أتيح للإنسان أن يصلح كثيرا من خطئه ويتدارك كثيرا من ذنوبه ويمحو بالإحسان آثار الإساءة، ولكن شيئا واحدا لم يتح له وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة، فكان القتل خطأ أو عمدا من الشر العظيم الذى يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعرا وروعا وندما وإنكارا. وكان الناس يتحدثون فيكثرون الحديث عن المجرمين الذين يستحبون القتل ولا يحسون عليه بعد اقترافه ندما ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفا.
ولأمر ما أمعن أبوالعلاء فيما أمعن من الزهد حتى أنفق أكثر حياته لا يطعم إلا ما تنبت الأرض، ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبنا، ورأى فيه دليلا على ضعة النفس التى تدفع إلى الاستعلاء على الضعيف والبغى على مالا يملك أن يدفع عن نفسه البغى والعدوان. وقد تحدث الذين تزحموا له أنه مرض مرة وألح عليه المرض حتى اضطره إلى ضعف شديد فوصف الطبيب له أكل الدجاج وامتنع هو على الطبيب والذين كانوا يمرضونه، فلما اشتد عليه إلحاحهم أذعن لما أريد عليه وقدمت إليه دجاجة فلم يكد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة، فانصرف عنها وهو يقول لها: استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد يريد أن الدجاجة لا تستطيع أن تمنتنع على من يريدها فالناس يطمعون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله فلا يطمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض. فأبوالعلاء كما ترى يحرج على نفسه ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان حتى الشهد الذى يخرجه النحل، يرى ذلك ظلما وبغيا، ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله وقد انتهى شعره هذا إلى مصر فناظره فيه داعى دعاة الفاطميين وكاد الأمر ينتهى به إلى العطب. وكذلك أمعن الناس فى تقديس الحياة وفى إنكار البطش بها والاعتداء عليها ومازال أمر الله قائما بتحريم الحياة إلا بحقها ومازالت القوانين تحرم الاعتداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبة وأصرمها، ولكن الدين والقوانين شىء وما دفع الناس إليه فى حياتهم الحديثة شىء آخر، وليس من شك فى أن الناس لم يعرفوا قط عصرا هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذى نعيش فيه. تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين فتقدم على الحرب المنكرة التى لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة، ولا ترجو للدين ولا للقوانين ولا للأخلاق وقارا، ولا تفرق بين الجند المسلحين المشاركين فيها والعزل الوادعين الذين لا يريدون حربا ولا قتالا ولا يتمنون إلا أن يعيشوا فى دعة وسعة، يحتملون أعباء الحياة ما خف منها وما ثقل، لا يؤذون أحدا ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى وإغراق الحرب الحديثة فى الإثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها وإشاعتها للموت والهول بغير حساب، كل ذلك أهدر قيمة الحياة أثنا ء الحرب وأهدر قيمة الحياة أثناء السلم أيضا. ومادام السلطان نفسه يستبيح الخروج على الدين والقوانين فى سبيل المنافع والمطامع فلا على الأفراد ولا على الجماعات أن يستبيحوا الخروج على الدين والقوانين فى سبيل المنافع والمطامع أيضا، ومادامت الدول المتحضرة اللتى بلغت أقصى ما كان الإنسان يستطيع أن يبلغ من الرقى إلى الآن، تستبيح لنفسها أن تزهق النفوس وتسفك الدماء بغير حساب لتكسب المال وتبسط السلطان، فلا على الأفراد والجماعات أن يصنعوا صنيعها ويسيروا سيرتها، والناس يحصون صرعى الحربين العالمتين بالملايين ويحصون صرعى الثورات الأوروبية بين الحربين بالمئات والألوف ويحصون صرعى الاستعمار بعشرات الألوف ومئاتها وهذه الضحايا الكثيرة لا يضحى بها عن خطأ ولا يضحى بها فى سبيل الحق والعدل وإنما يضحى بها عن عمد وعن استجابة للبغى والطغيان وفى غير تحرج ولا تحفظ ولا احتياط. وقد قرأت فى إحدى الصحف الفرنسية التى وصلت إلى من باريس فى هذه الأيام الأخيرة، أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة 5491 بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عددا ضخما يبلغ المقللون له خمسة عشرا ألفا ويبلغ المكثرون له أربعين ألفا والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين فى ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أن يعيشوا كراما وآخرين يريدون أن يستغلوهم ويتخدوهم رقيقا بعد أن ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها وضحايا الاستعمار فى الهند الصينية من المستعمرين والمناهضين لهم ولا يحصون بعشرات الألوف وإنما يحصون بمئاتها ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزى فى شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟ ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض وإذا كل واحد منا كان آمنا من الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة.. إنا كنا غافلين حقا خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه ولا يحب أن يبلغ أرضه، فضلا عن أن يستقر فيها ولم لا ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفسا ولا يسفك دما ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتى من الأمر مالا سبيل إلى إصلاحه غد أو بعد غد. كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها مشرقة إشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنا ناشرا للخصب والنعيم من حوله، تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارا ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن. كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية ولكنه أخرجه موفورا يحيا كما يحب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر لم يؤذ فى نفسه قليلا ولا كثيرا. واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين فى يوم من أيام الصفو هذه التى تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبا ودعة وأمنا وسلاما، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم فى الوطن ولإخوانهم فى الدين ولإخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئا آخر غيرها من أمور الناس. كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين وكما رخصت حياة الأفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟ ولم يرغب فى شىء كما رغب فى العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شىء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغى. هيهات أن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين وإنما يعصم دماء المسلمين متى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم وإنما هى العدوى المنكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء بغير الحق ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر. جاء بعضها من أعماق التاريخ من أؤلئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شىء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذى ملأ الأرض ظلما وفسادا من هذا القتل المتصل فى الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفى البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء فى البلاد المستعمرة التى يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار.