إن الفكرة المحورية، الفكرة المركز، هي الاستقلال، لا التقدم، أو النهضة. هو عمود الخيمة، لأننا لا ننشد تقدما مقطوع الظل، بل نهضة شاملة تعيدنا إلى الواجهة. ولن يكون ذلك كذلك إلا عبر الاستقلال، فهو الوسيلة والغاية، وهو حاجة المجتمع الحيوية إلى الحياة، وتلبيته تكون عبر القفز بعقولنا فوق مستنقع الزيف الذي استقطرت منه الأيدلوجيات الطافية على سطح مجتمعنا. أما طائرنا المجنح من سيقفز بنا عبر هذا المستنقع فهو الإبداع، بعد أن نهضم ما أورثه الأجداد لنا لنتجاوزه، وما أنتجه الآخر من أفكار وأطروحات لنتجاوزها أيضا، عندها ستتهاوي كل الثنائيات التي تحلّق حولها مفكرونا على مدي يشارف القرن ونصف القرن: الأصالة والمعاصرة، الإسلام والعروبة، الشورى والديمقرطية، الإسلام والعلمانية، الدولة القطرية (التجزئة) والوحدة….إلخ. إن علاقة التضاد التي نُسجت بين هذه الثنائيات هي أفخاخ فكرية نصبها أحدهم، ليقع في شراكها الجميع، وتفنى حياة مثقفينا في شن الحروب بين بعضهم البعض باسمها، أما من سعى للصلح بينها، فلم تزد محاولاته عن تهويمات خادعة لا معنى لها، ليحل الخراب. أوليست الحياة المعمرة لتلك الثنائية "الأصالة والمعاصرة" أبلغ دلالة على عقم الجميع، فلا الأصالة انتصرت ولا المعاصرة اكتملت، ولا محاولة التوفيق بل لنقل التلفيق نجحت، فنجاحها كان مرهونا بتجاوز هذه الثنائية ضرورةً، هذا التجاوز الذي أقررنا أن الارتقاء إليه يكون عبر سبيل أوحد هو الإبداع، لتقع الفكرة على "بقعة الإمكان" فتضيئها. إن طرحنا السابق يعُبّد لنا الطريق كي نتقدم إلى الحديث عن الاستقلال كمشروع سياسي، وأولى خطواتنا ستكون عبر تناول نماذج من الثنائيات المذكورة أعلاه وتفكيكها (ثم إعادة تركيبها) لتبيان أن التضادية الحاكمة للعلاقة بين طرفيها تضادية واهية. لكن قبل أن نقدم على ذلك يعن لنا أن نوضح لماذا ونحن نتحدث عن مشروع للمستقبل، نجعل من الاستقلال حجر الزاوية فيه؟ لا يمنعنا الاعتداد بذاتنا من القول بأن السبب هو طغيان الآخر وإمبرياليته التي تحرضه على احتواء ذاتنا في جوفه أو إقصائها، لتبقى ذاته وحدها هي "المعاصرة"، وهذه الهجمة الإمبريالية تهزمنا لا محالة إذا تمترسنا خلف أصالتنا (تراثنا)، كذا نلاقي ذات المصير قطعا إذا تماهينا مع ذات الآخر تلك. القطرية (التجزئة) والوحدة. إن مشروع الاستقلال لن يمر إلا عبر الوحدة، هذه مسلمة لا سبيل لأحد في دحضها مهما بلغ حظه من الألاعيب والشعوذة الفكرية، فإما..أو؛ إما أن نشق طريقنا إلى الوحدة العربية، ومن ثم طريقنا للاستقلال، أو نستمر في سيرنا بالمسار الذي قطعت فيه الأنظمة العربية القائمة شوطا كبيرا؛ مسار التبعية. هذه الوحدة التي أضحت من بديهيات عصرنا، وإن لم تستجب لها الأنظمة العربية، لكننا هنا لا نضعها في مقابل القطرية، إذ أصبحت واقعا مستقرا، لا قلقلة تؤرقه، واقع يتحدى تلك الصلة التي مازال يرددها بعض القوميين بينه وبين "سايكس بيكو". علينا ونحن ننشد الوحدة أن نعترف بكون الدول العربية تمايزت فيما بينها، اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، (أنذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن هذا التمايز كان معاشا بدرجة كبيرة قبل "سايكس بيكو")، وأصبحت هذه هي الحدود الحقة التي وجب العمل على إلغائها، وهذا الاعتراف بتمايز الدول العربية يرشدنا إلى نتيجة تتماهي معه، هي أن سبيلنا للوحدة يمر عبر تقوية الدولة القطرية، والعمل على دمقرطتها، وحينها ستتشكل لديها الجرأة لتستقبل قبلة العروبة، حينها لن يكون رفع شعار الوحدة سردابا خلفيا يستعمله الطغاة للهروب من استحقاقات داخلية وجب عليهم أداؤها. العروبة والإسلام. رغم أن المقابلة بين العروبة والإسلام تولدت في ظرف تاريخي معين، ولولاه لما كانت لهذه العلاقة أن تكون، لكنها استمرت، فنحي الدين جانبا وأرسيت القومية على أساس من اللغة والتاريخ فقط، بل ونفى أحد مؤسسيها (ساطع الحصري) أن كان للدين أي دور في تشكل الفكرة القومية، وربما لم ينح بعض القوميين ذات المنحى، لكن المفاصلة بين العروبة والإسلام ما زالت قائمة في كتاباتهم. وعلى الجانب الآخر نجد الإسلاميين أو قسما منهم، قد لفظ هذه الفكرة، بل وعاداها، لحساب أخرى ورثها ضمن ما ورث؛ فكرة الخلافة، وحتى القسم الآخر الذي ربما لم يعادها لكنه لم يكترث بها، لتتوارى، وتترك خلفها ثغرة تصم أطروحتهم من حيث لا يدركون. وقد اشترك الطرفان، الإسلاميون والقوميون، في سقطة فكرية أخرى، حيث استندا في تأسيس أطروحتيهما إلى الماضي لا حتى كما كان، بل كما كان ينبغي أن يكون!، من ثم، فقد أوغلوا في التهويم بعالم الزيف، وصار من الصعوبة بمكان أن يتجاوزوه. إذن فعلاقة المقابلة هذه (والمفاصلة كذلك) هي علاقة زائفة، بحكم النشأة، كذا بحكم الواقع الذي يلزمهما أي العروبة والإسلام الانسجام والتوافق، من أجل تحقيق الاتحاد بين الدول العربية، إذ رغم العوائق التي قد تحول دون إنفاذه، ورغم العراقيل التي قد تُصطنع للحيلولة دون تجسده، غير أن الواقع بمعطياته يشرعنه، بل يدفع به دفعًا، ليدير ظهره لأي دعوة وحدوية أخرى، ينادي بها البعض دون سند منه. وكما أقررنا سابقا فإن المنهج الذي حكم هاتين الأيدلوجيتين، وغيرهما من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار هو منهج الاقتباس، من ثم فإن الخطوط الفاصلة التي رسمت حدودا بين أطروحاتهم، كانت نتاجا له في المقام الأول، فكما قال أبو حامد الغزالي: "إن المقلد لا يصغي" ونضيف للواقع. نعم إن الإصغاء للواقع كان ليزيل خطوطا من تلك التي رسمها هؤلاء ليتخندقوا خلفها، رافعين رايات الحرب المقدسة. معادلة الاستقلال. إذن فالتفكيك وإعادة التركيب الذي قدمت نموذجا له، كذا احتياجات واقعنا الراهن تفضي بنا إلى معادلة بسيطة "ربما لا تكون جديدة كل الجدة إلا بقدر إعادة تركيبها للعلاقات بين الأفكار وبعضها البعض، وبين الأفكار والأشياء"، هذه المعادلة هي: "الثورية كمنهج للتغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، "الديمقراطية" كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والثقافة العربية الإسلامية كمرجعية نهائية". الثورية هي القنطرة الموصلة إلى ما أقررناه، كشرط أول في مشروعنا للاستقلال؛ الإبداع، "إذ أنك لن تبدع إلا إذا كنت رافضا لما هو قائم ثائرًا عليه"، رافضًا لتلك الجدر العازلة التي