟    تداول 15 ألف طن و736 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    عاجل بالأسماء.. شلبي يكشف رحيل 5 لاعبين من الأهلي    البابا تواضروس يستقبل قيادات الشركة المتحدة تزامنا مع عرض فيلم أم الدنيا في الكاتدرائية    ل برج الجوزاء والعقرب والسرطان.. من أكثرهم تعاسة في الزواج 2024؟    محامي الشيبي: عقوبة اتحاد الكرة استفزت موكلي.. وتم إخفاء قرار الانضباط    10 يونيو.. معارضة بطل مسلسل "حضرة المتهم أبي" على حكم حبسه    التحقيق في واقعة العثور على رضيع داخل كيس بلاستيك ببولاق الدكرور    غرفة الرعاية الصحية باتحاد الصناعات: نتعاون مع القطاع الخاص لصياغة قانون المنشآت الجديدة    "صحة الإسماعيلية": بدء تشغيل قسم الحضانات بمستشفى حميات التل الكبير    تحرير 139 محضرا للمحلات المخالفة لقرار الغلق خلال 24 ساعة    هل يجوز أن اعتمر عن نفسي واحج عن غيري؟.. الإفتاء توضح    احمد مجاهد يكشف حقيقة ترشحه لرئاسة اتحاد الكرة    طريقة عمل الكيكة الباردة بدون فرن في خطوات سريعة.. «أفضل حل بالصيف»    لتحسين أداء الطلاب.. ماذا قال وزير التعليم عن الثانوية العامة الجديدة؟    ما هي محظورات الحج المتعلقة بالنساء والرجال؟.. أبرزها «ارتداء النقاب»    وزير الري يؤكد عمق العلاقات المصرية التنزانية على الأصعدة كافة    سعر الريال السعودي اليوم الأحد 2 يونيو 2024 في بنك الأهلي والقاهرة ومصر (التحديث الصباحي)    عمرو أدهم يكشف آخر تطورات قضايا "بوطيب وساسي وباتشيكو".. وموقف الزمالك من إيقاف القيد    الصحة تكشف حقيقة رفع الدعم عن المستشفيات الحكومية    17 جمعية عربية تعلن انضمامها لاتحاد القبائل وتأييدها لموقف القيادة السياسية الرافض للتهجير    قصواء الخلالى ترد على تصريحات وزير التموين: "محدش بقى عنده بط ووز يأكله عيش"    السفير نبيل فهمى: حرب أكتوبر كانت ورقة ضغط على إسرائيل أجبرتهم على التفاوض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالات العقل في فلسقة طه عبد الرحمن (2/2)
نشر في البديل يوم 15 - 09 - 2013


منطلقات إبداع العقل الإسلامي
1. نقد العقل الغربي
يقوم الإبداع على خاصية التمايز، فهو خلق وابتكار على غير نموذج سابق، و أما النسج على منوال آخر فليس من الإبداع في الشيء، بل هو من المحاكاة والتقليد، من هنا فإبداع نظرية في العقل الإسلامي لابد أن تنطلق من نقطة تتجاوز النسق السائد، و تقطع مع النموذج الذي يروجه الآخر، لكن البعض يقدم كبديل للخروج من حالة التأخر التاريخي والركود المعرفي والجمود الثقافي الذي يتردى فيه العقل الإسلامي الاحتذاء بخصائص العقل الغربي، وقذ اتخذ هذا المنهج الاتباعي التقليدي شكلين : الشكل الأول؛ واضح وجلي وصريح، إذ يدعو إلى قطيعة معرفية تامة وشاملة مع تراثنا وتخصيب العقل الإسلامي بمكتسبات العقل الغربي باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، والصورة الأخرى اتخذت شكلا "مخففا" يحذو حذو التوفيق والوصل بين التراثين العربي والغربي، ويحلو للبعض أن يصف هذا المنهج بالتلفيقي، و هوعلى العموم يقوم على آلية التأصيل والتبيئة، أي البحث عن أصول للفكرانية الحداثية في تراثنا، من هنا نعي ما ينطوي عليه زخم الاشتغال بالتراث من قبل بعض النخب الحداثية و الانخراط فيه، و إذا أخذنا نموذج أحد المفكرين العرب الذين اشتهروا بتأصيل الحداثة وتبيئتها فإننا سنجد أنه أقام نموذجه على آليتين :
1. ضرورة طي قرون الجمود والانحطاط الفكري المسماة في أدبيات الفكر العربي المعاصر ب "السكولاستيكية"، ومد جسور التواصل واللقاء مع أنضج فكر أنتج في سياق الثقافة العربية، وهو فكر فيلسوف قرطبة أبو الوليد ابن رشد، ثم الانطلاق منه واستئناف المسار الذي شقه، بالضبط كما كان هذا التراث الرشدي بمثابة الدفعة الأولى للنهضة الأوروبية التي حركت مياه الثقافة الغربية الراكدة.
