وصل الإخوان رسمياً للحكم في مصر...تعدت نتيجة أول عملية انتخابية حيز الصناديق الضيق و الفارق الأضيق بين المرشحين إلى الفضاء الأوسع بما لا يقاس، إلى فضاء الوطن بأكمله بما يحتمله من انعكاساتٍ و تبعاتٍ إقليمية، و باتت إمكانية وصول الجماعة التى خافها البعض و استبعدها البعض الآخر (حتى عدها أقرب إلى 'عشم إبليس في الجنة‘...) حقيقةً معاشة، حقيقة تؤكدها تحركات الجماعة الحثيثة للاستيلاء على مرافق الدولة و آلياتها باستبدال المتبقين من مطبخ مبارك و رموز عهده بكوادر الجماعة أو على أقل تقدير المتعاطفين إخوانياً، و على الرغم من الدهشة التي ما تزال تسيطر علىَّ من السهولة و السلاسة التي تم بها التخلص من الجنرالات و التي لا أفوت فرصةً دون الإفصاح عنها و التأكيد عليها مشيراً إلى شكوكي العميقة في أن هذه الحركة تخفي وراءها من الاتصالات و المشاورات ما يتخطى خطره و مغزاه القرار في حد ذاته، فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً و لا يقلل من عدم جدوى الجدال في مدى صدقه خاصةً من قِبل من يرفضون أو يتحفظون على مشروع الإسلام السياسي. لذا، فبعيداً عن الانزلاق إلى مستنقع الملاسنات و تبادل الاتهامات و النقد بهدف النقد كما هو حاصل بين أنصار التيار الإسلامي و رموزه و الناطقين باسمه (بشقه الإخواني على وجه التحديد) و المحسوبين على التيار المضاد لهم من أنصار المجتمع المدني الحقيقيين أو الفلول الذين لم يفلحوا في تغيير جلودهم بعد، أرى أنه يتعين على كل مراقبٍ جاد أو خصمٍ سياسيٍ موضوعي لتيار اليمين الإسلامي أن يلجأ إلى رصد تحركاتهم و قياسها بمقياس الثورة ، و هو ما أزعم أن بعضاً من المثقفين و الكتاب الملتزمين قد أخذه على عاتقه؛ و علي ذلك، فإننا إذا انطلقنا من تعريف الثورة على كونها عملية تحول عميقة تبدأ بوثبةٍ أو انتفاضة تكسر النمط الذي كان سائداً من قبل و تهدف إلى إزاحة تركيبةٍ اجتماعية ذات انحيازاتٍ طبقيةٍ معينة و إحلال أخرى محلها أكثر تطوراً و استجابةً إلى متغيرات المجتمع ، فإننا نسأل أنفسنا و من ثم الجماعة: أين هم من ذلك و ماذا فعلوا مما يستجيب إلى ذلك حتى الآن؟ إن المراجعة المتحرية لمجمل تحركات الجماعة حتى الآن لتؤكد أنهم يختزلون الثورة في الثمانية عشر يوماً الأولى التي انتهت بتنحي مبارك، و بذا لا تظل الثورة في جوهرها صيرورةً و عملية تحول طويلة و عميقة تستغرق سنين عديدة ( استمرت ثورة 1789 الفرنسية زهاء عشر سنين حتى قيام القنصلية تحت نابوليون بونابارت 1799) و إنما نقطةٌ في الزمن انقضت بسقوط مبارك، و لا تصبح المشكلة في التركيبة الاجتماعية المنحازة للأثرياء و الميسورين من الملاك و القادرين على حساب المنتجين و الفقراء و المهمشين و إنما تنحسر المشكلة إلى الطابع النهبي لحكم مبارك و أعوانه و الدائرة الصغيرة المتحلقة حوله و فسادهم، و بسقوطهم بلغت الثورة أهدافها ( فيما ترى الجماعة). و ليت الأمر توقف عند هذا الحد، إذ أن الجماعة اعتبرت أن النجاح في الانتخابات لا يعني فقط الرغبة في التغيير و رفض رجلٍ ارتبط اسمه بمبارك و إنما هو تأمينٌ و انتصارٌ لرؤيتهم و تحليلهم لمعنى الثورة و طبائع الأمور، و قد عدوا ذلك النجاح تعويضاً لهم عن سني الاضطهاد و تخويلاً لا بتشكيل الحكومة فقط، و إنما بإكساب كل ملمح من ملامح الدولة و المجتمع بطابعهم الخاص بما يعيد إلى الأذهان الطابع الشمولي لأنظمة الاستبداد العقائدية... و لعل اجتماع أسطورة الاضطهاد و الملاحقة تلك مع إحلال كوادر الجماعة في نسيج الدولة و المؤسسات هو ما أكسب تحركات الجماعة و تعييناتها طابع المكافأة و التعويض و تقسيم الغنائم، و إلا فبم نصف تعيينات المجلس الأعلى لحقوق الإنسان و حركة المحافظين؟! و إذ رأى الانتهازيون و الأفاقون، أولئك الذين لا تعدمهم ثورة، و خاصةً من كتبة العهد السابق و كل عهد مجرى الأحداث أسرعوا لقضم قطعة من لحم الثورة و الشعب قبل أن ينفض المولد، و في حضور صحفٍ يقال عنها قومية، و هو اصطلاح يفيد كونها تركة يتوارثها كل رئيس (حسب فهمهم..)، وجدنا أشخاصاً من عينة كتبة التقارير و المخبرين يتبوأون مراكز قيادية...و لا يفوتنا أن نشير إلى المجلس الأعلى للصحافة و المجلس الاستشاري الرئاسي الذي لم يخبرنا أحد عن المعايير التي اتُبعت في اختيار أعضائه، فيما عدا المنتمين للجماعة... لكن يبقى المؤسف حقيقةً أن الكثيرين ممن لم تتلوث أسماؤهم بالعمالة لمبارك صراحةً أسرعوا هم الآخرون يحجزون نصيبهم على الساحة الجديدة و تعاملوا مع مشاركتهم في الثورة على كونها رأسمال يتم توظيفه في احتلال أكبر حيزٍ ممكن في ساحةٍ إعلاميةٍ مكتظة تشكو من الفوضى و انعدام المهنية و التوثيق المتزايدين... باختصار، لقد انفجر في مصر حراكٌ ثوريٌ عظيم، إلا أنه ( ككل الثورات) لم يكتمل بعد، و لا أبالغ إذ أؤكد أن الإخوان المسلمين يحولون دون استمرار الثورة لبلوغ هدفها الأسمى في تشكيل مجتمعٍ جديد، لا أكثر حريةً فحسب ، و إنما عدلاً و تحققاً على الصعيد الفردي و الجماعي... و في غياب رؤيةٍ اجتماعيةٍ-اقتصادية مغايرة يصبح ما حدث في اعقاب الانتخابات مجرد استبدال شريحةٍ محل أخرى من نفس الطبقة تراهن على إرهاق الناس و سأمهم، و إذ ترفع الجماعة ثورة 25 يناير إلى مصاف التقديس تقوم بتحنيطها لتغدو نقطةً ميتةً في التاريخ و يصبح دم الشهداء قميص عثمان الذي به يتاجر، و من ثم تتعامل معها كغزوة و يصبح أعضاؤها الآن في مرحلة تقسيم الفيء و الغنائم ويهرول وراءهم كل من يخشى أن يفوت نصيبه من الوليمة الدسمة... أما الجماهير، تلك التي حولت بنزول ملايينها إلى الشوارع الحراك من اعتصامٍ إلى ثورة ، فلم يعمل حسابها في التقسيم، و لا عزاء لها...كل ما ترك لها لا يزيد عن المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع... هو واقعٌ قبيحٌ دون شك، لكنني لا أكتب هنا للتباكي و إنما للرصد و التحليل أولاً...أما ثانياً فللتأكيد على حاجة القوى المدنية في مصر إلى إيجاد بديلٍ مقنعٍ أو جبهةٍ تحاول الوصول إلى الجماهير التي نُسيت في تقسيم الأسلاب اعتماداً على إيجابياتها و مقدرتها على التنظيم و الحراك أولاً لا استثماراً لسقطات و سلبيات الإخوان المسلمين. زميل الكلية الملكية لأطباء التخدير Comment *