قامت الثورة في دمشق مرة ثانية يتزعمها العلماء والفقهاء والأعيان مستغيثين بنور الدين. ومن خلفهم النساء والأطفال والشباب. وذلك ما يثبت ان الحاكم شيء والشعب شيء آخر! فإذا أراد طاغية مأفون أن يخون الإسلام في موقف حاسم فليس في إدارته الغاشمة ما يدل علي ان قلوب الرعية تكن له بعض الولاء والتأييد.. إذ يقف بمفرده في ناحية. ويقف الشعب تجاهه في ناحية مقابلة. والصدور تغلي من الغيظ. والأنوف تشتعل من الضجر والغمة. وأهل الإسلام في كل زمان ومكان لا يزالون يحرصون علي إعلاء كلمته ونشر رايته. وإن اعترض طريقهم معترض فمآله إلي الخيبة والسقوط. ولعذاب الآخرة أشد وأوجع.. وقد دخل نور الدين دمشق فأبطل المظالم والمغارم. ورفع الحيف عن الضعاف. وجمع القوة المتساندة إلي مقصد واحد لا تثنيها دسيسة كاذبة أو تخويف خداع. وتنفست دمشق الصعداء. إذ زال عنها كابوس مخيف سفك الدماء وصادر الأموال وحالف الأعداء ونهب الدور. وحاك الآثم المفتريات. ومن العجيب ان نور الدين لم يبادر بقتله جزاء خيانته. بل أدركته مثاليته الرحيمة وبذل له إقطاعاً في حمص.. يقول الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من خطط الشام: "وهذا من غريب ما يحكي في باب العدل فإن الملوك قد جرت عادتهم في تلك العصور إذا أخذوا ملكاً أن يقتلوه! فلم يفعل نور الدين ذلك تحرجاً من إهراق الدماء الحرام. واستحكام الطوائل والأحقاد في أمة أشد ما تكون إلي التضافر" ونحن نقول تعقيباً علي ذلك: إن دم مجير الدين ليس حراماً كما ذكر الأستاذ محمد كرد علي. فهو خائن عاهد العدو وظاهره وأقطعه وأهداه. وشريعة الإسلام تري القتل مشروعاً لأمثاله.. فدمه ليس بحرام علي الاطلاق. ولكن نور الدين يمعن في التسامح ويميل إلي الإغضاء. وقد استنجد الصليبيون بإخوانهم الأوروبيين فوفدت عليهم الأمداد تأهباً لنزال نور الدين بعد ان تأثلت قوته واستغلظ عرشه. ودارت بين الفريقين مواقع كثيرة في حمص. وحماة. وإيناس. وصيدا والبقيعة. فكان البطل ينتصر وينهزم. وهو لا ييأس من روح الله في انكسار. ولا يستشعر الخيلاء في انتصار. وكان إيمانه العميق مدداً سماوياً يهبط علي قلبه بالسكينة والإيمان فيزيد من بأسه. ويدعم من ثباته. وقد أغناه هذا الإيمان الوطيد عن جيش جرار في حادثة مشهورة بلقاء. فقد اندفع إليه الفرنجة ذات موقعة في طوفان لجب دفاق فانهزم جيشه. وفر متقهقراً عنه. ولكنه آثر الموت علي الحياة ووجد الصليبيون جيش نور الدين ينسحب. ووقف القائد في رهط صغير.. فحسبوا أنها مكيدة مدبرة. وأن الكتائب المنسحبة ستطوقهم من الخلف ففزعوا لظن داهم لم يكن في حسبان أحد. وطاروا عن البطل مسرعين خائفين. وكان موقفاً عجيباً حرص فيه نور الدين علي الموت فوهبت له الحياة. هذا ولم تتجه نفس البطل إلي مصر المسلمة إلا حين أزعجه استنجاد وزرائها بالفرنجة من الصليبيين. ثم وصول "امري" صاحب بيت المقدس إليها ليعين فريقاً علي فريق. وليبسط ظله علي بلاد ترفرف عليها أعلام الإسلام. وإذ ذاك وجب اقتحام مصر المسلمة. كما وجب من قبل ذلك اقتحام أختها دمشق. فالمعركة لم تعد بين مسلم ومسلم ولكنها بين مسلم غيور باسل وطغام من الوزراء والقادة ينتسبون إلي الدين الحنيف اسماً ويتوجهون إلي أعداء الله مجددين مأساة دامية كابد منها نور الدين غصصاً أليمة. وبات معها بحسرة لاذعة. وهم وجيع. وقد سارت كتائبه في حملات ثلاث متعاقبة حتي رسخ قدمها وتقبلها المصريون بقبول حسن. وأدت ما عقدت عليه العزم من مطاردة الصليبيين وتمزيق شملهم أباديد. لقد حاصر الصليبيون دمياط فركب الهم نور الدين وشغله وأقلق باله وخاطره. ورجع إلي المسجد يدعو الرحمن دعوات حارة ضارعة ثم اتجه إلي الدرس الديني يسمعه من عالم فقيه. وكان فيما ذكره حديث عن تبسم المؤمن. فاستعبر البطل النبيل وقال في أسف لاذع: "إني لاستحي من الله أن يراني مبتسماً في حين ان المسلمين يحاصرهم الفرنجة في دمياط". يا لجلال المسئولية يحملها شهم باسل فتؤرق عينه. وتقض مضاجعه. ولا تزال تتجسم له مصبحاً وممسياً.. حتي تتكشف الغماء بنصر الله وبتأييد المؤمنين..!! وقد أمر نور الدين تلميذه الباسل صلاح الدين فنكل بالأعداء وأخذ يتهيأ لاستكمال الدور الذي مثله أستاذه العظيم. وقد حدثت بين البطلين جفوة شديدة موحشة قطعها الموت بوفاة نور الدين قبل ان يضطر أحدهما إلي قتال تتفرق به الجهود. ويتضافر معه الأعداء. وإن أجل الله لا يؤخرإذا جاء. مات نور الدين فروع الإسلام بفقده. وخسرت المثالية الرفيعة رائداً يعتصم بها في مأزقه. وتفجرت العيون حزناً عليه وولها به وإنا ننقل هنا بعض ما ذكره ابن الأثير عنه إذ يقول في صدق وإنصاف: "لقد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلي يومنا هذا. فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين. ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه. فقد قصر ليله ونهاره علي عدل ينشره. وجهاد يتجهز له ومظلمة يزيلها. وعبادة يقوم بها. وإحسان يوليه. وإنعام يسديه". لقد عاش نور الدين - مع ملكه وشهرته - متواضعاً زاهداً. ومات فما نسي التواضع تاريخه الحبيب. إذ ظل - مع روعته المدهشة - في مراجعه الوافرة ساكناً لا يحلله باحث. أو يترنم به شاعر أو يصوره قصاص أديب!!