2. تأصيل القيم الحداثية، و ذلك بالتنقيب في التراث عن مماثلات لها وتقديمها بالتالي في قالب خصوصي باعتبارها من الذات لا بضاعة مستوردة، ويبدو أن هذه الخطة أملاها واقع التعددية والثراء الفكري في التراث الإسلامي العربي.
غير أن طه عبد الرحمن يرفض رفضا مبدئيا هذه القراءة التجزيئية التقزيعية للتراث، ويدعو لما سماه قراءة تكاملية شمولية بالنظر إلى أن التراث إفراز لقواعد مجال تداولي واحد. وهكذا فالجابري الذي عرف بقراءته التجزيئية للتراث وقع في عدة أخطاء بحسب الرؤية الطهائية؛ الخطأ الأول مزدوج، و يكمن في الهوة الموجودة بين دعوته حين بسط الكلام عن منهجه في "نحن و التراث" إلى ضرورة تجاوز القراءات التجزيئية التي تفصل بين أجزاء التراث و استبدالها بالقراءة الكلية الشاملة، والوقوع في القراءة التجزيئية ذاتها، الوجه الآخر يتمثل في مفارقة تتجلى في دعوته إلى قراءة الآليات التي أنتجت لنا هذا العقل، والتصدي في المشروع لتقييم المضامين والمحتويات التراثية، يقول طه عبد الرحمن في هذا الصدد " وباختصار، فإن الجابري، وإن دعى في مواضع من كتبه، التمسك بما يشبه المبدأين وهما لاتقويم صحيح إلا بالنظرة الشمولية ولا تقويم أصيل إلا بالبحث في الآليات، فإنه ما لبث أن وقع في التناقض عند العمل بهما، فانتقل من النظرة الشمولية إلى النظرة التجزيئية، ومن البحث في الآليات التراثية، إلى البحث في الخطاب التراثي بصدد هذه الآليات"(1).
والخطأ الثاني مزدوج كذلك، فالجابري يصرح في كتابه "تكوين العقل العربي" أنه يستند في فحصه للعقل العربي على أرقى النظريات العلمية التي تقارب موضوع العقل، بينما ما اعتمد عليه كان متجاوزا و متقادما في الساحة العلمية، والوجه الآخر لهذا الخطأ، أن الجابري أساء فهم عبارة لفقيه العلم "غونزيت" عليها سيبني قوله باختلاف العقول باختلاف الميادين المعرفية التي يتفاعل معه العقل ويحتك بها، يقول طه عبد الرحمن : "إن التصور العلمي الأرقى للعقل الذي يدعي الجابري تحصيله والتوسل به في بناء نظرية للعقل العربي مدخول من جانين اثنين :
أ. تقادم دراسات فقه العلم أو الابستمولوجيا التي استند إليها.
ب. فساد فهمه لعبارة "غونزيت" إذ حملها على نقيض ما تدل عليه." (2).
إن هذا الاستطراد لابد منه لفهم حقيقة موقف طه عبد الرحمن من العقل الغربي، فطه عبد الرحمن إذ ينتقد إساءة توظيف المناهج الغربية لا يدعو بلسان حاله إلى تجويد هذا الاستعمال والرقي به، بل إن طه لا يفتأ يدعو إلى الخروج من إسار التبعية و نفقالتقليد، لكن لا من منطلق الممانعة الثقافية السلبية، و إنما استنادا على قاعدة فلسفية متينة، وقد ذهب في نقده هذا حدا لم يقتصر فيه على نفض التقليد على المستوى المنهجي بل قام بتقويض نموذج العقلانية الغربية ككل، باعتبارها عقلانية مجردة غير مجدية و لا يؤمن شرها.
