اليوم، اجتماع البنك المركزي لحسم أسعار الفائدة للمرة الثالثة في 2025    صفارات الإنذار تدوي وسط إسرائيل بعد رصد إطلاق صاروخ من اليمن    الجامعة العربية تطالب بمقاضاة إسرائيل دوليًا بعد استهداف وفد دبلوماسي    جيش الاحتلال الإسرائيلي: رصد صاروخ أطلق من اليمن والدفاعات الجوية تعمل على اعتراضه    محمد صلاح يهنئ توتنهام بعد التتويج بالدوري الأوروبي ضد مانشستر يونايتد عبر حسابه الشخصي    تعرض إمام عاشور لأزمة صحية مفاجئة ونقله إلى المستشفى (صورة)    إمام عاشور من داخل أحد المستشفيات: الحمد لله على كل شىء (صورة)    مصرع طفلة في انهيار منزل بسوهاج    حادث "خطير" خلال تدشين سفينة حربية بكوريا الشمالية وكيم غاضب    المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    وزارة المالية تعلن عن وظائف جديدة (تعرف عليها)    تحركات أوروبية ودولية تجاه غزة.. خبراء ل "الفجر": الدعم رمزي والمطالبات بتفعيل الضغط على إسرائيل    زيادة كبيرة ب920 للجنيه.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الارتفاع التاريخي    تباين في أسعار الخضروات بأسواق مطروح.. والبامية والليمون تكسران حاجز ال 80 جنيهًا    أرباح إيسترن كومبانى تنمو 36% خلال 9 أشهر.. بدعم 27 مليار جنيه إيرادات    تويوتا RAV4 موديل 2026 تعتمد على نظام السيارة الهجينة القابلة للشحن    هذا أنا مذكرات صلاح دياب: حكاية جورنال اسمه «المصرى اليوم» (الحلقة الثالثة)    «استمرار الأول في الحفر حتى خبط خط الغاز».. النيابة تكشف مسؤولية المتهم الثاني في حادث الواحات    بالأسماء.. مصرع وإصابة 4 طلاب في حادث تصادم موتسكلين| صور    ننشر أسماء المصابين في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالعريش في شمال سيناء    سامر المصري: غياب الدراما التاريخية أثَّر على أفكار الأجيال الجديدة    محافظ الدقهلية: 1522 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية ابو ماضي مركز بلقاس    إجراء طبي يحدث لأول مرة.. مستشفى إدكو بالبحيرة ينجح في استئصال رحم بالمنظار الجراحي    اليوم.. انطلاق امتحانات نهاية العام لصفوف النقل بالمحافظات    الهلال يتمم المقاعد.. الأندية السعودية المتأهلة إلى دوري أبطال آسيا للنخبة    الدوري الأوروبي، مدرب مانشستر يونايتد يكشف أسباب الخسارة أمام توتنهام    بأجر كامل.. تفاصيل إجازة امتحانات العاملين في قانون العمل الجديد    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بأسبوع المطبخ التركي    «تعليم القاهرة» تنشر نموذج امتحان مادة الهندسة المستوية للشهادة الإعدادية 2025    استشهاد 5 فلسطينيين في قصف للاحتلال الإسرائيلي على "جباليا" شمال غزة    مراسم تتويج توتنهام بلقب الدوري الأوروبي للمرة الثالثة فى تاريخه.. فيديو وصور    توقعات حالة الطقس اليوم الخميس    بعد صدور لائحته التنفيذية.. عقوبة اصطحاب كلب دون ترخيص    رئيس جنوب أفريقيا: نرحب بالاستثمارات الأمريكية ونتوقع زيارة من ترامب    مسلم ينشر صورًا جديدة من حفل زفافه على يارا تامر    الاقتصاد الأخضر نحو الاستدامة (ج1)    نشرة التوك شو| لا توجد أوبئة للدواجن في مصر وافتتاح أكبر سوق جملة أكتوبر المقبل    "من أجل المنتخبات".. ورش عمل لتطوير مسابقات الناشئين 24 و25 مايو    باختصار.. أهم الأخبار العربية والعالمية حتى الظهيرة.. العالم يدين إطلاق الجيش الإسرائيلى النار على الوفد الدبلوماسى بجنين.. وحظر تصدير الأسلحة إلى الاحتلال والتهدئة فى الهند وأوكرانيا والتفاوض مع إيران    بعد مطاردة بوليسية.. ضبط سيارة تهرب 8 آلاف لتر بنزين قبل بيعها في السوق السوداء بدمياط    وزير الزراعة يحسم الجدل حول انتشار وباء الدواجن في مصر    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    كيف تغلبت ياسمين صبري على التصميم الجريء لفستانها في مهرجان كان؟ (صور)    عادات المليونيرات.. 4 مفاتيح مالية يتجاهلها معظم الناس (تعرف عليها)    حاكم الشارقة يتسلم تكريما خاصا من اليونسكو لإنجاز المعجم التاريخى للغة العربية    28 يونيو.. ماجدة الرومي تحيي حفلا غنائيا في مهرجان موازين بالمغرب    أسماء بنات على «فيسبوك» توحي بالثقة والقوة.. تعرف عليها    اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد    كيف كان مسجد أهل الكهف وهل المساجد موجودة قبل الإسلام؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل به شبهة ربا؟.. أمين الفتوى يحسم حكم البيع بالتقسيط وزيادة السعر (فيديو)    في الجول يكشف آخر تطورات إصابة ناصر ماهر    الهلال ينجو من خسارة جديدة في الدوري السعودي    محافظ الدقهلية: 1522 مواطنا استفادوا من القافلة الطبية المجانية ب«بلقاس»    كواليس خروج مسمار 7 سم من رأس طفل بمعجزة جراحية بالفيوم -صور    وزير الصحة يستجيب لاستغاثة أب يعاني طفله من عيوب خلقية في القلب    وزارة الأوقاف تنشر نص خطبة الجمعة بعنوان "فتتراحموا"    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين : رخص الحياة
نشر في البديل يوم 24 - 09 - 2013

لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام ، فقديما عرف الناس الحرب واجروا دماءهم غزارا فى سبيل الحق حينا وفى سبيل الباطل أحيانا ، وقديما عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغى والعدوان ، وقتل بعضهم بعض جهرا مرة وغيلة مرارا ، ولكنهم كانوا يقدمون على ما كانوا يقدمون عليه من ذلك فى كثير من التحرج قبل أن يقدموا ، وكثير من الندم والورع بعد ان يتموا ما قدموا عليه .
كانت الحياة الإنسانية شيئا له خطره فقدستها الديانات، وعرفت حرمتها القوانين، ورعتها الأخلاق؛ وعظم امرها المعتدون عليهم انفسهم ، فكانوا يرون أنهم حين يجترئون عليها انما يقترفون إثما عظيما .. لأنه من الآثام التى لا سبيل الى تداركها.
فقد أتيح للإنسان أن يصلح كثيرا من خطئه، ويتدارك كثيرا من ذنوبه ، ويمحو بالإحسان آثار الإساءة ، ولكن شيئا واحدا لم يتح له ، وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة ، فكان القتل خطأ او عمدا من الشر العظيم ، الذى يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعرا وروعا وندما وانكارا.
وكان الناس يتحدثون الحديث عن المجرمين الذين بستبيحون القتل، ولا يحسون عليه بعد اقترافه ندما ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة او خوفا.
كانوا يرونهم شذاذا قد أفلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التى تكبر الحياة الإنسانية ، وتعظم الاعتداء عليها من عمد أو خطا ، وربما دفع بعض الناس إلى شئ من الإمعان فى أكابر الحياة حتى تجاوزوا بها حياة الإنسان الى حياة الحيوان نفسه ، يرون أن الحياة جذوة مقدسة ، ولا يجرؤ على إطفائها الا الذين برئوا من شعور الرفق والرحمة والبر والحنان ، فحرموا ذلك على أنفسهم دهرهم كله أو يحرمون ذلك على أنفسهم وقتا معلوما بين حين وحين .
ولأمر ما أمعن أبو العلاء فيما ما عن من الزهد حتى انفق أكثر حياته لا يطعم الا ما تنبت الارض ، ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبنا ، ورأى فيه دليلا على ضعة النفس التى تدفع الى الاستعلاء على الضعيف، والبغى على مالا يملك أن يدفع عن نفسه البغى والعدوان . وقد تحدث الذين ترجموا له أنه مرض مرة والح علىه المرض حتى اضطره إلى ضعف شديد، فوصف الطبيب له أكل الدجاج، وامتنع هو على الطبيب، وعلى الذين كانوا يمرضونه . فلما اشتد عليه الحاحهم أذعن لما أريد عليه، وقدمت اليه دجاجة فلم يجد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة فانصرف عنها، وهو يقول لها :
استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد
يريد ان الدجاج لا تستطيع ان تمتنع على من يريدها ، فالناس يطعمون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله ، فلا يطمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض ، ولأمر ما قال ابو العلاء فيما قال هذا الشعر الرائع فى تحريم الحيوان على الإنسان ، فعرض نفسه لشر عظيم من غضب السلطان :
غَدَوتَ مَريضَ العَقلِ وَالدينِ فَاِلقَني لِتَسمَعَ أَنباءَ الأُمورِ الصَحائِحِ***
فَلا تَأكُلَن ما أَخرَجَ الماءُ ظالِماً وَلا تَبغِ قوتاً مِن غَريضِ الذَبائِحِ***
وَأَبيَضَ أُمّاتٍ أَرادَت صَريحَهُ لِأَطفالِها دونَ الغَواني الصَرائِحِ***
وَلا تَفجَعَنَّ الطَيرَ وَهيَ غَوافِلٌ بِما وَضَعَت فَالظُلمُ شَرُّ القَبائِحِ***
وَدَع ضَربَ النَحلِ الَّذي بَكَرَت لَهُ كَواسِبَ مِن أَزهارِ نَبتٍ فَوائِحِ ***
فَما أَحرَزَتهُ كَي يَكونَ لِغَيرِها وَلا جَمَعَتهُ لِلنَدى وَالمَنائِحِ ***
مَسَحتُ يَدَي مِن كُلِّ هَذا فَلَيتَني أَبَهتُ لِشَأني قَبلَ شَيبِ المَسائِحِ ***
فأبو العلا كما ترى يحرج على نفسه، ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان ، حتى الشهد الذى تخرجه النحل ، يرى ذلك ظلما وبغيا ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله. وقد انتهى شعره هذا إلى مصر فناظره فيه داعى دعاة الفاطميين، وكاد الامر ينتهى به إلى العطب.
وتقديس الحياة الانسانية هو الذى دعا الانسان الى إكبار الموت وما بعد الموت ، هو الذى دعا الناس الى إعظام حرمة الجنائز مهما تكن . وقد روى أن جنازة مرت بالنبى صلى الله وعليه وسلم وهو جالس في أصحابه فقام، وقام أصحابه لقيامه ثم قيل له إنها جنازة يهودى ، فقال : أليست نفسا.
وتقديس الحياة كذلك هو الذى دفع إلى ما شاع فى هذا العصر الحديث من إنكار عقوبة الإعدام مهما تكن الجريمة من يقضي عليه بهذه العقوبة. ويرى أصحاب هذا الرأى أن الحياة أعظم خطرا وأكبر حرمة من أن يستبيح الإنسان لنفسه سلبها ، ويرون أن الحياة شئ لا يستطيع الإنسان أن يمنحه فلا ينبغى له أن يسلبه .. وإنما يسلب الحياة من منح الحياة .
وكذلك أمعن الناس فى تقديس الحياة وإنكار البطش بها والاعتداء عليها ، ومازال أمر الله قائما بتحريم الحياة إلا بحقها ومازالت القوانين تحرم الاعتداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبات وأصرمها . ولكن الدين والقوانين شئ وما دفع الناس إليه فى حياتهم الحديثة شئ اخر . وليس من شك فى أن الناس لم يعرفوا قط عصرا هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذى نعيش فيه .
تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين فتقدم على الحرب المنكرة ، والتى لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة ، ولا ترجو للدين ولا القوانين ولا الأخلاق وقارا ، ولا تفرق بين الجند المسلحين والمشاركين فيها ، والعزل الوادعين الذين لا يريدون حربا ولا قتالا ، ولا يتمنون إلا أن يعيشوا فى دعة وسعة ، ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى . وإغراق الحرب الحديثة فى الإثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها وإشاعتها الموت والهول بغير حساب ، كل ذلك أهدر قيمة الحياة أثناء الحرب وأهدر قيمة الحياة أثناء السلم أيضا .
ومادام السلطان نفسه يستبيح الخروج على الدين والقوانين فى سبيل المنافع والمطامع. فلا على الأفراد ولا على الجماعات أن يستبيحوا الخروج على الدين و القوانين فى سبيل المنافع والمطامع أيضا . وما دامت الدول المتحضرة التى بلغت اأقصى ما كان الانسان يستطيع أن يبلغ من الترقى إلى الآن ، تستبيح لنفسها أن تزهق النفوس وتسفك الدماء بغير حساب لتكسب المال وتبسط السلطان ، فلا على الأفراد والجماعات أن يصنعوا صنيعها ويسيروا سيرتها ، والناس يحصون صرعى الحربين العالميتين بالملايين ويحصون صرعى الثورات الأوروبية بين الحربين بالمئات والالوف ، ويحصون صرعى الاستعمار بعشرات الالوف ومئاتها ، وهذه الضحايا الكثيرة لا يضحى بها عن خطأ ولا يضخى بها فى سبيل الحق والعدل ، وانما يضحى بها عن عمد وعن استجابة للبغى والطغيان وفى غير تحرج ولا تحفظ ولا احتياط .
وقد قرأت فى إحدى الصحف الفرنسية التى وصلت إلى من باريس فى هذه الأيام الاخيرة أن الفرنسين قتلوا من اهل الجزائر سنة 1945 بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عددا ضخما يبلغ المقللون له خمسة عشر الفا ويبلغ المكثرون له أربعين الفا .
والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين فى ثورتهم هذه القائمة ، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين وكم يقتلوا منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أو يعيشوا كراما وآخرين يريدون أن يستذلوهم ويتخذوهم رقيقا بعد ان ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها ، وضحايا الاستعمار فى الهند الصينية من المستعمرين المناهضين لهم أن يحصون بعشرات الالوف وانما يحصون بمئاتها، ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزى فى شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن ؟.
وأنت لا تقرأ صحيفة فى الصباح أو فى المساء إلا رايت فيها حديث الموت الذى يصب فى إيران على الذين لا يعجبهم ما كان من الاتفاق على استغلال آبار البترول، فقد أصبحت حياة الانسان فى هذا العصر أهون شأنا واقل خطرا مما تخرج الأرض من ثمراتها الحية والميتة ، فإذا شخصت هذا العصر بأنه عصر الحياة الإنسانية الرخيصة والمنافع الانسامية الغالية، أو بأنه عصر الدم الإنسانى الذى لا تبلغ قيمته قيمة البترول الذى يبسط السلطان ويدر المال فلست غاليا ومتجاوزا للحق.
وكنت أفكر فى هذا كله منذ وقت طويل وأحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه ، وأقول لنفسى ولكثير من الناس اننا ما زلنا فى عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الانسانية وغلاء المال المنافع والمطامع على حقارتها.
