بعد طول هجرٍ و نسيان هُرع أغلب المحللين والمراقبين والكتاب إلى خزاناتهم العتيقة ينبشون ويسترجعون ملكات تحليلٍ ونقدٍ قد تراكم عليها التراب طيلة ما يقارب الثلاثين عاماً حتى هزلت و ضمرت ليطبقوها على د محمد مرسي في محاولةٍ لتحليل خطاباته ليستشرفوا رؤاه و يقرأوا أفكاره و توجهاته و ما يبدو من نواياه... و لم يتوقفوا عند هذا الحد إذ جعل البعض في البداية يعايره و يزايد عليه لكسره ما قد أخذه على نفسه من وعودٍ فيما يتعلق بالإعلان الدستوري المكمل و المجلس المحلول و القسم أمام المحكمة الدستورية العليا لينبري لهم من يدافع عنه متذرعاً بقصر الوقت و الظروف و المواءمات منادين بأن 'أمهلوا الرجل قليلاً حتى يستقر و يلتقط أنفاسه‘، ولست مبالغاً إذ أزعم أن تلك المزايدات و ذلك النقد المستمر لعبا دوراً مساعداً في دفعه الى خطوة الصدام تلك التي كنت أتوقعها و إن كنت أراها أتت متعجلة، إذ لم يلبث الرجل حتى فاجأ الجميع ( وربما نفسه) بإبطال قرار حل مجلس الشعب ( صدر أثناء كتابة هذا المقال )متحدياً الجميع و 'ملاكماً فوق وزنه‘ كما يقول الإنجليز... و كل محاولات تحليل الخطاب التي أشرت إليها جميلة ورائعة، بل و مبررة، فقد مرت مصر بمخاضٍ عظيمٍ مزلزل انكسرت على إثره ثوابت عديدة و أساطير شتى لعل أهمها في نظري هو ذلك الذي يتعلق بآلية إعادة إنتاج النظام لكوادره الإدارية و ملء مناصبه و مراكز النفوذ و السلطة فيه، و من هذا المنطلق فلا جدال في أن انتخاب د مرسي، بغض النظر عن تحفظاتنا عليه و آرائنا فيه، ليعدُ علامةً فارقة لما يدل عليه من اضطرار النظام لتقديم تنازلاتٍ، و لو شكلية، تطال تلك المناصب العليا و يؤكد على ما تستشعره أركان الدولة العميقة من ضغطٍ شعبي و توتر في زمنٍ مغايرٍ معادي يرصد تحركات قادة الأجهزة الأمنية و تعييناتهم و ترقياتهم بتدقيقٍ حثيث مسترجعين في ذلك أداء هولاء المسؤولين إبان أحداث الثورة الدامية و مدى تلطخ أيديهم بدماء الشهداء. إن كل ما سبق يرسخ القناعة بأننا أمام واقعٍ جديد يستلزم و يستدعي نظرةً مختلفة و تحليلاً للخطاب؛ لكن الإشكالية الكبرى في نظري تكمن في عدم تقدير مدى سيولة الوضع وغموضه وحدود ذلك التغيير (الذي نعترف به..) بدقة مما يقود إلى تصوراتٍ غير واقعية عما حل بالنظام و عن دور د مرسي و مقدار سلطته، فنرى الكثيرين خلال العشرة أيامٍ الماضية ، بعد أن يستهلوا حديثهم بالتنبؤ بصراعٍ بين الجماعة و الدولة ( و هو ما أتفق على حتميته و ربما وشوكه) ، ينساقون وراء ما ألفوا فيسقطون على الرجل تصوراتهم و يسبغون عليه من القوة ما لا يملك و يحاسبونه على ما قال و فعل ( و هو الأقل بطبيعة الحال) و على ما وعد و لم يفعل ( و هو الأغلب ) و الآن يتحدث البعض عن قرار عودة المجلس للانعقاد كما لو كان قراره منفرداً... وهم في ذلك يغفلون الآليات الأساسية التي وصل عبرها الرجل إلى الرئاسة، و الطبيعة التنظيمية الخاصة للجماعة و موقعه فيها، و كون القرار النهائي ليس قراره و حده و إنما قرار المرشد (و نائبه القوي على الأغلب) و كأن صفقةً لم تحدث للقبول بانتخابه ،و كأن ضغوطاً لم تبذل من قبل أمريكا ، و كأن