مع الوقت بدأتُ أدرك أن عشقي للفيلم قد تحوَّل إلى إدمان فعلي.. إدمان قد أحتاج؛ لكى أشفى منه، أن أعرض نفسي على طبيب نفسي، ولكني لا أريد أن أشفى، ولا أود أن يزايلني هذا العشق. أتذكر جيداً المرة الأولى التي شاهدتُ فيها الفيلم.. كنت طفلاً في الثامنة، أجلس بجوار أمي على الأريكة العريضة، التي ما تزال في نفس المكان في صالة منزلنا. أمي منشغلة بتقشير البطاطس، ولكن هذا لا يمنعها من إلقاء نظرة على التليفزيون من حين لآخر؛ لتتابع الأحداث التي تعرفها بدقة، وقد شاهدتْ الفيلم مرات من قبل. مع مرور نصف ساعة على بداية الفيلم، كنتُ قد غرقتُ بالكامل داخله، ذبت في تفاصيله، وانفصلت مؤقتاً عن العالم الملموس حولي. "الكيت كات" منذ لحظتها لم يعد بالنسبة لي مجرد فيلم، بل أصبح عالماً متكاملاً، أنتمي له بشكل ما. أسرني كل شىء في الفيلم: منازل حى الكيت كات العتيقة، ألوان الفيلم الباهتة قليلاً، التي تناسب حيوات الأبطال الباهتة، وفي الخلفية موسيقى العظيم راجح داود الناعمة، وكادرات المُخرج داود عبد السيد تترك أثراً في روحي، كنُدبة لا تزول. لماذا أحب هذا الفيلم إلى هذه الدرجة، التي دفعتني إلى مشاهدته أكثر من مائة مرة، دون مبالغة في الرقم؟ لو كنتُ اعرف لما احتاجتُ أن أكتب ما تقرأه! ما يزال السؤال عالقاً في ذهني، يتأرجح كبندول ساعة كلاسيكية، دون إجابة. ربما يكمن السر في شخصياته.. شخصيات الفيلم كلها هشة، رغم قوتها المظهرية أو غموضها الخارجي، التي تحاول من خلاله أن تخفي ضعفها. الشيخ حسني، الكفيف الذي يسخر من المبصرين ببصيرته، يختنق تحت وطأة عاهته بينه وبين نفسه، يحلم دائما بأنه يركب موتيسكل، يطير دون أن يخشى الاصطدام بحاجز، العود الذي تحول مع الوقت لصديقه الودود المُقرَّب، يدندن لأصدقاء جلسة الحشيش، يغني لنفسه ولغيره؛ لعلَّه يجد بعض البراح، البراح الذي دفع بيت أبيه ثمناً له ولجلسات الحشيش مع الصُحبة. ابنه، يوسف، الشاب الجامعي المثقف، العاطل عن العمل، يحب الصيد، يحب أبيه، ويكره فيه عجزه، يود دائماً أن يصرخ فيه ويُذكِّره بحقيقته ككفيف، والتي يراوغها دائماً، يحلم بالهجرة لأوروبا؛ ليخرج من إحباط الواقع، يبكي بين يدي دلال وقد عجز عن مضاجعتها لتوِّه، عجز حتى عن أن يكون رجلاً، بالدلالة الشعبية للكلمة. دلال، عشيقة يوسف، الجميلة التي يتمناها رجال الحى، تقيم في مصر وحيدة بعد أن سافر زوجها؛ ليعمل في الخليج، غلبها حبها ليوسف؛ حتى أذلها عشقها. جَدَة يوسف وأم الشيخ حسني، العجوز التي تشاهد بعينيها انهيار حياة ابنها الوحيد، دون أن تستطيع أن توقف الانهيار، بعد أن سرقه عفريت العود من سلك التدريس والوظيفة المحترمة. شخصيات الفيلم هشة مثلنا، تحاول أن تراوغ واقعها البائس، تداعب الحُلم، ولو في خيالها. لا يمكنني أن أقطع، يقيناً، بسبب تعلقي بهذا الفيلم، ولا أريد أن أبرر حبي له، وما زلتُ أهرب من قراءة رواية "مالك الحزين" التي كانت نواة للفيلم، ربما من الأفضل أن يظلَّ السؤال معلقاً، بلا إجابة، محتفظاً بسحره. فقط أنا متأكد أنني ما زلت أحفظ سيناريو الفيلم وحواره نصاً، ويمكنني أن أؤديه منفرداً، أو أسبق أبطاله، وأقول ما يجب أن يقولوه، أدندن مع الشيخ حسني في نهاية الفيلم، بصحبة ابنه: ".. يمكن تلقى الغلابة في أول الصفوف ". يمكن يا شيخ حسني.. يمكن!