حين أعرب عن خوفي من الشهور المقبلة و إذ أصرح برأيي في كونها ستشكل فترةً عصيبة فإني لا أتكلم بخفة و إنما أزن كل كلمة جيداً و أقولها ببطء المستثقل لها المنسحق تحت وطأة ما تستشرفه وتبشر به من واقعٍ أليم. وفرةٌ مفرطةٌ محيرةٌ من الأحداث، لا يعلم أحدٌ أين ستنتهي وإلام ستؤدي تحديداً إلا أن الناس يحدسون...يترسب لديهم من محصلة الأحداث انطباعٌ سيءٌ ومذاقٌ تزداد مرارته يوماً بعد يوم و شعورٌ بأن القادم الذي بات يكتنفه الغموض لا ينبئ بأي خير... وفي المقابل ثمة وفرة من السيناريوهات المطروحة كلٌ منها أسود من أخيه! فالاحتمالات العريضة تتلخص إما في مجيء الفريق شفيق بما بمثل ذلك من اكتمال إعادة إنتاج النظام بأتم ما تحمل الكلمة من معاني الهزل و الفشل و الزراية ، و لم يعد يخفى على أحد ما ينتويه الرجل و النظام من سحب البساط من تحت أرجل الجماعة المحظورة-العلنية و تجريدها من مكتسباتها الهزيلة و من ثم التنكيل بأفرادها بعد أن فقدوا تعاطف الشارع الأعرض، فالرجل تخطى مرحلة التلويح بذلك إذ بات يصرح باتهامهم بتدبير معركة الجمل... و نستطيع أن نجزم بأنه لن يقف عند هذا الحد و إنما سيعتبر نفسه مفوضاً من الشعب و ربما العناية الإلهية ( بعد النظام و الشريحة الاقتصادية التي يمثلها) لتطهير البلاد من الثوار و قياداتهم؛ أما ثاني الاحتمالات فهو وصول مرسي و الجماعة لتبدأ محاولة إعادة صياغة هيكل الدولة و إحلال كوادر الجماعة في منظومة الأمن و شتى المرافق المفصلية بما سيصاحب ذلك من عنفٍ و عسفٍ و إقصاء ربما لن يقل عن عنف و قسوة النظام، و بالحق الإلهي طبعاً... و أما ثالث الاحتمالات فهو أن يتفجر 'حدثٌ‘ أو 'شيءٌ‘ ما كأن ينتفض أفراد الجماعة مثلاً في حال الحكم ببطلان مجلس الشعب مما يوفر المسوغ للجيش للاستمرار ريثما يستتب الاستقرار... ربما أميل إلى ترجيح السيناريو الأول إلا أنني لا أستطيع أن أجزم بشيء سوى يقيني بأننا مقدمون على مرحلةٍ من العنف... غير أن ما يحدث ليس مدهشاً إطلاقاً، و إنما هو نتيجةٌ منطقية نتجت عن سلسلةٍ من الأخطاء المتراكمة عبر عمر الثورة القصير تسببت في مفارقاتٍ أضيفت لميراث عهد مبارك ببلادته ؛ فمن مفارقات الثورة المصرية العديدة أن الشعب عليه أن يختار بين الرجعي و الأكثر رجعيةً، و للإنصاف فالمسؤولية تقع بالكامل على عاتق أغلب النخبة ممن تصدوا، حديثاً و كتابةً، للثورة بما أشاعوه من مفاهيمٍ خاطئة عن الثورة و ما تعنيه و ما تمثله سواءً عن التباسٍ أو جهلٍ أو سوء نيةٍ مما أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من وضعٍ بائس. ولعل أفدح الأخطاء و أول ما يصفع المراقب المعاصر و ما سيفجع كاتب التاريخ في المستقبل هو عدم ضبط معاني الكلمات و الخلط الذي أزعم تعمده فيما يتعلق بمكونات السلطة و طبيعتها. بدأت بتصوير مبارك و مشاهير معاونيه على كونهم النظام، في حين أن النظام عبارة عن تركيبة اجتماعية ذات انحيازاتٍ طبقية و اقتصادية تدافع عنها و تدعمها كافة قوى الأمن و الاستخبار و توفر لها الشرعية منظومة القوانين و التشريعات ، و لئن كان النظام ( وفقاً لهذا المفهوم) بشبكته المعقدة من ذوي المصالح بارتباطاتهم المحلية و الإقليمة ( و بالأخص السعودية و إسرائيل) و العالمية ( و بالأخص امريكا) تخلصت من مبارك و رموز عهده فلم يكن ذلك سوى نوعٍ من الألقاء بحمولة ميتة عن ظهر سفينة تتعرض لعاصفة...