لم يقتصر مشروع النهضة العربية الحديثة علي قطر عربي واحد دون غيره، ولم تنفرد به أسماء هنا في المشرق أو أسماء هناك في المغرب، وإنما كان هذا المشروع ملتقي المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين والسياسيين في أرجاء الوطن العربي، أدلي كل منهم بدلوه، سواء بتخطيط مسبق أو بلا تخطيط، وصاغ رؤيته له. وخلال المحاورات التي دارت في الندوات والمؤتمرات واللقاءات التي عقدت في العواصم والمدن العربية، طرحت من كل الاتجاهات وجهات نظر عديدة لتشكيل هذا المشروع، في عناصره الأساسية وإطاره العام وآفاقه المتاحة، إلي الحد الذي يصعب معه نسبة هذه الفكرة أو تلك عن النهضة إلي مفكر معين، بعد أن تداولتها الكتابات المختلفة، وغدا بعضها كالبديهيات أو المسلمات التي لا يعرف أحد بدقة منبعها الأصلي. ومحمد عابد الجابري الذي فقده الفكر العربي في الثالث من شهر مايو 2010 أحد هؤلاء المفكرين الذين قدموا تصورهم لهذا المشروع بدفاعه عن العقل والبرهان لا عن التقليد والبيان، وربطه بين الفكر والفعل، وبين الكتابة والممارسة. وحياة محمد عابد الجابري التي نشأت في الصحراء، قبل أن يطلب العلم في المدن، تؤكد هذه الحقيقة التي نضجت عبر تفرغه للإنتاج الأكاديمي الخالص، الذي لم ينفصل فيه الجابري عن القضايا الحية للأمة، التي تمتحن فيها السياسة علي محك التاريخ. عرفته مصر كما عرفها، واشترك مع بعض مفكريها ومثقفيها في فعالياتها الثقافية التي تقوم علي الفهم واستكمال الحقائق، وليس نقض الآراء الأخري واللغط. ويعتبر رفض محمد عابد الجابري لجوائز تحمل اسم صدام حسين أو القذافي، واعتذاره عن عضوية الأكاديمية المغربية، من الأحداث الثقافية التي تفصح عن شخصية نادرة، لا تقبل التعامل مع النظم السيئة السمعة، وتملك من عزة النفس ويقظة الضمير والعفة ما يمنعها من المشاركة في تحسين وضع يفيض بالعوار، وهو ما يستحق عليه الجابري كل تقدير. ولم يكن عداء السلفيين للجابري، الذين يريدون إعلاء فكر واحد، بأقل من عداء السلطة له. وفي إحدي الندوات التي عقدت في العاصمة المصرية في عام 1984، وحضرها محمد عابد الجابري، قبل أن يحقق حضوره البارز في الساحة الفكرية ويلمع اسمه، أجريت معه هذا الحوار الذي لم ينشر في مصر. وترجع أهمية هذا الحوار إلي أن الجابري يلخص فيه المواقف الثلاثة لهذه القضية، التي عبر عنها أعلام النهضة منذ القرن التاسع عشر، وهي: الأخذ من التراث العربي القديم، أو الأخذ من الحضارة الغربية، أو التوفيق بينهما. وقد رفض الجابري هذه المواقف الثلاثة، لأنها تشكل في رأيه عقبة تعترض البناء الذاتي الذي ينبع من الداخل - علي حد تعبيره - ويعني بها الخصوصية التي تقوم علي العقلانية والديمقراطية، وهو ما اهتدي إليه عدد كبير من المفكرين المعاصرين للجابري، امتد تأثيرهم إلي الإبداع الأدبي والفني، دون تهوين من قيمة التراث القومي، أو من قيمة الثقافة الغربية. والقسم الثقافي في «الأهالي» ينشر نص هذا الحوار، تأكيدا للمعاني المتقدمة التي عبر عنها محمد عابد الجابري في حياته، ولم يتح للقراء في مصر الاطلاع عليه. في مهرجان القاهرة الأول للإبداع العربي، الذي أقيم في شهر مارس الماضي، اختير الدكتور محمد عابد الجابري ممثلا للوفود العربية المشتركة، لكي يلقي كلمتها في المهرجان، وعلي منصة مسرح الجمهورية بالعاصمة المصرية، وقف الدكتور الجابري، ليلة الافتتاح، يعلن تراجع الثقافة العربية المبدعة في العقد أو العقدين الأخيرين، وضياع الحلم النهضوي الثوري، الذي تألق في