ابن سينا أميرُ الأطباءِ الذي يبحثُ عن صحةِ البدنِ هو نفسُهُ الفيلسوفُ الذي يبحثُ عن صحةِ الذهنِ. لمْ يكتملْ للفلسفةِ الإسلاميةِ جوهرٌ ذو مظهرٍ براقٍ إلَّا بمعنى من "إشارات" ابن سينا على الرغم من أنَّ الفارابي والكندي سبقاه إلى إرساء دعائمِهَا في كثيرٍ من المواضعِ إلَّا أنَّ ابن سينا كان أعمقَ منهما حسًّا وأكثرَهُم إلمامًا وشموليةً في الشرحِ والتأويلِ والتفصيلِ والتبويبِ، وعلى يديهِ زالَ كلُّ شكٍّ فى إمكانيةِ وجودِ فلسفةٍ إسلاميةٍ راسخةِ الأسسِ عميقةِ الأثرِ قويةِ الدعائمِ بسماتٍ ومعالمَ مستقلةٍ واضحةٍ، مفطومةٍ من حلمةِ الغربِ وفلسفةِ الإغريقِ، لذا جازَ لنا أنْ نقدمَهُ عليهما، ونسميه "زعيم الفلسفة الإسلامية" فبفرطِ حسِّهِ وتناولِهِ الوجود والنفسَ الإنسانيةَ وتصنيفَ العلومِ استطاعَ أنْ يقدمَ المثالَ الكاملَ الشاملَ للفلسفةِ الإسلاميةِ؛ ثم نرفَعُهُ على فلاسفةِ العصورِ الوسطى أجمعين دون استثناء "جالينوس"، و"أفلوطين"، الذي يعتبرُ مؤسسَ الأفلاطونيةِ الحديثةِ، والتي كانتْ لها تأثيرٌ كبيرٌ في العصورِ الوسطى. كان ابن سينا مترجمًا عن رُوحِ عصرِهِ، وإلى هذا يرجعُ تأثيرُهُ العظيمُ، وشأنُهُ في التاريخِ بالغَ الأثرِ قويَّهُ في نفوسِ الغربيين، واعتبره بعضُهُم قرينَ جالينوس في الطبِّ وأعلى منه في الفلسفةِ. في فلسفتِهِ.. قصدَ ابن سينا في فلسفتِهِ إلى الوجودَ المطلقَ، الذي يحملُ على الوجودِ الذي لا علةَ فيه وعلى الوجودِ المعلولِ أي لا يكون نفسَ ماهيتِهَ ولا جزءًا منه ويكون عارضًا وهو إذن معلولٌ مستندٌ إلى علةٍ، مخالفًا أرسطو في أوّل مقالة الجيم ممّا بعد الطّبيعة بأنّه يوجدُ علمٌ موضوعُهُ الوجودُ بما هو موجودٌ، وهو الفلسفةُ الأولى، والذي قصد به الوجودَ من حيث هو موجود الوجودَ الأتمَّ والأشرفَ في مراتبِهِ كلِّها أي صورةِ الصّورِ، والمبدأُ الأوّلُ، ووافقه في التأويلِ الثاني الذي يُرَادَ به عمومُ الوجودِ الساري في الأشياء كلِّها، التي إذا نُظِرَ إليها فيما يخصّها كانت مواضيعَ علومٍ جزئيّةٍ تختصُّ باختصاصِهَا، وإذا نُظِرَ إليها فيما يعمُّها كلّها، كان ما يعمُّها الموضوعُ الأوّلُ لعلمِ الوجودِ بما هو موجودٌ، وهو المعنى المقوّمُ للقائمِ للذاتِ المتحققُ في الخارجِ، فكون الشيءُ ماهيةً لا تلحقُهُ بالقياسِ إلى وجودِهِ بإطلاقٍ، إنما بالقياس إلى وجودِهِ إلى شيءٍ آخر، غير أن مقدماته في النفس أرسطية بحتة فقد عرَّف النفسَ على أنها كمالٌ أوليٌّ لجسمٍ طبيعي آلي ذي حياةٍ بالقوةِ أي من جهة ما يتولد، وهو"مبدأ القوة المولدة"، ويربو فيكون "مبدأ القوة المنمية" ويتغذى فهو "مبدأ القوة الغاذية" وذلك كله ما يسميه بالنفس النباتية. واستمد من الفارابي قبسة وضاءة وهاجة طور عل إثرها نظرية النفس، وسار على مضماره في فلسفته الطبيعية والإلهية ولا سيما "نظرية الصدور"، ناسجًا على منواله، حتى ادعى البعضُ منادته بالمبادئ التي يدعون أن الفارابي نادى بها من قبله بأنَّ الكونَ قديمٌ أزليٌّ وغيرَ مخلوقٍ، وأنَّ اللهَ يعلمُ الكلياتِ لا الجزئياتِ، وأنَّ الأجسامَ لا تقومُ مع الأرواحِ يوم القيامة، فكفَّره الغزالي في المنقذ من الضلال، وابن كثير في البداية والنهاية، وأكد ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب أن كتابه "الشفاء" اشتملَ على فلسفةٍ لا ينشرحُ لها قلبٌ متدينٌ، لكنَّ اتباعَهُ الملقبين ب"الأُلى" وأشهرهم النصير الطوسي الخواجا نصير الدين انتصرَ لمذهبِ ابن سينا وشرح "إشاراته"، وكان يسميها "قرآن الخاصة"، وردَّ على الشهرستاني في مصارعتِهِ ابن سينا بكتاب مصارعة المصارع. وذهبَ الشيخُ الرئيسُ مذهبًا آخر في تأويلِ رؤيةِ أرسطو في النظرةُ في وجودِ الشيءِ لا في الشيءِ الموجودِ، على أساسِ اندراجِ الموجوداتِ تحت الوجودِ فهي إذن كلها "أي الموجودات" أقلُّ منه بيانًا وهو أظفرُ منها جميعًا فلا شيءَ إذن بأعرف من الوجودِ، وعليه فلا شيءَ يعرّفُهُ ولا دليلَ عليه إلَّا نفسهُ، فهو إذن بديهيٌّ وهو أولُ ما تستحضرُهُ النفسُ من معنى، لكنه يقرُّ بأنه لا حقيقةَ خارجِ الموجودِ، ولا علمَ إلَّا بالموجودِ، ووردَ هذا الرأيُ في كتابِهِ "إشارات وتنبيهات". وسعى سعيًا حثيثًا إلى نفي الأباطيلِ وتكذيبِ من يذعنُ لنفسه التي تأخذُهُ على أنَّ الموجودَ هو المحسوس، وما لا يدركُهُ الحسُّ بجوهرِهِ ففرضُ وجودِهِ محالٌ، وما لا يتخصصُ بمكانٍ أو وضعٍ بذاتِهِ كالجسمِ أو بسببِ ما هو فيه كأحوالِ الجسمِ، فلا حظَّ له من وجودٍ. ومن هنا راحَ ينفي زعمَ من يقولون بعدمِ جوازِ شيءٍ ينالُهُ الحسُّ بأفعالِهِ لا بذاتِهِ، معتبرًا الوجودَ عرضًا للماهيةِ.. أحمد عبد العال الرشيدي