السلطة الأخلاقية للثورة وضح الشكل المتحضر والراقي الذي اتخذته مظاهرة جمعة تصحيح المسار، أنه رغم قصر المدة منذ خلع مبارك في 11 فبراير حتي الآن - فإن الثورة المصرية بلورت نسقا أخلاقيا يدعو إلي الزهو والاحترام، وانطلاق شعار «إرفع رأسك فوق إنت مصري» لم يكن لمجرد الافتخار بالإنجاز الأولي للثورة وهو إطاحة رأس النظام وبعض أعوانه، وإنما هو أيضا تعبير دقيق عن قيم وأخلاقيات فجرتها الثورة وأعلت من شأنها، فردت للشعب المصري ثقته بنفسه وبقدراته، وأكدت إصراره علي مواصلة الثورة - رغم كل الصعوبات - من أجل تحقيق أهدافها المعلنة وهي الأهداف التي أكدتها جمعة تصحيح مسار الثورة، تلك الجمعة التي استعادت بجلاء تقاليد الأيام الثمانية عشرة التي أنجز فيها الشعب المصري مهمة خلع رأس النظام.. ففي هذه الأيام تجلت الصفات الحقيقية للمصريين فبرز التآخي واحترام المرأة والشجاعة الفائقة في مواجهة العنف المنظم خاصة في معركة الجمل، والجلد العظيم الذي أعان مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات علي احتمال البرد القارص والجوع أحيانا مع الإصرار علي مواصلة الاعتصام في الميدان، هو الذي تحول إلي رمز عالمي تفخر به كل الشعوب التي تكافح من أجل إسقاط الفساد والاستبداد وبناء حياة ديمقراطية مدنية حديثة وتحقيق العدالة الاجتماعية. تدلنا القراءة المتأنية للشعارات التي انطلقت في جمعة تصحيح مسار الثورة علي الإضافات الجديدة الواعية التي أدخلها الشباب علي شعارات المرحلة الماضية، وهي شعارات ولدتها التجربة التي عاشوها في الستة أشهر الماضية، فهم يقولون «مطالبنا مش فئوية ثورتنا ثورة اجتماعية»، وتقدم هذه الجملة العبقرية ردا شاملا علي كل الانتقادات التي وجهها النظام القائم لسلسلة الاحتجاجات الطويلة والتي كانت قد بدأت قبل اندلاع الثورة بسنوات وقام بها عمال وعاملون مطالبين بحقوقهم، وأطلق عليها بعض الإعلاميين وصف «الفئوية» حتي يقللوا من شأنها بل يتهموا القائمين بها بأنهم يحرفون مسار الثورة. وجاء هذا الشعار ليضع كل هذه الاحتجاجات في منظومة هي جزء لا يتجزأ من أعمال الثورة الاجتماعية، والثورة الاجتماعية هي استكمال للثورة الديمقراطية بعد أن تنجز الأخيرة بقية مهامها التي بلورها الميدان في شعار «لا إخوان ولا سلفية مصر هاتفضل مدنية». ولأول مرة يبرز شعار عن الفلاحين أي القوة الاجتماعية الكبيرة التي كانت قد غابت من الأيام الأولي للثورة «فالفلاح المصري هو ضمير الأمة وأساس النهضة».. وهكذا تستدعي الثورة في مرحلتها الجديدة بعض قواها الاجتماعية الحقيقية التي غابت في المرحلة السابقة. وفي نفس الوقت تنضج علي نار الثورة تلك المنظومة الأخلاقية التي ولدت من رحمها حيث يظهر الشعب المصري أفضل ما فيه، وتتأسس هذه المنظومة التي تتحول بالتدريج إلي سلطة أخلاقية علي نظرة جديدة للعالم، ومن الخطأ الفادح اختزال هذه النظرة للعالم في الأفكار والممارسات السياسية وحدها بل تشمل الفلسفة والاقتصاد والثقافة لتتخذ السياسة منحي جديدا نقيضا للنظرة البورجوازية للسياسة والتي تري فيها مجموعة من الألاعيب والمؤامرات والمناورات، إن السياسة في النظرة الثورية الأخلاقية هي فن تغيير العالم لصالح الكادحين وإزالة كل أسباب وأشكال الاستغلال والقهر والتمييز والفاقة، ومطابقة القول مع الفعل والإنصات بأناه لنبض الجماهير العاملة التي سرعان ما تحتضن هذه النظرة الثورية للعالم وتعمل بمقتضاها وتدافع عنها، وبذلك تكون السلطة الأخلاقية للثورة قد فعلت فعلها في واقع حياة الجماهير التي تنخرط في العمل الصراعي النضالي من أجل تغيير الواقع وإطاحة النظام الطبقي الظالم الذي يستخدم كل الأساليب والحيل وعناصر القوة التي يتمتع بها لقهر الجماهير ماديا ومعنويا وتشويه وعيها، وفتح مسارات جانبية لطاقاتها الثورية مثل الصراع الديني والطائفي لطمس حقيقة الصراع الطبقي الذي يتكشف بوضوح في ظل الثورة. إن السلطة الأخلاقية للثورة في أوساط الكادحين هي أحد أهم أسلحتهم البتارة ضد عروش الظالمين ومع استمرار الثورة سوف تبرز عناصر جديدة في تكوين هذه السلطة التي لن تبقي معنوية فقط وإنما ستتحول إلي ممارسة نضالية.. ويحق للثورة أن ترفع شعار «ارفع رأسك فوق إنت مصري»، و«ارفع رأسك فوق انت ثوري».