الصين تدعو لاتخاذ إجراءات ملموسة لدفع حل الدولتين ووقف إطلاق النار بغزة    من هم «بنو معروف» المؤمنون بعودة «الحاكم بأمر الله»؟!    أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    انتخابات مجلس الشيوخ.. الآليات والضوابط المنظمة لتصويت المصريين فى الخارج    "الزراعة" تنفيذ 286 ندوة إرشادية والتعامل مع 5300 شكوى للمزارعين    وزارة التموين تنتهى من صرف مقررات شهر يوليو 2025 للبقالين    ميناء سفاجا ركيزة أساسية في الممر التجاري الإقليمي الجديد    عبدالغفار التحول الرقمي ركيزة أساسية لتطوير المنظومة الصحية    وزير الإسكان يُصدر قرارًا بإزالة 89 حالة تعد ومخالفة بناء بمدينة الشروق    قبول دفعة جديدة من الأطباء البشريين الحاصلين على الماجستير والدكتوراه للعمل كضباط مكلفين بالقوات المسلحة    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    إدارة الطوارئ في ولاية هاواي الأمريكية: إغلاق جميع المواني التجارية بسبب تسونامي    محمد السادس: مستعدون لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    تحليل جديد: رسوم ترامب الجمركية سترفع نفقات المصانع الأمريكية بنسبة 4.5%    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    لم نؤلف اللائحة.. ثروت سويلم يرد على انتقاد عضو الزمالك    إصابة طفل نتيجة هجوم كلب في مدينة الشيخ زايد    انخفاض تدريجي في الحرارة.. والأرصاد تحذر من شبورة ورياح نشطة    جدول امتحانات الشهادة الإعداية 2025 الدور الثاني في محافظة البحيرة    البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب «جنوب شرق الحمد»    التصريح بدفن جثة طفل لقى مصرعه غرقا بإحدى الترع بمركز سوهاج    حفل جماهيري حاشد بالشرقية لدعم مرشح حزب الجبهة بالشرقية    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    فقد الوعي بشكل جزئي، آخر تطورات الحالة الصحية للفنان لطفي لبيب    عزاء شقيق المخرج خالد جلال في الحامدية الشاذلية اليوم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    محافظ الدقهلية:1586 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية المستعمرة الشرقية بلقاس    فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية للقبول بكلية الهندسة    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    تنسيق المرحلة الثانية 2025.. موعد الانطلاق والمؤشرات الأولية المتوقعة للقبول    التفاصيل الكاملة لسيدة تدعي أنها "ابنة مبارك" واتهمت مشاهير بجرائم خطيرة    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالات العقل في فلسفة طه عبد الرحمن (1/2)
نشر في البديل يوم 13 - 09 - 2013


2. أغلال العقل
كل فكر لا يكون حرا إلا إذا كان أصيلا ينطلق في تصوراته مما هو مأصول في مجاله التداولي، فلا يعد نقل فكر الآخر بلغة جديدة إبداعا فلسفيا، من هنا فإن ابتكار فلسفة إسلامية غير ممكن ما لم نعد النظر فيما سمي بالفلسفة الإسلامية القديمة وتقييمها حتى يتسنى لنا تقويمها، والوعي قبل ذلك بمواطن الخلل، و إلا فإن استسلام المتفلسف العربي لرغبته النرجسية في نسبة فلسفة عربية أصيله له لن يؤدي في آخر المطاف إلا إلى تزييف الوعي و إقامة حجب بيننا و بين الإبداع الفلسفي الحقيقي.