الخمسينيات. ولاستئناف مسيرة النهضة العربية، في زمن الركود الراهن، دعا الدكتور الجابري، في هذه الكلمة، إلي ضرورة الأخذ بالعقلانية في شئون الفكر والحياة، التي تتواصل بوعي كامل مع الواقع الحي، لا مع نموذج السلف، أو نموذج الغرب. ولا سبيل إلي تجاوز هذا الموقف الخطير، الذي يمكن أن يعرض الأمة العربية للإبادة، إلا بطرح اللاعقل جانبا، والتمسك بالعقلانية في مملكة العقل. وفي ندوة «التراث وتحديات العصر في الوطن العربي»، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة، في سبتمبر الماضي، قدم الدكتور الجابري بحثا عن «إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر: صراع طبقي أم مشكل ثقافي؟» أثار في الندوة جدلا طويلا وتعقيبات شتي، بسبب غني المادة التي يتضمنها، وكثرة الأبعاد التي يتحرك البحث في إطارها، وتعدد مستويات النظر التي قد تتناقض أحيانا مع المنهج العلمي الذي يطبقه، والعقلانية التي يدعو إليها. والدكتور محمد عابد الجابري، أستاذ الفلسفة بجامعة الرباط بالمغرب، مفكر وباحث علي وعي كبير بقضايا أمته، صدر له، خلال السنوات العشر الماضية، مجموعة من المؤلفات المهمة، نذكر منها: - من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية. - نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي. - فكر ابن خلدون: العصبية والدولة. - الخطاب العربي المعاصر. - نقد العقل العربي. وفي هذا الحوار مع الدكتور الجابري نحاول أن نتعرف علي معالم الرؤية التي يعبر عنها في مؤلفاته. يرد في أبحاثك مصطلح خصوصية الواقع العربي التي يحددها المحيط أو المناخ. ما هي أبرز سمات هذه الخصوصية؟ - من الصعب جدا تحديد خصوصية الواقع العربي الراهن في كلمات أو سطور، أنه واقع معقد إلي أقصي درجات التعقيد، ومرجع هذا التعقيد إلي أمور منها: أولا: أن الواقع العربي الراهن هو في نفس الوقت معاصر للعالم الراهن علي مستوي الاستهلاك والتعامل السطحي مع الحضارة المعاصرة، وفي نفس الوقت مازال يحمل بين طياته، وفي مختلف جوانبه، بقايا ذات وزن كبير تنتمي إلي مجتمعنا من القرون الوسطي. ثانيا: الواقع العربي الراهن ليس امتدادا للماضي واتصالا بالحاضر فقط، بل هو أيضا موضع تدخل من قوي التوسع العالمية، فالإمبريالية العالمية، وما يرتبط بها من صهيونية وغيرها، تتدخل باستمرار لعرقلة تحرر الواقع العربي من قيوده وتحقيق نهضته. إذن هناك، علي الأقل، عاملان متداخلان، أحدهما داخلي يرجع إلي طبيعة تكوين الحضارة الراهن للواقع العربي، والثاني خارجي يرجع إلي أن المنطقة العربية كانت وماتزال من الأهداف الاستراتيجية لحركات التوسع العالمية، بما في ذلك اقتسام النفوذ الذي يحكم عالم اليوم. كيف السبيل إلي تجنب هذه المخاطر، والتقدم في آن معا؟ - بما أن هناك عاملين أساسيين ورئيسيين يحكمان الواقع العربي الراهن، كما قلنا، فإن عملية التحرر المطلوبة يجب أن تكون علي مستويين وفي اتجاهين متكاملين: أحدهما التحرر من مفهوم العامل الخارجي، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وثقافيا. وثانيهما تدشين بداية نهضوية جديدة تنطلق هذه المرة لا بالتماس الحلول من الماضي، أو باستنساخها من الغرب، بل القيام بعملية تجديد داخلي للكيان العربي المادي والثقافي. في هذا الصدد لابد من وجود منهج للنهضة، فهل يمكن تحديد هذا المنهج؟ - النهضة في حد ذاتها منهج، منهج في التفكير، ومنهج في التخطيط، ومنهج في الحياة، وكل نهضة تستمد مقومات منهجها من العصر الذي تريد أن تحقق فيه نفسها، ولكن بما أن الإنسان يحمل معه ماضيه باستمرار، شاء أم كره، وبما أن النهضة - أي نهضة - لابد أن تنتظم في تراث، فإن تحقيق النهضة العربية المنشودة لا يمكن أن يتم إلا انطلاقا من انتظام جديد في التراث، والارتباط به ارتباطا جديدا، مؤسسا علي النهضة - المنهج، الذي تحدثنا عنه قبل. معني ذلك أنه إذا كان مطلوبا منا أن نفصل أنفسنا مؤقتا عن تراثنا، حتي يصبح موضوعا للبحث العلمي الموضوعي، في الصيرورة التاريخية، فإننا نفعل ذلك، لا كما يفعل العالم الإنثروبولوجي أو المؤرخ، وإنما نفعل ذلك لكي نعود إلي الاتصال به في شكل جديد. فالتعامل مع التراث، هنا، يجب أن يقوم علي الفصل والوصل. أما التعامل مع الفكر العالمي المعاصر، فيجب أن يقوم بالعكس من ذلك، علي الاتصال ثم الانفصال، أو الوصل والفصل، أقصد بذلك أنه علينا أن نتشرب الفكر العالمي المعاصر بكل معطياته، المفهومية والمنهجية، وهو معني الاتصال، ثم ننفصل عنه لكي نعطي لهذه المناهج ميدانيا تطبيقا آخر، وبالتالي مضمونا آخر، من خلال تراثنا. إن الانفصال عن التراث عملية تصاحبها بالضرورة عملية الاتصال مع الفكر العالمي المعاصر. والانفصال عن هذا الفكر عملية يجب أن تصاحبها بالضرورة عملية اتصال جديد مع التراث. هكذا نحقق، في آن واحد، ما نسميه ب «الأصالة». مَن مِن أعلام النهضة العربية تحققت لديه هذه الرؤية الثنائية أو الواحدة في مواجهة أشكال الأصالة والمعاصرة؟ - أعتقد أن مثل هذه الرؤية لم تجد بعد طريقها إلي التحقق، ذلك لأن مفكري النهضة قد انقسموا إلي ثلاثة أصناف: صنف حصر جهده في التماس الحلول من الماضي، وهم الذين يمثلون التيار السلفي بصفة عامة. وصنف حصر جهده في التماس الحلول من الحضارة الغربية المعاصرة، وهؤلاء يمثلون ما يسمي عندنا ب «التيار الليبرالي العربي». والصنف الثالث حاول أن يجمع بين الجهدين، ودعا إلي التوفيق بين شيء نأخذه من تراثنا، وشيء نأخذه من الغرب. وهذا في نظري عمل غير علمي وغير عقلاني، لأن المسألة ليست مسألة أخذ واقتطاف، بل هي مسألة بناء وتجديد، تنطلق من الداخل بأساليب جديدة. لتحقيق هذا البناء أو المشروع الحضاري، ماذا نأخذ من التراث العربي والتراث العالمي؟ - أرفض استعمال كلمة «أخذ» لأن الأمر لا يتعلق ببضاعة معروضة في السوق، فالتراث ليس صناديق مملوءة ذهبا أو نحاسا، حتي إذا قضضناها أخذنا من هذا أو ذاك. والفكر العالمي المعاصر ليس واقعا جامدا منحطا، حتي يمكن القول إنه بالإمكان الأخذ منه، أو عدم الأخذ منه. لقد كان التراث في وقته مندرجا في صيرورة تاريخية عامة، وبالتالي فهو ليس أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، حتي يمكن القول إنه بالإمكان الأخذ بشيء منه، وترك شيء آخر. المطلوب ليس الأخذ من التراث هكذا، أو الانتقاء منه، وإنما المطلوب إعادة بنائه، أي إعادة ترتيبه داخل الزمان، بصورة تعيد إليه تاريخيته، وبالتالي تعيد إلينا نحن وعينا بالتاريخ، وتحقق لذاتنا العربي استقلالها التاريخي الذي تتمكن بواسطته من الانطلاق نحو المستقبل، دون أن يشكل الماضي عقبة في سيرها. وهذا الاستقلال التاريخي الذي ننشده للذات العربي، من خلال إعادة ترتيب العلاقة بينها وبين التراث، هو الذي سيمكننا من التعامل مع الفكر العالمي المعاصر بوصفه هو أيضا عملية تاريخية لا مجرد تيارات أو أفكار أو أجزاء منفصلة عن بعضها. فالمسألة إذن ليست أخذا أو انتقاء، بل هي إعادة ترتيب العلاقة بين الذات العربية وماضيها من جهة، وبينها وبين الفكر المعاصر من جهة أخري.