لقد أدرك النظام أنهم صاروا اوراقاً محروقة، و لم يكتف بذلك فها هو يحاول أن يكفل لهم الخروج الآمن و نهاية كريمة لا يستحقونها عبر محاكماتٍ هزلية و استدرار التعاطف البائس مع حالة مبارك الصحية كأن أحداً لا يمرض و لا يموت في مصر سواه و كأنه ليس المسؤول عن ترك المصريين نهباً لشتى السرطانات و الأوبئة التي لا يعلم العالم عنها شيئاً و تحير العلم و الأطباء.. ثانياً: سوء الفهم و الاحتفاء من قبل نفس النخب بدور المجلس الأعلى و هو ما تبعهم فيه الجمهور المؤلفة غالبيته من غير المسيسين. لقد أغفلوا حقيقة أن هؤلاء القادة هم مدللو عصر مبارك لم يتم اختيارهم لثوريتهم و إنما لطاعتهم و ولائهم و أنهم تحركوا لحماية ما تبقى من النظام مضحين بمبارك بعد أن تيقنوا من موته سياسياً...لقد تصرفوا بذكاءٍ لا شك في ذلك...أما من مجدهم (من النخب) مغفلاً طبيعة تكوينهم و موقعهم من السلطة فإنما فعل ذلك إما عن جهلٍ و حسن نية أو غباءٍ أو تآمرٍ، و للأسف ففي مثل هذا الموقف يؤدي حسن النية و سوئها إلى نفس النتيجة ( سوى عند ربي مما لا يدخل في اختصاصنا!) ثالثاً: تصوير الثورة كما لو كانت يوماً أو حدثاً ينقضي في بضعة أيام و ليست عمليةً و صيرورةً تتطور عبر سنين لإعادة رسم و هيكلة المجتمع و اقتصاده وفق انحيازاتٍ جديدة تتلاءم مع مصالح الطبقات و الجموع الثائرة، و بالتالي تم اختزالها في الثمانية عشر يوماً التي انتهت بإزاحة مبارك دون الالتفات إلى أن مطلباً واحداً من مطالبها الأهم لم يتحقق و أن تشريعاً واحداً يرد الحقوق على أهلها من عينة قانون الإصلاح الزراعي الصادر عقب ثورة يوليو 1952 لم يصدر و بالتالي فالثورة لم تبدأ بعد لتنتهي و يتم الحديث عنها بصيغ الفعل الماضي! رابعاً و ربما الأهم في موضوعنا هو التسرع، أجل التسرع، في محاكمة مبارك و معاونيه قبل أن يوضع دستورٌ و قانونٌ جديد يعبر عن روح الثورة ...لقد ارتضىت أغلب القوى السياسية الاحتكام لهذا القانون و بجلوا صنميته و قدسيته غافلين أو ناسين أو متناسين أن منظومة القوانين التي عشنا و مانزال في ظلها لم تهبط من المريخ و لم تنبت من الأرض و إنما هي نتاجٌ بشري يعبر عن مصالح النظام و النافذين أو الواصلين فيه و المستفيدين منه في سياق التركيبة الاجتماعية الراهنة بانحيازاتها و ما يترتب عليها من العلاقات المتبادلة بين شرائحها و طبقاتها، و في فترةٍ زمنيةٍ محددة ، و لئن كانت تحمل مؤثرات عهودٍ مضت فإنها بالأخص تحمل طابع و روح عصر مبارك البليد الآسن الزنخ الذي استمر ثلاثة عقود حيث كانت تصاغ و تحاك القوانين وفق الهوى و على