إن طه عبد الرحمن يميل كما يبدو من كتاباته إلى نفي أن يكون المتفلسفة العرب قد أسسوا و بنوا فلسفة إسلامية تعبر فعلا عن مشاغل العقل الإسلامي و تسهم في حل إشكالاته، إن طه عبد الرحمن يتحدث عن "استئناف العطاء الإسلامي" (1)، وليس من مقتضيات استئناف القول أن يؤدي ذلك إلى إنشاء فلسفة ذات خصوصية إسلامية، ذلك أن الاستئناف يعني بقاء جنس الفلسفة المستأنَفة في جوف الفلسفة المستأنِفة و هو ما ينزع عنها أي صفة إبداعية و يصمها في المقابل بالتقليد والمحاكاة، كما أن الفلسفة الإسلامية بهذا التقليد تكون قد أخضعت الموروث الإسلامي لمقتضيات الفلسفة اليونانية، وبهذا تكون قد فقدت شروط المبادرة المستقلة في البحث الفلسفي، إذ إن لم يكن استئناف النظر في موروث مغاير منقصة في حد ذاته تخل بمقومات الشخصية الإسلامية فإن إخضاع الموروث الأصيل لمقتضيات الفلسفة المستوردة مظهر من مظاهر الجمود المبتذل، فإثراء الفكر لا يتم إلا من خلال إغناء الإشكالات و الأسئلة التي تمخضت من داخل المجال التداولي الإسلامي، وإخضاع الموروث الآخر لهذا المجال، يقول طه عبد الرحمن في هذه الإشكالية "إن العطاء الفلسفي المستأنف يحرص على حفظ الموروث اليوناني داخل الموروث الإسلامي، وهذا يعني أن الإشكالات اليونانية تبقى على صورتها الأصلية دون أدنى تصرف، وتضم إلى الإشكالات اليونانية ضم إيواء لا ضم احتواء" (2).
وقد كان لهذا التأثر بالفلسفة اليونانية و نقل محتوياتها و مضامينها من غير إعمال لمعاول النقد فيها أثر سيئ على العقل الإسلامي، إذ أخذت تلك الأقوال اليونانية تسليما مع معارضتها لمقتضيات المجال التداولي الإسلامي، و من أهم ما انتقل إلى الفلسفة الإسلامية عبر الموروث اليوناني التعريف الجوهري للعقل، يقول طه عبد الرحمن : "إذا كان لفظ العقل في اللغة العربية يدل على اسم معنى، و يستفاد منه أنه وصف محله القلب مثله مثل السمع و البصر، فإن الترجمة قد حعلت منه اسم ذات يفيد معنى جوهر مخصوص محله الدماغ" (2) ، وفي موضع آخر يقول :" لقد نقل العرب عن اليونان تعريفهم للعقل بكونه جوهرا (…) [حتى] أصبح استعمالها في العربية راسخا، وجوهر الشيء، في استعمال الجمهور يفيد اللب الذي به يتقوم الشيء أو الحقيقة التي يكون عليها، أما تعريف العقل عند الفلاسفة بكونه جوهرا، فيقصدون به معنى أخص، وهو أن العقل عبارة عن ذات موجودة في نفسها، لا في غيرها، وقائمة بنفسها لا بغيرها" (4)، و قد ترتب عن هذه الرؤية الوقوع في عدة شبهات وآفات، من مثل تخليد العقل، ذلك أن اللوغوس اليوناني يتنزل منزلة مدبر العالم في التصور اليوناني، ومشهورة هي الرؤية الأنطولوجية للوجود في الفلسفة اليونانية وتسميتها للخالق ب"العقل الأول"، ومادام العقل البشري قبس من هذا العقل الخالد وجب أن يكون هو كذلك خالدا. الشبهة الثانية يسميها طه عبد الرحمن "التشيء"، ودلالتها أن العقل مادام جوهرا لزم أن ينطبق عليه كل ما ينطبق على الأشياء من صفات الثبات والجمود، وهذا غير حاصل مع العقل، بل واقع الفكر الذي أفرزه العقل يحيل على دوام حركته وتقلبه المستمر، وهذا يتوافق تماما مع الرؤية الإسلامية التي تنسب فعالية العقل للقلب، إذ أن الدلالة اللغوية للفظ "قلب" تنسجم مع ما ينسب للعقل من تقلب. والشبهة الثالثة "تجزيء الإنسان"؛ إن اختزال الإنسان في العقل كفعالية ذهنية، فعالية مثلها مثل فاعلية الذاكرة و العمل، يوقعنا في تجزيء الإنسان، فيقال ذات عاقلة، ذات ذاكرة، ذات عاملة.. إلخ، وهذا يخل بالوحدة التكاملية للإنسان، وهو ما سيؤثر سلبا على النشاط الإنساني الإبداعي، وإقصاء طاقات أخرى كامنة في داخل الإنسان، فتعريف الإنسان بأنه حيوان عاقل نجم عنه استصغار وازدراء الفعاليات الأخرى التي تزخر بها الكينونة الإنسانية.
