ين ظهر القذافي علي شاشة التليفزيون الليبي. يشرح التطورات من وجهة نظره. ويعيد - بلهجة أقسي - تهديدات ابنه سيف الإسلام التي اعتبرها المحللون إعلان حرب ضد الشعب الليبي. فطن المشاهدون إلي ان الرجل يعاني ويحتاج إلي طبيب نفسي: الملامح المتقلصة. العينان الزائغتان. الشتائم المتلاحقة ضد أبناء شعبه. نسبة ما يحدث إلي المؤامرات الدولية. الملابس التي تمزقت من تحت الابطين بما لا يليق بحاكم دولة. قبل التهديد القذافي. ظهر الرجل في "توك توك" ينفي فراره. اكتفي بكلمات مدغمة. ثم أخفي وجهه - في مشهد درامي - بمظلة يحملها. ومضي! إذا كان الكثيرون قد استغربوا وقفة القذافي. وطريقته في الخطابة. وميله إلي الصراخ. والتلويح بقبضته. فإن المراجعة الارشيفية لكل وقفات القذافي وتحركاته وتصرفاته تؤكد ان "الزعامة" هي المظهر الذي يحرص عليه الرجل. فالقبضتان تتحركان إما بوعد الثورة أو بالتهديد. والنظرات تتجهان إلي أفق يراه وحده. يستلهم منه أفكاره وأقواله. ووصف معمر المتظاهرين - أو المحتجين - بأنهم عبارة عن مجموعات من البلطجية والعمال المصريين والتونسيين. ومعهم فئة قليلة من الليبيين الذين يتعاطون المخدرات وأقراص الهلوسة. وقرأ القذافي مواد كثيرة في قانون العقوبات الليبي. تقضي جميعها بإعدام من يخالفه. كان معمر القذافي واثقاً من زعامته. وأنه - بالفعل - كل تلك التسميات التي اطلقها علي نفسه. وكان علي يقين انه حين يواجه الجماهير الغاضبة. فلابد ان تنصت إلي كلماته. وتقتنع برأيه. وتنفذ ما يطلبه. لم يتصور أن الليبيين - الذين طال صمتهم أكثر من أربعين عاماً - سيخرجون للمناداة بإسقاطه. لذلك كانت صدمته قاسية بما انعكس في كلماته وتصرفاته. ودعوته للقضاء علي الثورة الوليدة بأي ثمن. المألوف ان تطالب الشعوب بتغيير حكامها. لكن معمر القذافي اصر علي العكس. فقد أراد تغيير شعبه! ولعلنا نتذكر مقولته القديمة الشهيرة انه قائد بلا شعب. يقصد القلة العددية لمواطنيه. أما المصريون فشعب بلا قائد. وكانت غرابة أزياء القذافي جزءاً من مزاجه الشخصي. وهو مزاج يحرص دوماً علي لفت الأنظار. وإلي جانب الأوسمة الكثيرة التي كان يضعها علي صدره. فإنه وضع صورة فوتوغرافية للقائد التاريخي الشهيد عمر المختار. بما ذكرنا بالمارشال علي مجذوب حي الحسين! أضاف القذافي إلي غرابة تصرفاته. تلك الخيمة التي كان يحملها إلي أي بلد يزوره. ويلتقي زواره فيها. ولأن مكانته أكبر من أي منصب. فقد كان ينيب واحداً من زملائه في مجلس قيادة الثورة لاستقبال الضيف في المطار. ويرافقه إلي الخيمة. ثم يعود رفيق الثورة إلي العزلة التي فرضها القذافي علي كل أعضاء المجلس! ولعلنا نذكر فاصل التهريج الذي أداه القذافي - بامتياز - في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقذفه بالأوراق ناحية رئيس الجمعية لانه مسئول ليبي. فهو إذن أحد موظفيه. وإطالته الخطاب إلي حد نزع المترجم سماعته. واحتج بأنه لا يستطيع ملاحقة الرجل في كلماته المهومة! ولافتتانه بالزعامة. فقد صحا القذافي - ذات يوم - باسم جديد للجمهورية الليبية سماها الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمي. وأتذكر قول المواطن الليبي في فضائية عربية ان القذافي ينفذ - في الصباح - ما حلم به في نومه من اجراءات وقرارات وأشياء تفرضها مخيلة النائم. إلي آخر العمر استمر القذافي قائداً لثورة قوامها ضباط عرفهم الناس. لكنه ما لبث ان تخلي عن رفاقه بالعزل. وبالعنف ومحاولات الاغتيال. ودعا إلي حكم الشعب نفسه بنفسه. علي ان يكون هو قائد ثورة الشعب. وألغي كل المتعارف عليه سياسياً من مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية. وكون ما اطلق عليه اللجان الشعبية. واستبدل بالوزراء أمناء تلك اللجان. كل في تخصص اللجنة التي اختير أميناً لها. من هنا جاء نفي القذافي في خطابه للشعب الليبي - الذي طالب بتنحيه - ان يكون شاغلاً لمنصب بحيث يتنحي عنه. هو - علي حد تعبيره - قائد ثورة. وسيظل كذلك إلي آخر العمر! وحاول الرجل ان يرضي أبناء شعبه. فإنه عرض ان يحصل كل مواطن علي حقه من البترول. ولو اننا اردنا تصور هذا المشهد. فسنجد طابوراً بلا نهاية من المواطنين الليبيين يحملون الجراكن للحصول علي حصصهم من بترول البلاد! ورغم ذلك فقد وصف القذافي أبناء شعبه بأنهم جرذان وفئران وقطط سائبة وجراثيم. ولعنهم. ولعن آباءهم وأمهاتهم. وتأكيداً علي قطع كل صلة بين القذافي وشعبه. فقد استأجر المئات من المرتزقة الأفارقة. ونقلهم بالطائرات إلي طرابلس والمدن الليبية الاخري ليفرضوا نظامه بالقوة المسلحة. وعندما صرخ في التليفزيون بأنه سيحارب في كل حارة وزقة وبيت. فقد كانت تلك كلمة السر للمرتزقة كي يطلقوا الرصاص علي كل شيء يتحرك وهو ما شاهدناه بالفعل في هجوم المرتزقة علي مدينة الزاوية. واللافت ان هتاف المتظاهرين الليبيين بإسقاط النظام. اقتصر - في معناه - علي شخص القذافي وأبنائه. فهم الزعامة الوحيدة لليبيا وللقذافي زوجتان. انجب من زوجته الأولي ابنه محمد. أما الزوجة الثانية فهي صفية فركاش. وأنجب منها سبعة أبناء. وكشفت وثائق ويكليكس - مؤخراً - عن امرأة ثالثة في حياة القذافي هي ممرضته الخاصة. وقد اطلق الرجل اسماء ابنائه علي فرق الجيش. كل اسم علي فرقة. وهو ما لم يحدث في أعتي الديكتاتوريات. ولا في الدول الملكية التي تحكم بالحق الإلهي! ولأن عبدالناصر - في مناسبة احتفالية بطرابلس - أشار القذافي - الذي كان شاباً واعداً - بأنه يذكره بشبابه. واعتبره الأمين علي القومية العربية.. تلقف القذافي قول عبدالناصر. ونسب إلي نفسه أمانة القومية العربية. ودعا إلي وحدة الأقطار العربية. وسير لذلك مسيرات جاوزت - بالعنف - الحدود المصرية. وعقد اتفاقية ثلاثية في ميت أبوالكوم وقع عليها - إلي جانبه - الرئيسان السادات وحافظ الأسد. لكن الاتفاقية ظلت ساكنة في أوراقها! ولأن عبدالناصر كتب "فلسفة الثورة" فقد كتب القذافي "الكتاب الأخضر" يضع فيه تصوراته للمستقبل الليبي. وتطلعاتها العربية والعالمية. ثم ألحت موهبة الكتابة علي الرجل - فيما بعد - فأصدر ثلاث روايات - أكاد أعرف المؤلف الحقيقي لها - وناقشها بالإرسال التليفزيوني مع عدد من مثقفي الوطن العربي. حالة نفسية تكررت محاولات القذافي لإقامة دولة الوحدة العربية. لكن محاولات واجهت الفشل. لا لغياب الحس العروبي. وإنما لان الجميع تبينوا وإن لم