القياس الصحيح! خامساً، الحديث عن الإخوان المسلمين بصفتهم بديلاً عن النظام و نسيان أو تناسي افتقارهم لأي مشروعٍ أو رؤيةٍ اقتصاديةٍ مخالفة للنظام، فهم مع رأسمالية السوق بكل سعارها مما يفسر تعايشهم لفترات طويلة مع النظام وفق علاقةٍ معقدة تتفاوت في الشد و الجذب راجعةٍ لتمثيلهما ( أي الجماعة و النظام ) لشريحتين مختلفتين لنفس الطبقة، فهما إن شئت تنويعتان على نغمٍ واحد... أما فيما يتعلق بميراث عصر مبارك فقد أعربت في بداية الثورة عن خوفي من ضعف التنظيمات السياسية و الفصائل و انفصامها عن الشارع و فقدانها للقواعد الشعبية باستثناء التنظيمات الإسلامية لأسبابٍ عديدة ليس هنا المجال للخوض فيها، لذا و حين اندلع الحراك الثوري لم يجد فصيلاً مدنياً واحداً على أتم الاستعداد لاعتلاء موجه و ترويضه و قيادته إلى قنواتٍ تترجم مطالب الثوار و إنما سبق الإسلاميون إليه فكانت القوى المدنية كمن انضم إلى سباقٍ بعد أول جولة؛ ليس ذلك فحسب و إنما أتت رغبتهم في التنظيم مسكونةً بداء التشرذم الأزلي و حب الظهور الإعلامي للذوات المتضخمة التي وجدت إعلاماً غير بعيدٍ مطلقاً عن الشبهات ليتلقفها و يضخمها و تبتذل الثورة إلى حربٍ كلامية في الفضائيات عبر برامج ال'توك شو‘ تعوض النقص في المسلسلات التركية. باختصار، نحن أمام ثورةٍ لم تزح النظام القديم، لم تحطمه و تكنس ركامه، ارتضت أن يدير المتخلفون من عهد مبارك المرحلة الانتقالية ؛ ثورةٌ لم تصغ دستوراً جديداً و إنما قبلت الأطراف و القوى التي برزت على ساحتها اللعب وفق قواعد لم تخترها و إنما وضعها النظام و أن تحاسب مبارك و رموز عهده وفق قوانين هم واضعوها! و هي تحركاتٌ تمت (كما أوضحت) وفق مفاهيم مخلوطة، مفاهيم رجعية لا تمت لعهد الحراك الثوري بصلة، و لا يسعني في هذا المجال سوى أن أشيد بالدكتور البرادعي لعزوفه و ترفعه على هذه المهزلة. الملفت للنظر أن كل الأحداث في مصر سريعة الإيقاع و تقع بالتوازي، ففي نفس الوقت الذي ينتظر الجميع الجولة الثانية من الانتخابات ( أياً كانت أسبابهم و بغض النظر عن ميولهم) نراهم حابسي أنفاسهم من النتيجة المرتقبة في قضية شرعية مجلس الشعب، و هم في عين الوقت يجترون صدمة الحكم الصادر بحق مبارك و عصبته بينما يتابعون المعركة الجانبية بين المستشار الزند رئيس نادي القضاة و بين مجلس الشعب بأغلبيته من التيار الإسلامي إلى غير ذلك من المعارك الجانبية الإخرى... أنا أرى أن الوقت لم يعد للمشاهدة و إنما استئناف الحراك الثوري ، و في ضوء المضمون و المغزى الرجعي لفوز أيٍ من المرشحين فإني أؤمن بأن الرسالة الأوقع الآن تتمثل في إبطال الصوت لما سيمثله ذلك من حرمان الفائز من الادعاء بحيازته أغلبيةً شعبية، و إني هنا لأستعير ما قاله أستاذنا صلاح العمروسي في صدد إبطال الصوت: ' ... سوف يكون مرتكزاً قويا للنضال اللاحق ضد الرئيس الذي لم نتورط في تأييده، وبالتالي تكون المقاطعة لحظةً نضالية تعبد الطريق لنضالٍ لاحق.‘ Comment *