إن طه عبد الرحمن قبل أن يؤلف "روح الحدثة" الذي بسط فيه الكلام عن الأسس والقواعد الفلسفية للحداثة الإسلامية، أبرز الخلل الذي يعتري الحداثة الغربية في "سؤال الأخلاق"، فانتقد تمثلات الحضارة الغربية لروح الحداثة من خلال الوقوف على الثغرات والهنات التي أحدثتها في المنظومة القيمية الأخلاقية، و هكذا فعادة طه عبد الرحمن أن يبدأ بهدم النسق الشائع ثم يشرع في البناء، وسيرا على هذا المنهج نرى أنه قبل أن نبسط القول في العقل الإسلامي المثالي كما تصوره طه عبد الرحمن لابد من البدء بنقده للمقاربة الغربية لمفهوم العقل.
إن محاولة طه عبد الرحمن في نقد العقل الغربي محاولة جريئة وفريدة من نوعها، سلك فيها مسلكا جديدا لم يسبقه إليها أحد فيما نعلم. لقد بنى نقده للعقل الغربي على منهج ابتكره، مفاده أن أية عقلانية لا بد أن تستوفي ثلاثة معايير؛ "معيار الفاعلية" و "معيار التقويم" و "معيار التكامل"، وهكذا قرأ التعاريف التي قدمها كبار الفلاسفة الأوروبيين للعقل على ضوء هذه المعايير، واستخلص أن العقل الغربي يخل إخلالا عظيما بهذه المعايير. لنوضح كيف توصل طه عبد الرحمن لهذه النتيجة.
قبل أن نبسط الكلام في النقد الطهائي للتعريفين الأرسطي والديكارتي للعقل، لنشرح المعايير الثلاثة التي يجب أن تتوفر في العقلانية المثالية الناجعة؛ إن المقصود بمعيار الفاعلية جملة الوسائل التي يتخذها الإنسان لتحقيق مقاصده، وهي على العموم تتسم بالتنوع والتعدد والمرونة والتغير بتغير المواقف والظروف المكانية والزمانية، يقول طه عبد الرحمن عن مقتضى هذا المعيار "أن الإنسان يحقق ذاته بواسطة أفعال مجالها متسع ومتنوع؛ ويتجلى تحقق الإنسان بواسطة الأفعال فيما يتخذه من مختلف المواقف التي تتحدد بمجموعها هوية سلوكه"(3)، أما معيار التقويم فيقصد به تلك المقاصد ذات الطابع القيمي التي يهفو الإنسان لتحقيقها، وهي على عكس الوسائل تتسم بالثبات والشمول، وبعارة طه عبد الرحمن مقتضى هذا المعيار أن الإنسان "لا يركن إلى ما هو كائن و ما هو واقع، بل يسعى دوما أن يكون موجها بقيم معينة تملي عليه ما يجب أن يكون وما يجب أن يقع، ومشدودا إلى معان تعلو بهمته إلى الخروج عن حالة الحاضر وابتغاء أحوال أخرى غيرها" (4)، أما معيار التكامل فمقتضاه أن الإنسان وحدة متكاملة وأي نموذج عقلاني لا بد أن يرعى هذه السمة، فالإنسان لا يقبل التجزيء والتقسيم إلى أشلاء و شذرات "إنه ليس مجموعة من الأجزاء التي تقبل إيقاع الانفصال بينها وإيقاف تأثير بعضها في بعض، وإنما هو عبارة عن ذات واحدة تجتمع فيها مظاهر القوة مع مظاهر الضعف وصفات العرفان مع صفات الوجدان ومستويات النظر مع مستويات العمل وقيم الجسم مع قيم الروح" (5).
فهل التعاريف الغربية للعقل محتوية لهذه المعايير موفية لها؟
يقول أرسطو في تعريف العقل إنه "عبارة عن جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة".
إن هذا التعريف إذ يعتبر العقل جوهرا أي ذاتا قائمة بذاتها فإنه يخل بمعيار الفاعلية، ذلك أن من ملازِمات التجوهر الثبات، وهذا ما يسقط عنه سمات التعدد والتنوع والانسجام مع المتغيرات الزمكانية، وهكذا فالتعريف الأرسطي للعقل يخل بشرط معيار الفاعلية الذي يقتضي كما قلنا التوسل بوسائل مختلفة متعددة ومتنوعة، يقول طه عبد الرحمن "من حيث معيار الفاعلية، فهذا التعريف يجعل من العقل جوهرا، أي شيئا ينزل منزلة الذات، بينما الصواب أن يكون العقل فعلا من الأفعال وسلوكا من السلوكات، بل أن يكون أدل الأفعال على الفاعلية وعلى أوصافها" (6). أما من حيث معيار التكامل، فإن هذا التعريف يغفل ربط العقل بمكونات أخرى لا تقل أهمية عن العقل في إطار وحدة تكاملية، إن التعريف الأرسطي للعقل إذ يجوهر العقل فإنه يجزئ الإنسان ويلغي الوحدة والانسجام بين المكونات التي يزخر بها الكيان الإنساني، أو كما يقول طه عبد الرحمن "إن تخصيص العقل بصفة الذات يجعله منفصلا عن صفات أخرى للعاقل تشارك في تحديد ماهية الإنسان كالعمل والتجربة؛ فلو جاز التسليم بجوهرية العقل على طريقة اليونان، لجاز التسليم بجوهرية العمل وجوهرية التجربة" (7).
أما عن معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي يقترب منه وإن لم يستوفه كاملا، فالتعريف يجعل من العقل مقوما ومقصدا على أساسه يتميز عن الحيوان، غير أن العقل كما تم تصويره في الفكر الغربي قد خرج بحكم الغلو فيه عن حدوده الناجعة وانقلب بالضرر على الإنسان، يتبين لنا هذا عندما نتأمل تلك الآراء الفلسفية التي ألهت العقل على سبيل المثال لا الحصر.
و هكذا فالعقل الأرسطي ليس نموذجا مثاليا للعقل يحتذى به ويُجتهد في بلوغ مراتبه، لأنه يخل بمعيار الفاعلية بحكم تنزيل العقل منزلة الجوهر بدل أن يعتبر فعلا من أدل الأفعال على الفاعلية، ولا يستوفي معيار التكامل لأنه لا ينظر إلى القدرات الإنسانية نظرة تستبطن الوحدة والتكامل، بل إن التعريف الأرسطي للعقل يقع في الفصل والتقسيم، وأما معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي إذ ينظر إلى العقل كماهية تميزه عن الحيوان، أي كقيمة على ضوئها يقيم ما يواجهه من قضايا، فإنه يوفه جزئيا، إلا أنه لم يضبط حدوده حتى انقلب إلى شر وضرر.
أما التعريف الديكارتي للعقلانية فمختزل في الإطار المنهجي، يقول "ديكارت" في تعريفها أنها "استخدام المنهج العقلي على الوجه الذي يتحدد به في سياق ممارسة العلوم الحديثة، ولا سيما الرياضية منها".
ويمكن أن نقول أن هذا التعريف ظل حاضرا في ممارسات العقل الغربي، بل إنه يتنزل منزلة الروح بالنسبة له، من هنا فتقييم هذا التعريف لن يكون مجديا إلا إذا أمعنا النظر في الممارسة الإجرائية للعقل الغربي.
إن المنهج العقلي حسب طه عبد الرحمن لا يستوفي معيار التقويم، فإذا كان هذا الأخير يستلزم تحقيق النفع في المقاصد، فإن هذا المنهج يوقعنا في عدة آفات، هي "النسبية" و "الاسترقاقية" و "الفوضوية" (8)، والمقصود بالنسبية اختلاف القوانين التي يحتكم إليها العقل اختلافا جوهريا كما هو مشاهد في علم المنطق، والمقصود بالاسترقاقية، استرقاق التقنية للإنسان، فإذا كانت الثورة العلمية التي تحققت بفعل تطبيق المنهج العقلي تروم تحرير الإنسان وتحقيق سيطرته على الطبيعة فإنه على العكس من أحلام الإنسان الغربي الزاهية اكتسحت التقنية حياته واستحالت عالما قائما بذاته يملي على الإنسان ويستعبده، ويرى طه عبد الرحمن أن الاسترقاق نتيجة حتمية لمبدأين شائعين في الفكر الغربي؛ أحدهما لا عقلاني و الآخر لا أخلاقي، فالمبدأ اللاعقلاني مفاده "أن كل شيء ممكن"، وهو ما سيؤدي في آخر المطاف إلى استباحة الآلة للإنسان، و المبدأ اللاأخلاقي "أن كل ما كان ممكنا وجب صنعه"، وهذا المبدأ يغتال الجانب الأخلاقي في الإنسان لأنه لا يقيم له وزنا مادام كل ما كان ممكنا واجب. وأما الفوضوية، فإن النظريات التي يتوصل إليها العقل المجرد لا يكمل بعضها بعضا ولا يركب بعضها فوق بعض مثل الطبقات، بل إن كل نظرية علمية مستحدثة تلغي سابقتها وتهدمها، وهذا ما سماه "غاستون باشلار" ب "القطيعة الإبستمولوجية" عند حديثه عن تاريخ العلوم و المسار الذي تتخذه المعارف في تطورها، من هنا فالعقل المجرد لا يركن إلى نموذج علمي متكامل بل لا يفتأ يهدم ما بناه، وهذا من الفوضوية والعبث.