وقد تسربت عن ترجمة التعريف الأرسطي للإنسان بأنه "حيوان عاقل" للمجال التداولي الإسلامي رؤى خاطئة، فمفهوم "اللوغوس" في اللغة اليونانية التي ترجمت بالنطق لها دلالتان : القول والعقل، ولأنه لا يوجد في البيان العربي مفهوم يجمع بين الدلالتين فقد ترجم "اللوغوس" بالنطق " وفي هذا الاقتران بين عمل العقل وعمل اللسان لبس صريح، ذلك أن التداول العربي لأول وهلة يحمله على مدلول يخالف المدلول الذي يستخدمه فيه التداول اليوناني، فإذا كان اليوناني يقصد بهذا الاقتران أن العقل واللسان وجهان لحقيقة واحدة، فإن العربي يتبادر إلى فهمه أن العقل و القول حقيقتان مختلفتان، بل حقيقتان متضادتان" (5)، كما أدى هذا التعريف إلى اقتران القول و العقل، و هذا خطأ، فليس كل قول صادر عن تفكير عقلاني، بل إن ثمة من الأقوال ما ليس فيها مسكة عقل، كما أن ثمة حقائق عقلية في منتهى الدقة تستعصي عن التعبير اللغوي ويعجز اللسان عن تأدية معانيها، إضافة إلى هذا فإن اعتبار الفاعلية العقلية ماهية الإنسان أدى إلى اختراق المجال التداولي الإسلامي الذي يجعل من العمل أهم مقومات الذات البشرية من قبل مجال تداولي آخر، فالعقل لا يراد لذاته و إنما للعمل بما يقضيه، بل إن النظر نفسه غير مفصول عن العمل، و إنما هو من الأعمال القلبية، و حتى الفلسفة في الفكر الطهائي ليس هي التفكير العقلي و إنما هي " العمل بالعقل" (6).
و من الأغلال التي كبلت العقل فصله عن جملة مكونات أخرى حتى استحال عقلا مجردا، حيث استقر في نفوس المتفلسفة أنه كلما أمعن العقل في التجريد كان أشرف، و قد ذكر طه عبد الرحمن من جملة هذه الأغلال التي أسرت العقل الإسلامي و حصرت فعاليته بشكل كبير، فصل العقل عن الحس، و هذا الفصل يعزى إلى التأثر بفلسفة المثل الأفلاطونية، فأفلاطون اعتبر المعقولات أشرف الموجودات و رفعها إلى أعلى رتبة وجودية، بينما وضع المحسوسات إلى أحط المدراك و عدها مجرد خيالات و ظلال و أشباح. و هذا الفصل الذي انتقل للعقل الإسلامي من الفلسفة اليونانية لا ينسجم مع ما هو منصوص عليه في النصوص الدينية التي تشكل معينا لأسس المجال التداولي و محدداته، فالعقل في هذا المجال غير مفصول البتة عن الحس، بل إنه حاضر في أي إدراك حسي، إذ "في النظر عقل، و في السمع عقل، و في النطق عقل، و في الشم عقل، و في الذوق عقل، أما إذا لم يكن في الحس عقل، فلا يعد حسا، و إنما فقدا للحس، فمثلا النظر بلا عقل يكون عمى، و السمع بلا عقل يكون صمما، و النطق بلا عقل يكون بكما، و الشم بلا عقل يكون خشما، و الذوق بلا عقل يكون تفها، و الشاهد على ذلك الآية الكريمة : و منهم من يستمع إليك أفأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون و منهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي و لو كانوا لا يبصرون" (7)، و هكذا فحضور العقل في أية فاعلية حسية تستوجب حضورا للعقل، و إلا انتفت أية وظيفة للحس، بل و انقلبت إلى ضدها.