يعلنوا حالة الرجل النفسية. أيام الخلافات العربية العربية وحدها هي التي أكدت النفسية التي تعبر عنها أفكار الرجل. ولعلنا نذكر خلافه مع الرئيس السادات. والكاريكاتير الذي كان يرسمه له الفنان مصطفي حسين. وهو يجلس فوق "قصرية". أو يضع فوق رأسه "كسرولة"! قرر القذافي ان يبدل اتجاهه فأنفق المليارات من أموال الشعب الليبي لاقناع قادة افريقيا بما سماه الولايات الافريقية المتحدة. وأقيمت مؤتمرات ومهرجانات. وفي أثناء ذلك. وقبله. وبعده. سعي القذافي من منطلق الزعامة التي تملكته إلي نشر الثورة في أمريكا اللاتينية وافريقيا. ومساعدة انفصاليي أيرلندة أذكرك بأن دور القذافي في انفصال الجنوب السوداني يصعب إغفاله وقد شجعت الثورة الليبية الحالية أحد مساعدي القذافي علي التصريح بأن القذافي هو من أصدر الأمر في حادثة لوكربي. ومقابلا لدعوة الثورة فقد كان الشعب الليبي يعاني أقسي الظروف بداية من العوز المادي حتي ان موظفي الدولة كانوا يتقاضون رواتبهم كل بضعة أشهر. واستمرارا في غياب الحريات والملاحقة الأمنية والمصادرة والاعتقال. وانتهاء بالتذويب في الحامض لمن يظهر الرفض. زيارتان زرت ليبيا مرتين. الأولي ضمن وفد كبير للغاية ضاقت به غرف فندق باب البحر بطرابلس. فأمضي الكثيرون أيامهم في القاعة الرئيسة بالفندق. كنا قد استجبنا أدباء ومفكرون وفنانون وأساتذة جامعات لدعوة سعد الدين وهبة بالسفر إلي ليبيا. والمشاركة في مؤتمر عن الوحدة العربية. وظللنا محتجزين داخل الفندق من الصباح إلي ساعة متأخرة من الليل. لتقلنا باصات إلي لقاء شخصية مهمة. ومضت الباصات في ليل طرابلس إلي صحراء تلفها الظلمة. اختفت الأحاديث الجانبية والدردشات. وانشلغنا بتبين الطريق وسط الظلمة الحالكة. حتي أضواء الباصات كانت مطفأة. الضوء الوحيد الخافت صدر عن سيارة جيب صغيرة تحمل مجموعة من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة. أخيراً. أخيراً. مضت السيارة الجيب نحو بقعة ضوء. عرفنا في اقترابنا منها انها تصدر عن خيمة هائلة. صفت في أرضيتها مراتب. اصطففنا قعودا عليها. بعد أن دخل الجميع من جهاز كشف الأسلحة. هتف من لا أعرفه بما عني أن "زعيم الثورة" وصل. وجلس الرجل - بمفرده - علي كرسي. ونحن أمامه قعود. وتحدث في قضايا كثيرة. عربية ودولية. واضطر الكثيرون - وكبار السن بخاصة - إلي رفض الجلسة القاسية. وجاراهم من غابت عنهم الرؤية. فوقف كل من في الخيمة. بينما "الزعيم" يصل أحاديثه بخيط لا يفلته! دفع سعد الدين وهبة ثمن هذا الموقف السخيف. مؤاخذة من كل أعضاء الوفد المصري. لم نكن نعرف أن القذافي غرر بالجميع. وأن الدعوة التي تلقاها وهبة. ونقلها إلي الجميع. هي حضور مؤتمر عن الوحدة العربية. ومن يكره؟ صحبني في سيارته - في الليلة نفسها - أديب ليبي صديق. اخترقنا هدوء شوارع طرابلس. أنصت. ويتكلم. يثير فزعي ومخيلتي بحكايات عن المصادرة والخطف والاعتقال والتعذيب والإعدام بالحامض. بمعني إخفاء المعتقلين السياسيين. لم أقاطع صديقي. ولا حاولت أن ألقي أسئلة. بدا كأنه يجتر ظروفاً قاسية. ليس علي المستوي الشخصي. وانما علي مستوي الجماعة الليبية. في المرة الثانية. كنت أرأس وفد الاتحاد المصري في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب. وتعرفت إلي أمين الزراعة في اللجان الشعبية التي ألفها القذافي. ضمن منظومة تختلف في تكويناتها عن السلطات السياسية المعروفة: التنفيذية والتشريعية والقضائية. أبديت - بنية حسنة - ملاحظة حول ما شاهدته من أداء سلبي للجان الشعبية. وأبدي الرجل وجهة نظر مختلفة. وتصورت الأمر انتهي عند مجرد اختلاف ملاحظتين. لكن نظرات الرجل لاحقتني في أرجاء المكان. وحين ضقت بالحصار. اتجهت إليه بالقول: قدمت لمؤتمر اتحاد الكتاب العرب. لا شأن لي بمشكلاتهم الداخلية. مساجلة المجنون أخطر من الخائن. ربما تدبر الخائن ردود الأفعال. وجنون القذافي لم يختلف فيه اثنان. سواء من القيادات الحاكمة. أو من الشعب العربي في أقطاره المختلفة. وقد تأخرت الدعوة لوقوف معمر القذافي أمام محكمة الجنايات الدولية عشرات السنين. وإذا كانت صحة الرجل النفسية سبباً في حربه ضد شعبه بالمرتزقة والطائرات والصواريخ. فإن نتائج أفعاله تضعه في موقف الإدانة الصريحة. وإلا ما واجه الحكام الطغاة عقاب شعوبهم. مثل موسوليني الذي علقه أبناء وطنه - مقتولاً - من قدميه. في أحد مؤتمرات القمة العربية نشبت مساجلة بين العاهل السعودي والقذافي. إذ اتهم الملك عبدالله الزعيم الليبي بتدبير مؤامرة لاغتياله. وأبدي الملك عبدالله رأيه في القائد الليبي. ورد القذافي أن وضعه كرئيس للجماهيرية العظمي. وأمين للقومية العربية. وأمين للوحدة العربية. ورئيس للقمة العربية. وملك لملوك إفريقيا - هو الذي ذكر كل هذه المسميات - يمنعه من أن يهبط بمستواه!. لاحظ أن الحضور هم القادة العرب الذين تباهي القذافي بأنه يرأس مؤتمرهم! وبالمناسبة. إذا كان الشعب الليبي. والشعب العربي بعامة. قد عاني تصرفات القذافي المدمرة. فإن الإدانة يجب أن توجه إلي لحكام العرب. لقد أهانهم القذافي في مناسبات كثيرة. وساعد - بالمال والسلاح - علي انفصال جنوب السودان. وقضي علي مساع عربية لاحتواء المشكلات. وتكرر تعامله القاسي. وطرده لرعايا الدول العربية. لمجرد إرضاء نزعة الشر في داخله. بل إنه أقدم - يوماً - علي إلقاء الفلسطينيين في الصحراء. بدعوي أن بلادهم - المحتلة - أولي بهم. ماذا بعد؟ من عرفوا القذافي عن قرب. من درسوا شخصية الرجل جيداً. وتعرفوا إلي طبيعة تصرفاته. وكيف يأخذ القرارات. وحجم ردود الأفعال.. أجمع كل هؤلاء علي أن المأزق الذي يعانيه معمر القذافي سينتهي إلي أحد حلين. إما أن يظل مسدسه في يده - والتعبير له - حتي يقتل. وإما أن ينتحر. رفضوا التصور - من خلال استقرائهم لممارسات القذافي - أنه سينصت إلي صوت العقل. أو أنه سيحاول الفهم كما فعل بن علي. أو يدرك حقيقة ما جري كما حدث لآخرين. اكتفي الرجل بالهتاف: إلي الأمام.. من هم الذين يدفعهم إلي التقدم؟ وإلي أين يذهبون؟ ومن يدفع الثمن في النهاية؟ أسئلة خلا منها ذهن القذافي تماماً. لم يعد إلا عجبه من أن يوجد في ليبيا من يرفضه. أو يدعوه: إرحل!. الشعب كله يحبه. هو المعلم والقائد والثورة والمجد. من يناقش ذلك أو ينكره. فإن عليه أن يواجه التصفية علي أيدي قوات المرتزقة الذين هتف فيهم القذافي من الأعماق: إلي الأمام!