إذا فمعيار التقويم غير متحقق في التعريف الديكارتي للعقلانية، أما معيار الفاعلية، والذي مقتضاه أن يتوسل الإنسان بوسائل نافعة وناجعة، فإن طه عبد الرحمن يرى أن الممارسة العلمية و العقلية في الغرب أخلت به كذلك، بتكلفها للموضوعية وجمودها على الظاهر واتخاذها للوسائط. فهذه المارسة العقلانية العلمية تزعم أنها لا تسمح بنفاذ القيم الأخلاقية والمعاني الروحية فيها، وهذا الزعم غير صحيح ذلك أن "تحصيل تمام الموضوعية غير ممكن، وكل ما تفعله هذه الممارسة العقلانية هو أنها تستبدل بالمعاني الأخلاقية الدينية معاني و قيما أخرى غير دينية وغير أخلاقية بما فيها الموضوعية نفسها" (9)، والمقصود بالجمود على الظواهر تلك الآفة التي أحدثتها المدرسة الوضعية ل "أوكست كونت"، حيث دعت إلى غض الطرف عن الماهيات وحصر الاجتهاد العقلي في الظواهر، وهذه حسب طه عبد الرحمن تؤدي إلى التسوية بين الشيء وظاهره، كما تغفل البحث في الأشياء الخفية مثل الروحانيات مثلا، وهي بهذا تضيق واسعا وتحجر على العقل طموحه للترقي إلى مراتب أعلى من خلال إدراك لطائف الأمور التي تسهم بالطبع في توسيع مدارك العقل. وأما اتخاذ الوسائط، فيمكن أن نقول بأن طه عبد الرحمن يقرأ هذه الآفة بالذات بمقارنتها مع المعرفة الصوفية، ذلك أن أعلى درجات المعرفة هي العرفان، أي تلك المعرفة التي تنقدح في القلب ككشف صوفي وهبة ربانية، إن المنهج العقلي يقول طه عبد الرحمن "لا ينفك عن التوسل بالوسائط المادية في كل شيء، [لذا]، فقد امتنع عليه إدراك ما لا يتأتى بطريق هذه الوسائط كالمعاني الروحية، وبالتالي خلا من وصف النجوع المطلوب" (10).
وإذا كانت الممارسة العقلية والعلمية للعقل المجرد تخل بمعياري الفاعلية -الذي يقتضي الارتكاز على وسائل نافعة-، و التقويم -الذي قوامه تحقيق غايات ومقاصد ناجعة-، فقد اختل بالضرورة معيار التكامل.
إن العقل الغربي سواء تعلق الأمر بالجانب النظري، أي الدلالات التي ينطوي عليها تعريف العقل وصفته، أو الجانب التطبيقي العملي في ممارساته وخلفيات هذه الممارسة، لا يمكن أن يتخذ كنموذج يحتذى به، من هنا ضرورة التسلح بمقومات الاجتهاد الفلسفي من أجل بناء نظريات في العقل الإسلامي تؤسس لما يمكن أن يعتبر محورا للمجال التداولي الإسلامي، وهو "العمل".