و مما تسرب إلى الفكر الإسلامي، ضرورة الفصل القاطع و التام بين العقل و القلب تمهيدا لقيام أي معرفة علمية، فهذا الفصل حسب العقل المجرد من متطلبات الموضوعية، إذ أن القلب منبع الأحاسيس و الوجدان و العاطفة، بينما العقل الوسيلة الوحيدة الكفيلة ببناء منظومة فكرية متناسقة و متوازنة لا تشوبها أية شائبة عاطفية، و مزج فاعلية العقل بفاعلية القلب قد يؤدي إلى إنتاج بضاعة مزجاة حسب تصور العقل المجرد. و قد كان من آفات هذا الفصل بين العقل و القلب إسناد صفة الجوهرية للعقل بدل القلب، و قد أشرنا فيما مضى إلى ما يترتب على اعتبار العقل ذاتا قائمة بذاتها، كما ترتب عن هذا الفصل تفقيه الممارسة الدينية، و المقصود بالتفقيه حصر اهتمامات المشتغلين بالحقل الديني من الفقهاء بالنظر إلى ظاهر الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلفين من غير الغوص في استنباط ما وراء تلك الأحكام الظاهرة من قيم خلقية ومعاني روحية، و هكذا تم إهمال أهم مقصد من مقاصد الدين ألا و هو "الأخلاق"، و السبب راجع كما قلنا إلى الفصل بين العقل و القلب، و هكذا بإعارة العقل أهمية قصوى لا تضاهيها أية فعالية أخرى تم إهمال "الفقه القلبي" اللهم إلا استثناءات نادرة تتعلق بنسبة النية للقلب و إناطتها به، أما ما دون ذلك من أعمال قلبية فلا نكاد نعثر عليها في الكتب الفقهية، و قد أدى إهمال المعاني الخلقية المنطوية في الأحكام الشرعية إلى آفتين :
أ. قصر الأخلاق على جزء محدود من أعمال المكلفين (8)، بينما الأصل أن الأخلاق قيم تحضر في أي عمل، فهي مناط التحسين و التقبيح، بل إن هذه الأعمال نفسها ترفع أو تخفض من منسوب ما يتمتع به الإنسان من قيم أخلاقية، أقصد أن الأعمال بمختلف أشكالها مرتبطة بالقيم الأخلاقية من وجهتين، وجهة قبلية، فأي سلوك إلا و يكون انعكاسا لقيمة خلقية، وجهة بعدية، أقصد أن العمل قد يحفز الإنسان أو يثبطه من حيث سلوكه الأخلاقي، إذ ذاك فلا توجد أعمال يمكن النظر إليها بإزاء المعاني الأخلاقية نظرة محايدة باردة.
اعتبار الأخلاق من المقاصد الكمالية (9) ، و هي آفة خطيرة فعلا، فالنظر إلى الأخلاق ككمالات لا ضروريات مشكلة عويصة تتعارض على طول الخط مع الدين كما هو مبسوط في مراجعه الأصيلة، و الذي يعتبر الأخلاق الغاية الأساسية و لب الرسالات السماوية، و نستحضر هنا قول النبي صلى الله عليه و سلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أما الإشكال الثالث المترتب عن فصل العقل عن القلب فيتمثل في إلغاء الوظيفة التقويمية للقلب و هي التي يعبر عنها طه عبد الرحمن بقوله "عدم تبين آفات المعرفة العقلية" (10)، و قد انطلق طه عبد الرحمن في هذه النقظة من نسبة القرآن للقلب أنواعا من الأمراض و الآفات، و مادام القلب هو منتج الأفكار و التصورات، فقد فوت العلماء المسلمون على أنفسهم تبين مختلف المعارف التي يفرزها القلب، بله تقويمها على مقتضيات القلب السليم.
