هناك صورتان تعبران عن أربعة عقود من حكم العقيد الليبى معمر القذافى. الأولى، التقطت بعد أيام من انقلاب الأول من سبتمبر 1969 الذى أوصله إلى السلطة: ويظهر فى الصورة ثائر وسيم نحيف فى زيه العسكرى يسجد مصليا على رمال الصحراء. والثانية، التقطت قبل يومين: العقيد القذافى فى عباءة بدوية، يدافع بتحد وعلى نحو غير متماسك عن ثورته الخاصة، ويتعهد بالنضال حتى الموت، بينما تعم البلاد انتفاضة أشعلها اعتقال محام حقوقى فى بنغازى. وبين هاتين اللقطتين 42 عاما من الحكم الحديدى، وآلاف الصور التى تظهر تحوله تدريجيا من ثائر شاب إلى عقل مدبر للإرهاب الدولى، ومن حاكم جديد طموح، عازم على استعادة عظمة القومية العربية بعد وفاة بطله الرئيس المصرى جمال عبدالناصر إلى شخص منبوذ دوليا. ومن فيلسوف متوقع إلى شخص فظ يسخر من غوغائيته الصديق والعدو على السواء. وأخيرا، بعد سنوات من عقوبات فرضتها الولاياتالمتحدة والجماعة الدولية، يبدو أن الغرب يعيد تأهيل قذافى أكبر سنا، ولكنه ما زال على نفس القدر من الاستعداد للنضال. وفى أول الأمر، عقب ثورة 1969، اعتقد القادة الغربيون أن النظام الليبى الجديد سوف يسير على خطى المملكة، مع التزام سياسته بموالاة الغرب. ولكن سرعان ما اتضح أن القذافى ليس قائدا عربيا عاديا قد يلتزم باتفاقات السلوك أواللياقة الدولية. وما أن تولى العقيد القذافى السلطة، صارت رسالته واضحة: حيث طرح نفسه وليبيا، باعتبارهما حصنا ضد ما يراه الغرب الطامع. ومثلت وحشية حقبة الاستعمار الإيطالى التى استمرت من عام 1911 حتى 1943 وأدت إلى قتل نحو نصف سكان شرق ليبيا هاجسا دائما بالنسبة له. وكان الإيطاليون قد دمروا كل البنى الحكومية والإدارية الجنينية التى كانت قائمة قبل الغزو، لذلك لم تكن ليبيا تمتلك عناصر دولة حديثة. وطوال عشرين عاما، أبقت الملكية وعلى رأسها الملك إدريس الأول الذى لم يكن لديه رغبة فى حكم ليبيا موحدة على الأمور كما هى منذ رحل الإيطاليون. ولم يكن واضحا فى بداية ثورة 1969، إلى أى مدى سيكون مسار العقيد القذافى ملتويا. فقد انزلق بفضل أموال النفط الهائلة إلى عالم من الاكتفاء والإعجاب بالذات، ونظام مغلق يغذيه ويدعمه التملق، الذى يحيط دائما بالديكتاتور ولا يتحمل أى معارضة. وفى أوائل السبعينيات، حقق العقيد القذافى لنفسه قدرا كبيرا من الشرعية فى الداخل، عبر تأميم شركات البترول فى البلاد، ولكن مع تزايد شكوك الغرب. وفى منتصف السبعينيات، أظهر افتقاره المتزايد للرؤية عبر نشر ميثاقه الرسمى «الكتاب الأخضر»، وهو مجموعة هزيلة من االأفكار المتناثرة غير المتماسكة، قدمها باعتبارها دليلا أيديولوجيا لما يراه «ثورة» ليبيا الدائمة. وسرعان ما صار الكتاب الأخضر شعارات وطنية؛ يقول أحدها «البيت لمن يسكنه»، وهو ما أجبر من يمتلكون عدة مساكن على التخلى عن أملاكهم (أو تدبير زيجات متسرعة لإبقائها ضمن أملاك الأسرة). ويصر شعار آخر على أن «الديمقراطية تعنى إجهاض الحقوق الفردية». وصار يشار إلى القذافى باعتباره الزعيم أو القائد، حكيم الثورة المتقلبة. غير أن تأملات العقيد القذافى الفلسفية وأفكاره الكبرى عن مجتمع جديد، اصطدمت على نحو متزايد بجانب مظلم ملحوظ للنظام. ووجد الليبيون أنفسهم فى كابوس مرعب، حيث يمكن أن تؤدى بضع كلمات معارضة إلى الاختفاء والاعتقال لفترات طويلة من دون تهمة قانونية، والتعذيب. وتعرضت عائلات بأكملها للمعاناة بسبب تجاوزات مزعومة نسبت إلى أحد أفرادها. وحتى العيش فى المنفى، لم يوفر مهربا من الإرهاب. ففى حملة لقتل من أسماهم العقيد القذافى «الكلاب الضالة»، أرسل فرق اغتيال لإطلاق الرصاص على المنشقين فى الخارج. وفى 1984، عندما تظاهر ليبيون أمام سفارتهم فى لندن، قتل ضابط شرطة كان يحاول الحفاظ على التزام المتظاهرين بمكان المظاهرة، برصاصة أطلقت من داخل السفارة. وأدى ذلك إلى قطع بريطانيا علاقاتها الدبلوماسية مع النظام فى