2. الانطلاق من المجال التداولي أس الإبداع
كان لانتشار القراءات التجزيئية للتراث أبلغ الأثر في إبداع طه عبد الرحمن لنظريته في المجال التداولي، فهذا الأخير يسمح بتكريس الرؤية التكاملية للتراث باعتباره صادر عن أصول واحدة وقواعد توحد كل أطياف الفكر الإسلامي مع اختلافها الشديد. لكن ماذا يقصد طه عبد الرحمن بالمجال التداولي؟
لقد نحت طه عبد الرحمن هذا المفهوم استنادا على دلالاته اللغوية، فكلمة التداول من "داول" و تفيد معنى "تناقله الناس و أداروه فيما بينهم"، و النقل والدوران يستعملان في اللغة كما يستعملان في المجال التجربي المحسوس، فالنقل والدوران في اللغة يحيلان على معنى التواصل، بينما يؤديان معنى التفاعل في استخدامهما التجربي. و أما المجال فمن "جال" و تفيد معنى الدوران كذلك، و بهذا يكون المجال هو "موضع الدوران"، و إذا انتقلنا من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية، نجد طه يعرف المجال التداولي بأنه : "محل التواصل و التفاعل بين صانعي التراث"(11)، وقد يكون من المهم التنبيه هنا أن طه عبد الرحمن في نحته لمفهوم المجال التداولي ارتكز على إحدى القواعد المشكلة لهذا المجال، وهي القاعدة اللغوية، إذ استعاد دلالاتها اللغوية ثم ربطها بتلك الدلالات الاصطلاحية. إن المجال التداولي يشمل "اللغة المستعملة و الثوابت العقدية وجانبا من الممارسة المعرفية" (12)، غير أن المجال التداولي أخص من المجال الثقافي، فهذا الأخير قد تسود فيه رؤى وتصورات لا تمت بصلة لمجال تداول الثقافة، بل قد تكون تغلغلت وترسخت من خلال تأثرها بمجالات معرفية أخرى. إن المجال التداولي يضم أخص خصائص أمة معينة، و قد حصر طه هذه الخصائص في ثلاث، الخاصية اللغوية، و الخاصية العقدية، و الخاصية المعرفية. فالقاعدة اللغوية هي أساليب البيان التي توظفها أمة معينة، و بقدر ما تكون "هذه الأسباب مألوفة للمخاطب موصولة بزاده من الممارسة اللغوية، فهما وعملا، يكون التبليغ أفيد والتأثير أشد" (13)، وارتكاز المفكرين العرب القدامي على الدلالات اللغوية الشائعة في منظومة بيانية معينة من الأمور المعهودة، فهذا الإمام الغزالي يقول "فأنا اخترعت [الاصطلاحات] من تلقاء نفسي، لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة، اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أوثر أن أتبع أحدا منهم، فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالتداول بين جميعهم، واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها، حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها" (14).
و أما الأسباب العقدية، فهي الأخرى كان لها تأثير في الخطاب العربي الإسلامي، وتشكل إحدى قواعد المجال التداولي، فلابد من اعتبارها والأخذ من معانيها واستلهام المضامين التي تحتويها، فهي من غير شك من الأسباب التي إن اعتبرت نفضنا عنا غبار التقليد، و قمنا بتحقيق المبادرة الفلسفية التي تحفظ لنا خصوصيتنا. وقد انتقد طه عبد الرحمن في هذا الصدد الأخذ بمناهج تطمس الدوافع العقدية التي كانت وراء بلورة التراث الإسلامي واستبطان اللاعقدي من العقدي، يقول طه عبد الرحمن "غير أننا بدل أن نطلب فيها [أي الممارسة االتراثية] هذا الأصل العقدي ونطلب طرق بعثه بيننا، أخذنا نقلب وجوهها، ونبحث فيها عما نظن أنه يقطع صلته بهذا الأصل كما لو كان من الممكن أن نولد ما هو غير عقدي مما هو عقدي" (15)، وبالفعل فقد بالغ بعض المفكرين العرب في توظيف هذا المنهج، وقد اتخذ صورا عدة، مثل رد الميتافيزيقي إلى الواقعي بحيث يتم فصل السماء عن الأرض، و العقدي إلى السياسي أو الاقتصادي أو القبلي، بقراءة القضايا و الإشكالات الدينية قراءة تردها جملة لعوامل اجتماعية، وهي مقاربات مشهورة ومتداولة في الفكر العربي المعاصر، حتى يكاد دور المفكرين محصورا في هذه المهمة بالذات، أي استجلاء اللاديني من الديني، من أجل إضفاء نوعا من العلمنة على الممارسة التراثية. أما الأسباب المعرفية فهي ثمرة تفاعل الخاصيتين السابقتين، أي اللغوية والعقدية، فاللغة والعقيدة يسهمان بشكل فعال في بناء النسق الاستدلالي لأمة معينة، ونذكر هنا بقولة السيرافي الذي ربط بين المنطق الأرسطي والنحو اليوناني، فرأى أن الأول هو تجل واضح للثاني، أو بالأحرى استقراء له، يقول طه عبد الرحمن "لا يخفى أن ما يتناقله المتخاطبون بواسطة لغتهم وما يتعاملون به بموجب عقيدتهم هو جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية تتوسع بها المدراك العقلية في أنفسهم كما تنفتح بها آفاق العالم من حولهم" (16).
إن الانطلاق من المجال التداولي الإسلامي العربي في بناء الفكر من شأنه أن يحقق الاستقلال الفلسفي، و ينقلنا من الإبداع المفصول إلى الإبداع المأصول، وطه عبد الرحمن يسمي المنقول إبداعا من باب التجوز فقط، وإلا فكل فلسفة لا تتضمن خصوصية المجال التداولي لا يمكن تسميتها فلسفة مبدعة، فالإبداع صفة ذاتية لابد أن تنطلق من الذات، والذات هي جملة الأسباب اللغوية والعقدية والمعرفية التي أشرنا إليه، وباستوحائها والمزج بين عناصرها يمكن أن نؤسس لاستقلال فلسفي، أما استئناف النظر في فلسفة منقولة والاجتهاد في توسيع آفاقها استشكالا واستدلالا فمهما كانت جديتها فإنها ما لم تنظر إلى هذا المنقول استنادلا إلى المجال التداولي فستظل فلسفة غريبة عنا لا تمت بصلة إلينا.
لكن هنا قد يثار سؤال، هل يدعو طه عبد الرحمن إلى فلسفة منعزلة لا تتفاعل مع الفلسفة الأخرى وتنطوي على ذاتها، أو فلسفة منغلقة تعتقد أنها آخذة بناصية كل حقيقة؟
إن طه عبد الرحمن لا يدعو لهذه ولا تلك، وإنما يدعو لاستحضار المجال التداولي في التفلسف من أجل حفظ المبادرة الفلسفية، و هذا على مستوى الأصول التي تقوم عليها كل فكرة، إذ لابد أن ترتكز على حقيقة من الحقائق اللغوية أو العقدية أو المعرفية، وهذا ما يسميه " الانطلاق من الحقائق المأصولة المأخوذة من المجال التداولي" (17)، إذ من شأن هذه المبادرة الفلسفية الطامحة للاستقلال أن تخلصنا من عقدة النقص أو الشعور بالدونية إزاء عطاءات فلسفية أخرى، بل من شأنها أن تدفع الإبداع الفلسفي إلى أقصاه فيطال النظر المبدع في الفلسفات الأخرى، بحيث يدخل تعديلات وتحويرات على الفلسفات المنقولة بما يوفي بمقتضيات المجال التداولي، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن "الاقتدار على إدخال تحويلات على المنقول بما يوفي بمقتضيات المجال" (18)، ثم إن النظر المبدع في الفلسفات الأخرى قد يعين على اقتناص الحقائق التي هي ثمرة التفاعل بين المأصول والمنقول، فنكون بذلك سباقين لجني ثمار هذا التلاقح الفكري.
هوامش:
(1) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2007. ط3. ص 34.
(2) نفسه، ص44.
(3) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2006. ط3. ص 61.
(4) نفسه، ص 62.
(5) نفسه.
(6) نفسه، ص63.
(7) نفسه.
(8) انظر : سؤال الأخلاق، ص 65. و العمل الديني وتجديد العقل، ص43 وما بعدها.
(9) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص67.
(10) نفسه، ص 68.
(11) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 244.
(12) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 2012. ط1. ص39.
(13) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 245.
(14) الغزالي، محك النظر، ص 48-49، نقلا عن : طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 245.
(15) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 246.
(16) نفسه، ص 246.
(17) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 50.
(18) نفسه، ص 50-51.
* كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.