نتيجة الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية وما أفرزته من خيارين, كلاهما مر لقطاعات كبيرة من الشعب المصري خاصة الثوار. والمحاكمات الأخيرة لمبارك ونجليه والعادلي وأعوانه وما أثارته من موجة غضب عارمة في الشارع المصري, تمثلان دلالة واضحة علي أن المعركة الحقيقية والمستعرة هي, بين الثورة وبين النظام القديم, أو هي بالأحري صراع بين منظومتين من القيم ولكل منهما أنصاره وآلياته, فالأهداف الحقيقية التي قامت من أجلها الثورة ليس فقط في تغيير الأشخاص وإنما في بناء منظومة جديدة من القيم ترتكز علي المساواة الحقيقية بين المواطنين سواء في الحقوق والواجبات أو أمام القانون في إطار المواطنة, وكذلك سيادة معايير الكفاءة وتقديس الوقت وإتقان العمل وسيادة التسامح ووجود آليات الثواب والعقاب والمحاسبة, وتكريس الديمقراطية الحقيقية واحترام قواعدها, وأهمها تداول السلطة واحترام إرادة الناخب والتوازن بين السلطات وإحداث تنمية وطنية حقيقية تحقق للمواطن العيش الكريم ومكانة اقتصادية لمصر تليق بها, وهذه المنظومة لكي تنجح لابد أن تحل محل منظومة القيم الفاسدة التي سادت مصر طوال عقود وارتكزت علي مفاهيم المصلحة والسيطرة والإقصاء والمحسوبية وأهل الثقة والرشوة وتهميش الكفاءات وترويض النخبة وخلق الصراع بين فئات المجتمع سواء بين مسلميه ومسيحييه أو بين اليساريين والإسلاميين والعلمانيين, واعتمدت في استمرارها وهيمنتها علي تحالف النظام الحاكم مع العناصر الفاسدة من الحزب الوطني السابق وبعض رجال الأعمال في ظل صيغة زواج السلطة والمال, وبعض عناصر الإعلام ويدعمها البيروقراطية المترهلة والأجهزة الأمنية خاصة أمن الدولة, ونتج عن هذه المنظومة المهترأة موت السياسة وتدهور الاقتصاد وتجميد العقل المصري وهو ما شكل البيئة المواتية للانفجار الكبير واندلاع ثورة يناير المجيدة. ولكي تنجح المنظومة الجديدة للثورة فلابد من وجود رؤية واضحة ومؤيدين مؤمنين بهذه الرؤية ويمتلكون الآليات اللازمة لتحقيقها, لكن هذه المنظومة تعثرت, فمن ناحية فإن غياب القيادة قبل الثورة كان ميزة لها, لكنه انقلب إلي عائق خطير بعد إسقاط النظام حيث تنوعت وتعددت قيادات الثورة, ومن ناحية ثانية دخلت هذه القيادات والتيارات في صراع وتصادم وتباعد حقيقي عن أهداف الثورة وسادت أزمة الثقة بين الجميع, وفي المقابل نجح أنصار المنظومة القديمة في إعادة تنظيم صفوفهم واستخدموا كل الوسائل لتشويه الثورة والثوار وتغذية الانقسامات بينهم, وهؤلاء يستميتون للحفاظ علي المنظومة القديمة لضمان مصالحهم, وهم يدركون أن هذه معركتهم الأخيرة, معركة المصالح والصراع علي السلطة. ولذلك فإن عواقب وصول مرشح, كان جزءا أصيلا من تلك المنظومة, إلي مرحلة الإعادة في انتخابات الرئاسة إنما يمثل ضربة قاصمة للثورة ومنظومتها الجديدة, فالخوف ليس في شخص أحمد شفيق الذي ربما يحاول إبداء المرونة والتحسينات الشكلية علي خطابه ليماهي الثورة, وإنما في عناصر المنظومة القديمة التي تقف وراءه ويمثل مصالحها وتمثل تضادا كاملا لفلسفة الثورة في إحداث تغيير حقيقي في مصر, وهذه المنظومة لا تزال تمتلك كل الآليات التي تستطيع أن تفرغ الثورة من مضمونها ونصبح في النهاية أمام تغييرات شكلية وديكورية في شكل النظام القديم دون مضمونه. إن خطورة المشهد الحالي ليس فقط في احتمال وصول مرشح النظام القديم للرئاسة أو في استمرار انقسام القوي والتيارات الثورية وإنما في مستقبل الثورة ذاتها, بل إن الخطر الأكبر هو علي مصر التي نحلم بها ونريدها جميعها, فالمجتمع يتجه نحو مزيد من الاستقطاب سواء بين أنصار الثورة وأنصار النظام القديم أو بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية وأهداف الثورة يتم اختزالها تدريجيا في مطالب صغيرة وأي تيار ستنتصر إرادته علي الآخر, وهنا باتت الوقفة واجبة من كل شخص وتيار وطني يريد لهذه البلاد خيرا, ولا خيار في هذه الحالة سوي الحوار والتوافق بين كل القوي الثورية, فمهما بلغت الاختلافات السياسية والأيديولوجية ينبغي أن يكون هناك قاسم مشترك واتفاق علي مصلحة مصر والانتقال بها إلي حالة أفضل, وإذا كانت الثورة قد تعثرت لعوامل ترتبط بالثوار وانقسامهم أو من الثورة المضادة, فإن المشهد الذي رأيناه في ميدان التحرير عقب إصدار الأحكام علي مبارك وأعوانه ينبغي أن يستحضر مرة أخري روح ثورة يناير وأن يكون بداية لتصحيح الأخطاء وتوحد الثوار لاستمرار مسيرة الثورة وأهدافها. وإذا كنا بين خيارين صعبين, فإن خيار النظام القديم هو انقلاب حقيقي وردة علي الثورة, ولذا فإن الكرة الآن في ملعب مرشح الحرية والعدالة بالالتزام الصريح بالدولة المدنية والالتزام بوثيقة العهد التي وقعت عليها القوي السياسية لإنجاز أهداف الثورة الحقيقية, وأنه رئيس لمصر ولكل المصريين علي اختلافاتهم السياسية والدينية وتبديد حقيقي لكل المخاوف المتعلقة بفرض الدولة الدينية أو سيطرة المرشد أو تهميش فئة من المصريين, وليدرك أن ميدان التحرير سيظل الضمانة الحقيقية لردعه وإسقاطه إذا تراجع عن وعوده وتعهداته, وبالتالي المعركة الفاصلة الآن هي بين الثورة والنظام القديم, فإما أن تنتصر الثورة أو ينتصر النظام القديم بمنظومته الفاسدة لتدخل الثورة متاهات التاريخ. المزيد من مقالات احمد سيد احمد