ليبيا. وأدى استعداد العقيد القذافى لخرق الاتفاقات الدولية، وتورط حكومته الموثق بدقة فى حوادث الإرهاب، إلى مواجهة مستمرة لا مفر منها مع الغرب، وأدى إلى نبذ الزعيم الليبى. ومن المعروف أن الرئيس رونالد ريجان وصفه بأنه «الكلب المسعور فى الشرق الأوسط». وصارت الصورة العالقة فى ذهن العالم عن العقيد القذافى، هى صورة المختل المصر على تدمير المصالح الغربية بأى تكلفة وبكل الوسائل. ولم يكن تفجير طائرة بان أمريكان فوق لوكيربى عام 1988 سوى التأكيد التأخير على جنونه وشرِّه. وبعد لوكيربى، غرقت ليبيا فى العزلة، وظلت هكذا لأكثر من عشر سنوات. فهاج القذافى وماج، وصارت خطبه أكثر ترويعا. وألقى باللوم على مؤامرات أمريكية أو صهيونية أو طابور خامس يعمل لصالحهما عند كل انتكاسة بسيطة تعانيها بلاده. وعاود الهجوم على الغرب، مسلحا بطموحات هائلة وأموال ضخمة حيث ارتكب المزيد من أعمال الإرهاب، مثل تفجير كازينو لا بيلا فى ألمانيا 1986، الذى قتل فيه جنديان أمريكيان، وحاول إنتاج وشراء أسلحة بيولوجية، وتكنولوجيا الأسلحة النووية. كما ساند أيضا حركات تحرير وقضايا غير مهمة فى أنحاء العالم، تتراوح من حركات معارضة صغيرة فى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى الجيش الجمهورى الأيرلندى. غير أن عقوبات اقتصادية ودبلوماسية عالمية قاسية أحاطت به. وفى ديسمبر 2003، وافقت ليبيا أخيرا على تسليم الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والأسلحة النووية التى تمتلكها، وجاء هذا التعهد فى ختام عملية مفاوضات طويلة وراء الكواليس مع بريطانيا والولاياتالمتحدة، وكان أحد الشروط التى فرضت على العقيد القذافى مقابل إنهاء العقوبات. وقد مثل ذلك، بداية تأهيله إلى المجتمع الدولى. ويسعى النظام الآن جديا إلى تصوير معمر الذافى للعالم كما كان يصور نفسه دائما: شخصية عالمية ذات تأثير كبير، مفكرا صاحب رؤية تستحق تأملا فكريا جادا. ومن بين هذه الأفكار، فكرة القذافى عن «إسراطين» الدولة الموحدة، التى تضم الفلسطينيين والإسرائيليين معا. وقد استأجرت الحكومة الليبية شركة استشارات دولية، للمساعدة فى إنشاء منتدى، لجلب الخبراء والشخصيات المشهورة إلى ليبيا لمناقشة «قائد الثورة» حول طبيعة الديمقراطية. وأدى ظهور مثقفين وشخصيات عامة غربيين فى ليبيا مستعدين لتلبية رغبات وأهواء ديكتاتور من أجل حفنة بترودولارات إلى تعزيز اقتناع القذافى بأن الكتاب الأخضر ما زال صالحا، وأن ثورته البائدة ومكانته الشخصية كزعيم عالمى يتمتعان بأهمية. وهكذا، صار الرجل الذى كان يجسد الإرهاب ذات يوم، حليفنا المهم فى مكافحة الإرهاب. واستطعنا أن نتعايش مع عيوبه، وتخريفاته أحيانا فى مقابل تعاونه. ومن ثم، فقد قدم معلومات استخبارية عن الجماعات الإسلامية فى بلاده، كما قبل مرة على الأقل استجواب أحد المحتجزين بتهمة الإرهاب فعادت شركات البترول مع غيرها من الشركات الأمريكية إلى ليبيا. وعاد القذافى إلى مكانته الأولى أو هكذا يعتقد الكثيرون. ولكن الآن بينما تحاصر انتفاضة شعبية النظام الليبى مثلما يحدث مع أنظمة تونس ومصر واليمن والبحرين عادت إلى الظهور صورة القذافى كمتوحش مستعد للذهاب إلى أبعد مدى من أجل بقائه. فقد قتلت قوات الشرطة والمرتزقة المأجورين مئات من المدنيين، حتى مع اضطرار القوات الموالية للقذافى إلى التخلى عن بنغازى ومعظم المنطقة الشرقية من برقة. وعندما ذهب الزعيم الليبى إلى التليفزيون وبيده الكتاب الأخضر، لم يكن هجومه متماسكا لكنه كان مألوفا. فقد قال إن معارضيه، ليسوى سوى كلاب وصراصير، وأنه سوف يسحقهم ويقتلهم. واختفت الكلمات المنمقة حول نظرية الديمقراطية. وعادت مرة أخرى حقيقة القمع الوحشى. غير أن أحداث الأسبوع الماضى المروعة تعيد التذكير بسطر من الكتاب الأخضر، كتبه العقيد معمر القذافى بدم بارد تماما: «هذه هى الديمقراطية الأصلية، ولكن القوى هو الذى يسود فى الواقع».