و من أوجه الفصل بين الدين و العقل التي دخلت المجال التداولي الإسلامي من الفلسفة اليونانية، الفصل بين الشرع من جهة و العقل من جهة أخرى، و هذا الفصل يبرز بشكل أوضح أثناء الوقوف على مساعي بعض علماء المسلمين للوصل بين العقل و الشرع، ما يقضي ضمنيا باعتقادهم في تنافر المحددين، فطائفة تتحدث عن تبعية العقل للشرع، و أخرى تتحدث عن تبعية الشرع للعقل، و تيار يرى أن الشرع مكمل للعقل، و آخر يقول بتكميل العقل للشرع، و طائفة فصلت بينهما فصلا صريحا على مستوى الكيفية البيانية و إن وصلت بينهما في الغايات و المقاصد. ومن مظاهر الفصل بين النسق العقلي و النسق الشرعي اشتهار تعابير من قبيل "يجوز عقلا و شرعا" و "لا يجوز في العقل و لا في الشرع" و "يوجبه العقل و الشرع".. إلخ، و كلها تعابير توحي بتمييز علماء المسلمين بين العقل و الشرع واعتقادهم في تغاير النسقين.
و من دواعي هذا الفصل التأثر ببعض الفلسفات اليونانية كما أشرنا من قبل، وخاصة فلسفة "أرسطو" التي تضع حدودا بين العبارة البرهانية و العبارة الخطابية، وفلسفة "أفلاطون" التي تميز بين "اللوغوس" و "الميتوس"، وهكذا فتبعا للنظريتين فالدين يتنزل منزلة "الميتوس" المتوسل بالقول الخطابي، فما في الدين لي سوى خيالات و تمثيلات، بينما العقل يتوسل العبارة البرهانية، و من غير شك فإن هذه الدعوى عارية عن أي برهان، و إنما أخذت تسليما و تقليدا دون تقليب النظر فيها و إمعان التأمل فيها.
و إلا فمتى نظر الفيلسوف في هذه الدعوى بعين ناقدة أدرك أن السر الكامن وراء هذا الفصل إضافة إلى ما ذكرناه من تقليد يرجع بالأساس إلى عدم تمحيص وجوه المقابلة بين العقل و الشرع على مستويات ثلاثة : "المصدر الأصلي" و "المضمون الدلالي" و "الكيفية البيانية" (11).
أما عن المصدر الأصلي فقد أخذ المتفلسفة بالظاهر من عزو العبارة العقلية للإنسان و العبارة الشرعية للإله سبحانه و تعالى، و هذا باطل غير مسلم، إذ العقل الإنساني صادر عن الإله صدور القول الشرعي عنه. أما إذا اعترض أحدهم بقوله أن العقل صادر من داخل الإنسان و الشرع من خارجه، فيعترض على هذا من باب أن الاعتقاد مبني على تصور خاطئ للشرع والعقل معا، فالعقل شرع من الداخل، و الشرع عقل من الخارج.
أما عن ادعاء المقابلة بين العقل و الشرع من جهة المضمون الدلالي "فإنها تفيد أن المضمون الدلالي العقلي مضمون إنساني صرف، بينما المضمون الدلالي الشرعي مضمون إلهي صرف، و هذا أيضا لا يصحح بإطلاق، ذلك أن الإنسان يفهم المضمون الشرعي فهمه للمضمون العقلي" (12)، و عدم إدراك بعض المعاني الدينية تولد عن تجريد العقل و إيغاله في التصورات النظرية، فالعقول البشرية متفاوتة حسب موقفها من العمل الشرعي، و كلما انسلخ العقل عن مقتضيات الشرع وخضع للمحسوس و الظاهر قلت معرفته بلطائف الدين و استشكلها، و كلما توغل الإنسان في الاشتغال العملي تبددت سحائب العقل المجرد ونفذ إلى مقاصد الشرع، بل و صار عقله نفسه شرعا. أما عن الكيفية البيانية "فالإنسان يستعمل كيفية البيان على مقتضى الشرع استعماله لكيفية البيان على مقتضى العقل" (13).