ولكن الحضارة الحديثة قد ألغت المسافات والآماد وقاربت بين الناس على ما يكون بينهم من تباعد الأقطار والديار، وقد كنا نرى ذلك خير ونعده رقيا ودانو إلى توحيد العالم أو تخفيف ما بينه من الفروق وإلى جمع الناس على كلمة سواء، وتطهير قلوبهم من الضغن، وتخليص نفوسهم من البغى، وتمكينهم من أن يصيروا إخوانا يعيشون على ما أباح الله لهم من طيبات الحياة، دون أن يستغل بعضهم بعضا أو يستعلى بعضهم على بعض أو يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله فقد تبين أنا كنا نخدع أنفسنا ونطمع فى غير مطمع، ونتمنى مالم يؤن أوان تحقيقه بعد، وتبينا أن الشر يغرى بالشر، وأن النكر يدعوا الى النكر؛ وأن الموت يرعب فى الموت .
ونحن نصبح ذات يوم فاذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول ، واذا بعض المصريين يمكرون ببعض، واذا الموت يريد ان يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أٌقطار الارض.
واذا كل واحد منا كان آمنا أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان وانما تسلطها الطبيعة على الحياة ، وإنا كنا غافلين حقا خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوداع الهادئ الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه ولا يجب أن يبلغ ارضه فضلا على ان يستقر فيها .
ولم لا ؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل البطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك يده فلا يزهق نفسا ولا يسفك دما ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه ، ولا يجرح إلا وهو قادر على ان يأسو ، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، ، واذا ثورتنا هذه بين الثورات لا تأتى من الامر ما لاسبيل الى إصلاحه غدا أو بعد غد .
كل هذا الآن مصر، لا تحب العنف ولا تألفه ولأن نفوس أهلها نقية تقارب جوها ، وصافية صفاء سمائها ، مشرقة إشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنا ناشرا لللخصب والنعيم من حوله ، تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين ولكنها لا تلبث ان تثوب الى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارا ثم لا نلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن .
كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة وكذلك رايناها حين ثار جيشها من عامين فأخرج الطاغية ولكنه اخرجه موفورا يحيا كما يجب ان يحيا مكفوف الأذى عن مصر لم يؤذ فى نفسه قليلا ولا كثيرا .
وأشتد على بعض أبنائها شدة يمكن ان يتداركها باللين فى يوم من ايام الصعو هذه التى تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبا ودعة وامنا سلامنا ، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لاخوانهم فى الوطن ولاخوانهم فى الدين ولاخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئا اخر غير من امور الناس.
ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى ؟ ما هذا المكر الذى يمكن ، وما هذه المخطط التى تدير، وما هذا الكيد الذى يكاد ؟ لم كل هذا الشر ، لم كل هذا النكر ، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين ، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين وكما رخصت حياة الافريقيين والاسيويين على الانجليز ؟.
يقال أن حياة المصريين انما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرم شيئا كما حرم القتل ، ولم يأمر بشئ كما امر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شئ كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان ، ولم يرغب فى شئ كما رغب العدل والإحسان والبر ، ولم ينفر من شئ كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغى .
هيهات ان الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين وانما يعصم دماء المسلمين، متى شهدوا أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله . ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم، وانما هى العدوى النكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها الموت لأيسر الأمر.
جاء بعضها من أعماق التاريخ . من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شىء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون!!
وجاء بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذى ملأ الارض ظلما وفسادا . من هذا القتل المتصل فى الحروب يثيرها بعض الاقوياء على بعض ، وفى البطش يصبه الاقوياء على الضعفاء ان البلاد المستعمرة التى يريد اهلها الحرية يأبى المتسلطون على إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة، ويفرضون ذلك عليها بالحديد والنار .
وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير فى نفوس الأخيار حزنا ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلا إلى الشر ورغبة فيه وتهالكا عليه .
ولم يأت هذا الشر الذى تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها فى نفسها خيرة ، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأطهر من ذلك وانما جاء من هذه العدوى .
والخير كله هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التى تجتاح الشعوب بين حين وحين . وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التى تجتاح الى الاجسام وتدفعها الى الموت دفعا، فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذى يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها الى نشره واذاعته ويملأ الأرض بها فسادا وجورا ؟.
بهذا يأمر الله عز وجل فى القرأن العزيز حين يقول فى الآية الكريمة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.