يقاس نجاح القرار السياسي ومهارة صانعه بقدرته على خلق الحد الأدنى من الاجماع والالتفاف الوطني، وتجنب الأزمات السياسية والاقتصادية المتوقعة، بحيث يكون ذلك القرار آداة لحل مشكلة أو مواجهة تحد وليس جزءاً من تلك المشكلة أو آداة لتعقيدها، وتتضاعف حجم المسئولية حين يكون هذا القرار في ظروف استثنائية انتقالية تتطلب التحلي بأعلى درجات المسؤولية والحذر ولملمة شتات الفرقاء قبل نيل رضا الأصدقاء، أما محاولة استغلال سلطة صنع القرار في خلق حقائق على الأرض وتشكيل أوضاع تخالف كل الأعراف الدستورية وتشيع أجواء الانقسام وتريق دماء العباد، فإننا في تلك اللحظة أمام رعونة سياسية بالغة تحاول تثبيت دعائم وأركان ديكتاتورية ناشئة. لا يخرج عن هذا السياق الاعلان الدستوري المثير للجدل الذي أصدره رئيس مصر الاخواني الدكتور محمد مرسي، والذي مرر عبر بوابة (حماية الثورة) فرمان يخاصم المفهوم الحديث للقرار السياسي، حيث أضاف لمطلق سلطات الرئيس المنتخب التنفيذية والتشريعية سلطات جعلته وجماعة الإخوان المسلمين من خلفه مصدراً للسلطات ومنزهاً عن الطعن القضائي فيما يصدر عنه من قرارات، ليس ذلك فحسب بل وحصن الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور (المختلف عليها) ومجلس الشوري بأغلبيتهما الدينية ضد أي طعن، كل ذلك جاء وبشكل ومفاجئ دون علم فريقه الاستشاري وبطريقة تفتقد للخيال السياسي في تحسبها لردود الأفعال المتوقعة وتأثيراتها السياسية والاقتصادية. ورغم غرق هذا السلوك السياسي حتى أذنيه في الشأن المحلي المصري، وردود الأفعال الداخلية المقلقة، إلا أن عزل ما يحدث في الداخل المصري عن دوائره الاقليمية والدولية يبدو أمراً غير منطقي، فتوقيت ذلك الإعلان الدستوري يكشف أن إصداره جاء مدعوماً بقوة دفع خارجية هائلة بعد نجاح الدكتور مرسي منقطع النظير في الوفاء بأول استحقاقات الدور الإخواني الجديد في منظومة الأمن الاقليمي التي تديرها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبعد يوم واحد من توصل جهود الوساطة لاتفاق تهدئة بين الاحتلال الصهيوني وحماس، بل أنه وبلا مبالغة تفوق في القيام بمسؤولياته على سلفه المخلوع حسني مبارك من حيث التفاصيل الاجرائية للاتفاق، وتوج ذلك بسابقة تاريخية من خلال إعلان وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون لتفاصيل هذا الاتفاق من القاهرة، ما أعطى لدى الكثير من المراقبين مؤشرات قوية على أن أوضاع جديدة يجري ترتيبها لمستقبل المنطقة، تتماشى مع رغبات وطموحات أمريكية في سياق لعبة النفوذ وإعادة ترتيب الأوراق بعدما يعرف ب(الربيع العربي). والقدر المتيقن من الحقيقة، أن نشوة هذا النجاح ( من وجهة نظر الدكتور مرسي وجماعته) وسيل الإشادات الدولية التي انهمرت من الغرب، ربما تكون قد فُهمت على أنها ضوء أخضر دولي لتثبيت أركان حكمه وتوطيد سلطة جماعته واشباع شبقها للاستحواذ على السلطة وهدم مؤسسات الدولة المصرية العتيدة، ومن هنا تغلبت حسابات اللحظة والنظر للخارج الأمريكي والغربي على القياسات الموضوعية لردة الفعل المتوقعة داخلياً من هكذا قرار، خاصة أنه بات مفهوماً أن الرئيس المصري بإزاحة النائب العام وفق الاعلان الدستوري نفسه بيت النية لخوض ملحق لاخفاقة في جولة سابقة لازاحة النائب العام نفسه مهما كانت النتائج، حتى لو كانت نتائج هذا الفرمان هي وقوعه في صدام مباشر مع القضاء أدت الى تلويح الأخير بالإضراب. إجرائياً، ومهما كانت سيناريوهات تلك الأزمة، فإن دخول السلطة التنفيذية في معركة تكسير عظام مع القضاء والمؤسسات الدستورية استناداً الى دعم الخارج هو معركة خاسرة بامتياز لجوهر دولة المؤسسات، فالرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف الذي حظي بدعم أمريكي غير محدود فيما تعرف ب(الحرب على الإرهاب)، تجاسر في ال 3 من نوفمبر 2007 على الإطاحة برئيس المحكمة العليا افتخار تشودري بعد ساعات من إعلان حالة الطوارئ وتعليق العمل بالدستور، واعتصم تشودري مع باقي قضاة المحكمة العليا فيما عرف حينئذ بانتفاضة القضاة، ولا مجال للمبالغة في القول أن تلك الأزمة كانت من الأسباب الرئيسية التي جعلت من مشرف بطة عرجاء حتى استقالته من منصبه في العام 2008 بمباركة ودفع من أمريكا نفسها. أما على صعيد ردود الأفعال على الإعلان الدستوري، فقد نشطت الدوائر الجمهورية في الكونجرس الأمريكي للضغط على الدكتور مرسي من خلال دعوة السيناتور الجمهوري جون ماكين الادارة الأمريكية الى التفكير جدياً في استخدام المساعدة التي تقدمها الولاياتالمتحدة الى مصر كورقة ضغط على الإدارة المصرية، وهي مسألة تعيد إلى الأذهان مقاربة العلاقة المعقدة بين المخلوع مبارك وإدارة الرئيس الأسبق جورج بوش والتعاون الكبير في الملف الفلسطيني في مقابل صدام صامت في ملف (الديمقراطية)، الأمر الذي لا يحسبه المرء مقبولاً لرئيس منتخب بعد ثورة رفعت (الكرامة الوطنية) كأحد أهم أهدافها!! في سياق هاتين النقطتين، ينبغي إعادة تذكير الإخوان المسلمين أن الاستمرار في تلك الأخطاء العنيفة والساذجة، وقراءة تاريخ مصر فقط منذ عام 1928 (تاريخ نشأة الجماعة)، والقفز فوق مؤسسات الدولة تحت لافتة ثورية ثبت زيفها، والنظر لرضا الخارج أكثر من استحسان الداخل، هي بمثابة خطايا بالغة في حق أنفسهم، سيكون ثمنها هو إعادة تموضوعهم مرة أخرى ك(جمعية خيرية دينية) وليس كرجال دولة وسياسيين قادرين على إدارة دولة بمفهومها الحديث. Comment *