و من أوجه الفصل بين المكونين الديني و العقلي، الفصل بين الوحي و العقل، و قد اتخذ هذا الفصل ثلاث صور مختلفة، توهم بها ذوو العقل المجرد التعارض بين المكونين، و هي؛ أولا أن العقل بما هو رأي يتعارض مع الوحي، فهذا الأخير مكون ثابت و مغلق غير خاضع للسيرورة والمراجعة، بينما الرأي المتولد عن العقل يقبل التعدد و المراجعة، الوجه الثاني أن الوحي "نقل"، و النقل من مقابلات العقل لأنه يقضي بالتسليم بينما الفعالية العقلية تقوم على النقد، الوجه الثالث أن الوحي خبر خارجي، و الخبر الخارجي يتعارض مع العقل.
و قد انتقد طه عبد الرحمن هذه الوجوه من خلال مقاربة عقلية منطقية حتى تستعاد علاقة الانسجام و التكامل بين الدين و العقل، فبخصوص الوجه الأول، فالتسوية بين الرأي و العقل لا تصح، إذ أن الرأي حكم يتوصل إليه العقل باجتهاده في مسألة من المسائل، فهو ليس العقل ذاته، بل أحد ثماره، و رد الرأي إلى العقل كرد الجزء إلى الكل، أما الوحي فهو "إمداد للفعل العقلي نفسه، بحيث يورثه علم ما لم يعلم بنفسه" (14). و إذا نظرنا إلى الوحي بمعنى "النقل"، فلا يكون هذا الأخير نقيض العقل، إذ أن النقل ليس إلا تحريك اللسان لتبليغ مضمون ما، فهذا الكلام يبقى على معقوليته الأصلية حتى بعد تحريك اللسان به، ومجرد تبليغه إلى الآخر ليس فيه دلالة على سقوط قيمته العقلية و استحالته خرافات وأباطيل، كما أن المعقولات هي الأخرى ليست كلها نظر، بل في أحيان كثيرة تقوم على نقليات و أخبار، و حياة الإنسان تستحيل إذا هو ألزم نفسه بالأخذ بما توصل إليه بعقله فقط، وإذا استند إلى معقولات الغير صار ما اتكأ عليه منقولات، و هكذا الوحي الإلهي، فهو منقول من جهة تبليغه من قبل ذات، لكنه معقول من جهة مضمونه و محتواه، و مجرد قيام ذات بحمل رسالة الله إلى العالمين ليس فيها البتة ما ينفي عنها معقوليتها. و لعل من الأسباب التي أوهمت بمقابلة العقل للنقل، الاعتقاد في التضاد بين الخبر و النظر، وهذا لا دليل عليه، إذ يمكن أن يكون الخبر نظرا معقولا كما يجوز أن يكون النظر مبنيا على خبر.
و الوجه الثالث للتعارض بين الوحي و العقل، أي اعتبار الوحي سلطة خارجية فنتيجة لالتباس لغوي، إنه من غير شك أن جملة الحقائق الغيبية لا يمكن التعبير عنها بلغتنا التي هي صورة لواقعنا، أي أنها تشكلت لتصويره لنا وتقريبه إلى أفهامنا، والوحي من جملة الحقائق التي أخضعت لأساليب البيان البشري، فوصف الوحي بأنه خارجي قياس للغائب على الشاهد، وإلا فإن القرآن لا يفتأ يتحدث عن قرب الله من العباد فمن باب أولى أن يكون كلامه قريبا من قلوبهم لا أنه سلطة خارجية، لذلك يقول طه عبد الرحمن "إذا وصف الوحي بكونه خارجيا، فلا ينبغي أن يحمل ذلك على معنى غير مكاني" 15)). كما ساد الاعتقاد مع انتشار فكر التنوير الذي يلغي أية وصاية، و مشهور في هذا الصدد التعريف الكانطي للمفهوم، بأن الوحي نوع من الوصاية التي تقضي على استقلالية العقل وتضيق آفاقه وتنقص قدراته، و طه عبد الرحمن يرفض هذه الدعوى لأنها لا تترجم واقع الحال كما هو، فالذي يحد من فاعلية العقل ويشل قدراته ليس الوحي و إنما أوصياءه الذين يزعمون أنهم مستأمنون عليه، و هكذا حمل الوحي وزر من يدعي حمايته، وإلا فإن الوحي يدعو كما يبدو واضحا من استقراء النصوص الدينية إلى الحق والكمال ويطلع العقل على ما لا سبيل له إلى معرفته مثل الأخبار الغيبية، هذا فضلا عن كون الشبهة قامت على أساس باطل، فالوحي ليس سلطة خارجية، لأنه مادام القلب محل الوحي و العقل، فهما معا من جنس إدراكي واحد، ومن شأن تضافرهما في القلب أن يؤدي إلى تكميل القوة الإدراكية للإنسان.
الوجه الآخر للفصل بين الدين و العقل اتخذ شكل فصل الإيمان عن العقل، ومقتضاه أن لا شيء من الإيمان في العقل، و لا شيء من العقل في الإيمان، إذ لكل من الإيمان و العقل براديغمهما الخاص بحيث لا يمكن أن يتوافقا أو يتكاملا، أما الادعاء الأول أي خلو العقل من الإيمان، فلا يصح إذ أن ثمة الكثير من القضايا التي يستند عليها العقل المجرد مسلمات لا دليل عليها، مثل المقدمات التي ينبني عليها الدليل، و "لما كان التسليم عبارة عن قبول القول بغير دليل في كل الأوقات أو في وقت مخصوص، فقد صار هذا التسليم من جنس الإيمان المقلد"16))، كما أن تقبل جدوى هذا العقل المجرد تسليما يتنزل منزلة الإيمان المقلد، حتى إن الفيلسوف "كارل بوبر" تحدث عن ما سماه "الإيمان بالعقل"، فاللازم هو وجود عقل آخر يتجاوز حدود هذا العقل يثبت جدوى هذا العقل ونجاعته، أما عن الدعوى الثانية التي هي خلو الإيمان من العقل فيمكن نسفها من خلال استحضار أن الشارع جعل العقل مناط التكليف، فمن لم يكن عاقلا لم يكن خطاب الشرع موجها إليه.
إن فصل العقل المجرد بين الإيمان و العقل راجع بالأساس إلى إرشاد الدين الناس للإيمان بأدلة و براهين متنوعة متعددة لا يستوعبها و لا يحيط بها العقل المجرد، ولهذا وقع في ما يسمى "مغالطة فساد التعميم"، يقول طه عبد الرحمن "بيد أن في النص الديني شيئا آخر غير هذا التنوع في الأدلة والأمثلة، و هو الذي جعل القائلين بهذا الفصل يختزلون المضمون الديني فيه، واقعين في مغالطة فساد التعميم، وهذا الشيء هو بالذات الحث على الإيمان بطرق لا تتسع لها أبنيتهم الاستدلالية المجردة فيصبح حد الإيمان عندهم هو أنه الاعتقاد الذي لا دليل عليه، و الصواب أن هذا لا ينطبق إلا على الإيمان المقلد" (17).
تلك كانت أهم العوائق التي وقفنا عليها في كتابات الفيلسوف طه عبد الرحمن والتي تحول دون انطلاقة العقل الإسلامي واندفاعه نحو الإبداع الخلاق و الخروج من نفق التبعية وآفات التقليد. إن اختراق المجال التداولي اليوناني للفكر الإسلامي قد أدى إلى عقم العقل الإسلامي، ذلك أن المجالين بمثابة بحرين منفصلين بينهما برزخ لا يبغيان، فأي محاولة للمزج بينهما ستبوء بالفشل، فلا مناص من أجل ضخ دماء جديدة في عروق الفكر الإسلامي من الاستناد على منطلقات خاصة تنتمي إلى مجالنا، وهو ما سنوضحه فيما سيأتي.
(1) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 46.
(2) نفسه، ص 48.
(3) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة : 1. الفلسفة و الترجمة. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 1995. ط1. ص 174.
(4) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، 59.
(5) نفسه، ص 56.
(6) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة. ص 173.
(7) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 67.
(8) نفسه، ص 74.
(9) نفسه.
(10) نفسه.
(11) نفسه، ص 90-91-92.
(12) نفسه، ص 91.
(13) نفسه، ص92.
(14) نفسه، ص 95.
(15) نفسه، ص 97.
(16) نفسه، ص 105.
(17) نفسه، ص 106.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.