لم ينقطع أبداً إعجابي بالزعيم الليبي معمر القذافي وقد تمنيت دائماً أن أتمتع بقدراته الفذة، ولو داخل الحي الذي أسكن فيه أو على الأقل داخل عائلتي الصغيرة. ووراء إعجابي بالزعيم الليبي أسباب كثيرة ولكنى أخص بالذكر منها ثلاثة أسباب. الأول هو تقديره العالي للفكر والمفكرين وقد أكد مراراً بأنه ليس رئيس دولة، وإنما مفكر فلاشك أن هذا البيان يرضى المثقفين والمفكرين، ويشبع غروري الشخصي فطالما أن المرء لن يصير رئيس دولة فإن بوسعي الزعم على الأقل بأني على الطريقة الأوسع لدخول التاريخ والاستمتاع بمكانة قد تكون وفقاً للزعيم الليبي أرفع من رئيس دولة. أما السبب الثاني فهو أن الزعيم الليبي يرفض الفصل بين الفكر والممارسة وقد اغتبطت دائماً بأن هناك زعيم عربي يتأثر بهذه القوة بالأفكار، خاصة أنه قارئ نهم . وأتذكر منذ الطفولة كيف كان يشغلني كل كتاب أقرأه بحماس هائل فوظيفة الكتاب ليس تقديم المعرفة فحسب وإنما يجب أن يشحن نفوس الناس بالأفكار وأن يمثل لهم مصدراً للإلهام وما أن يحدث الإلهام حتى يتولد الفعل ومن هنا أهمية الاختيار الدقيق للكتب التي يقرأها المرء. فإذا قرأ المرء روايات شيرلوك هولمز فلابد أنه سيبدأ فوراً فى تأمل عالم الجريمة من حوله لكي يفك أسراره أما إذا قرأ روايات رومانسية فلابد أنه سيتحول إلى عاشق وسيبدأ فى كتابة رسائل الغرام إلى حبيبه من صنع خياله . أما إذا قرأ المرء أعمال لينين و جيفارا و ماوتسي تونج فإنه سيفكر بالطريفة التي أسماها ريجيه دوبريه “ثورة عل الثورة ” . ومن فضائل الزعيم الليبي أنه لم يتردد أبدأ فى تطبيق الفكرة الأخيرة، مرتين حتى الآن .. ويتردد فى الأخبار الآن أنه يفكر فى ثورة ثالثة ذات توجه ليبرالي وتعكس كل ثورة طبيعة المرحلة والكتب التي قرأها الزعيم وأعمل فيها قريحته وأضاف لها من نتاج فكره. ففي المرحلة الأولى التي ثار فيها على النظام الملكي القديم أنتج ثورة قومية فاضت على العالمين وفرضت على العالم كله النظر بإعجاب إلى القومية العربية ممزوجاً بالإسلام الثوري. وفى ذلك مد الزعيم جيشانه الثوري من الفلبين حتى أمريكا اللاتينية مروراً بالدول الأفريقية. أما فى المرحلة الثانية فقد ثار فيها على الدولة. فعلى عكس لينين وماوتسى تونج اللذان أسسا دولة من نمط مغاير تخصصت فى قهر مشاعر الفردية والملكية الخاصة مهما كانت ضئيلة، فإن الزعيم الليبي نسف الدولة نسفاً، على اعتبار أن أية دولة هي أداة للقهر. وبودي لو أراجع مع الزعيم الليبي أطروحة أساسية وهى أن إلغاء الدولة قد حقق الهدف منه وهو تحرير المواطن من خوفه من الدولة، فربما يكون ذلك قد تحقق لكن أخشى أن يكون المواطن الليبي قد تحرر من خشيته من الدولة ولكن أحل محله رعب خالص من المواطن الليبي الآخر وخاصة المواطن الليبي الأول. ولذلك فأنا منبهر حقاً من إدراك الزعيم المفكر لحقيقة الحاجة الشديدة لكل المواطنين للعودة إلى فكرة حكم القانون، المؤطر بدستور قابل من حيث المبدأ للإقدام والتوفير وإلى فكرة التمثيل النيابي الذي ينتج برلماناً قادراً من حيث المبدأ على مراجعة ما تقوم به حكومة منضبطة تفكر جيداً فيما تفصله خاصة لو كان ذلك منطلقاً من فكرة أخرى هي احترام كيان الإنسان المواطن واعتبار جموع المواطنين أو الشعب هو مصدر السلطات. أما الوجه الثالث للإعجاب الشديد بالزعيم المفكر فهي قدرته الفذة على “إقناع” الشعب بما يجول فى خاطره، فى كل مرحلة من تطوره الفكري، وقد وودت دائما أن أمتلك ولو بعضاً من هذه القدرة ولسوء حظي فقد اكتشفت متأخراً أنه ليس كل ما يريده المرء يدركه فحتى ابني الصغير كشف عن إرادة فذة ومبكرة ويكاد يستحيل إقناعه باستذكار دروسه فى موعدها وقد اجتهدت وأجهدت ذهني فى ابتكار طرق واستنباط أساليب تجعلني قادراً على إقناع الناس من حولي بأن لكل مجتهد نصيب وأنه لا نصيب لمن لا يجتهد وأن الجهاد يبدأ مع النفس حتى تتغلب على ثوراتها لتصقل العقل وتهدئ روع الوجدان . ولما باءت محاولاتي بالفشل فقد بدأت أبحث فى أسرار تكمن شخصيات كبيرة مثل الزعيم الليبي فى امتناع شعب بكامله بكل ما يدور فى ذهنه وكل ما ينبثق فى فكره من أطروحات خاصة لو كانت كل هذه الأطروحات هي ثورة على ما قبلها. ولأجرب تفسيراً استثنائياً لم يقل به أحد غيري. ففكرة الثورة على الثورة تستجيب لأدق الطبائع الإنسانية وهى كرامة الملل والسكون. فالإنسان كائن متحرك يكره الرقابة ويحتاج للشحن الدائم حتى لو أدى الأمر إلى أن يثور على نفسه باستمرار ومن هنا سهولة إقناع الشعب بالثورة. من حقي أن أهنأ بالوصول إلى نظرية سوف تسجل باعتبارها مدرسة كاملة فى التغيير وهى مدرسة حداثة ما بعد حداثة. هذا المقال تم منعه من النشر في الأهرام