اصطنعتها العقول المقلدة، كأسوار تفصل بينها وبين الآخر، بل لنقل تفصل بينها وبين الواقع؛ ثائرًا على تلك العلاقات التي أقامها مثقفونا قسرا بين الثنائيات المذكورة أعلاه، ليدوروا حولها في مشهد عبثي مدى يزيد على القرن ونصف القرن من الزمان، حتى لتكاد الروائح النتنة تتصاعد من كتاباتهم عنها. أما حديثنا عن المنطلق الثاني؛ العدالة الاجتماعية، فلن نزيد فيه عن القول بأن لا سبيل لأي معنى كالنهضة أو التقدم أو الإبداع…إلخ إلى عقول ووجدان الجماهير، وهي قائمة تصارع فقط من أجل البقاء على قيد الحياة، لذا على الدولة أن تنقذ أرواح مواطنيها من براثن الكفر بكل معنى، وهو ما يحتم عليها أن تكثف دورها الاقتصادي والاجتماعي والخدمي..إلخ، لا أن ترهن نفسها لمنظومة السوق الرأسمالية الكونية التى تبشر بها الإمبريالية الغربية، كدين جديد يدلف من بوابة الاقتصاد ثم يغزو كل مجالات الحياة الأخرى؛ سياسية، واجتماعية، وثقافية، ولضمان أن لا تنجرف الدولة وراء هذه الدعوة "الكافرة" حُق أن تكون السلطة بيد صاحب المصلحة، إذن فهي "الديمقراطية" السلاح المسلط على رقاب الأنظمة إذا ما قهرتها جرثومة الضعف المجبولة عليها. لكن أنحسب أن نترك سدى؟!، بل هي الحرب تشنها علينا الإمبريالية الغربية، بعد أن نكون قد كفرنا بدينها، وهنا لزم أن نستقوي بمحيطنا، أي أن نتوحد معه، وهي مصر لا أحد غيرها، هو قدرها الجغرافي والتاريخي أن تتقدم لتُنفذ حلم الوحدة إلى أرض الواقع، أما المرجعية النهائية التي تُشرعنه، هي الثقافة العربية الإسلامية، التي توجب للأمة شخصية متميزة تجابه بها الإمبريالية الغربية، كذا فهي السلاح الأنجع لمقارعة "الرأسمالية الإمبريالية"، رأسمالية الاستهلاك. هذه المنطلقات هي حزمة واحدة، إما ان نقبض عليها بقوة أو نفلتها، لنُغل في قيد التبعية للإمبريالية الغربية، إذن المعادلة هنا "إما.. أو"، والدعوة لمنطلق من المنطلقات السابقة الذكر أعلاه تلزمها الدعوة لبقية الحزمة، بل لن أكون مبالغا إن قلت أن لا خيار في تبني العدالة الاجتماعية دون أن تكون موصولة بالاستقلال، موصولة بالديمقراطية، موصولة بالوحدة العربية، موصولة بالثورية كمنهج للتغيير. إن الثورة التي عصفت أعاصيرها بالطغاة، وأدفأت بلهيبها قلوبًا أثلجها الشك، وهدرت بنورها إلى العقول فأذهلتها عن زيف غيبها عن الحياة الحقة، حري بها أن تفجر في الأمة ينابيع القوة، لتتدفق في أوصالها شلالات الحيوية والنشاط، عندئذٍ ما من مطمح ترنو إليه إلا وأطبقت بيدها عليه، وما من أمنية تتمناها إلا وأتت إليها صاغرة تسعى في إذعان ورضوخ. وهذه الينابيع مخبوءة في نفوسنا تنبجس إذا ما أهوينا بمعاولنا في عنف لا رحمة فيه ولا شفقة على الحاجز الذي يمنع جريانها، ألا وهو الزيف، لتتدفق فيضان خير، يجتاح المجتمع فيقلب تربته؛ ليزيد خصبها، ويجرف في طريق سيلانه الزوائد والشوائب، فتجود الحياة علينا بأثمن ما في الوجود.. وإن ما قدمناه في هاتين الورقتين ليس سوى دعوة ونواة، دعوة لأن نمارس ذلك الفن الإلهي، فن الخلق، ونواة لمشروع استكشاف ذاتنا الحقة، بعد أن نكون قد أزحنا عنها ما طمس معالمها؛ لنشرع من بعدُ إلى تشييد استقلالها.