النظام قد تغير فعلاً، و كأن مرسي كان معداً لهذا الدور أو المفضل من الجماعة أو مرشحها الأول ،و كأنه ذو صلاحياتٍ حقيقية كالتي كانت لسابقيه 'يملك و يحكم‘.... و كأن و كأن و كأن... لا يا سادة، إن النظام لم يسقط.... و إنما هي الجماعة سقطت في فخ النظام فخسرت الكثير... و هي تحاول الآن استعادة رصيدها الشعبي و من ثمة الاستحواذ على نصيبٍ من السلطة الحقيقية و إحلال كوادرها في نسيج الدولة و النظام.... و د مرسي ليس رئيساً بالمعنى المتعارف عليه، و إنما هو منزوع الصلاحيات لا مُعطلها فقط...منزوعها مرتين، مرة من قبل النظام و مرة من قبل قيادات الجماعة، و ما خطوته تلك إلا محاولةٌ يائسة لاستعادة ما حُرم منه هو الجماعة و ممارسة تلك السلطات و التأكيد على وجودهما لإثبات و تحقيق واقعية التغيير و المروق به من الحيز الشكلي إلى المضمون. و إذ نقترب من هذا المنعطف الخطير الذي يؤذن بتطوراتٍ درامية قد لا تخلو من العنف يتعين علينا تحليل وجه الخطأ و التجاوز في التعاطي مع ظاهرة د مرسي، الرئيس المنتخب الأول، عن طريق تناول المحطات الرئيسية التي طرأت منذ الثورة على العلاقة القديمة و المعقدة بين الجماعة و النظام. أحسب أن الكثيرين باتوا يتفقون معي الآن فيما أكدته دائماً و ذكرته مرةً أخرى في بداية المقال من كون المجلس العسكري تحرك مضطراً تحت ضغط الثورة الشعبية ليتخلص من مبارك و رموز نظامه من ذوي الأسماء و الوجوه المعروفة للجمهور، و قد أتبعوا ذلك بعقد تحالفاتهم مع فصائل القوى الإسلامية و الجماعة تحديداً لتفتيت الكتلة الثورية فيما بات الآن سراً معلناً...يجوز أنه يبدو أن النظام استفاد أكثر من الجماعة إذ أتاح له ذلك التحالف فسحةً من الوقت مكنته من التقاط أنفاسه و محاولة ترميم كيانه المهان و الجريح، و يجوز أنه في نهاية المطاف التف حول الجماعة ( و سائر الفصائل الإسلامية) ليحرمهم من مكاسبهم و يحد من احتمالات حصولهم على سلطات حقيقية عبر حل مجلس الشعب و الإعلان الدستوري المكمل، إلا أن ذلك لا ينفي كون الطرفان قدما العديد من التنازلات: تنازل النظام ( و المجلس العسكري) عن أن يأتي الرئيس من قلبه، من مؤسسته العسكرية التي عودتنا على تزويد النظام بكوادره في المواقع الأكثر حساسيةً و مفصليةً و في المقابل وفرت الجماعة غطاءً شرعياً لكل جرائم النظام مما جعله ينفرد ببقية فصائل العمل العام، و خاصةً اليسارية منها، مما تسبب في فقدان الجماعة قسطاً ضخماً و مهماً من رصيدها الشعبي. لكن تبقى حقيقة أن الإخوان ضحوا أكثر من النظام و ارتكبوا نفس الخطأ القاتل الذي يشبه مرضاً مزمناً فيهم: راهنوا على العسكر، و لما قبلوا بالصفقة بمحض إرادتهم فقد رضوا بأن يلعبوا على أرضية النظام و وفق شروطه حتى وصل د مرسي إلى المنصب مقلم الأظافر منزوع الصلاحيات... تحت الضغط قرر النظام و الدولة العميقة القبول بمرسي رئيساً شكلياً و لجأوا إلى تجميد مؤسسة الرئاسة،تلك التي عرفناها كلية القدرات و الجبروت ممسكةً بكل الأطراف حتى إشعارٍ آخر و حصرها في الشكليات من نوعية جمع القمامة( التي يبدو أنها تشغل الدكتور مرسي كثيراً)... قرر النظام تجميد رأسه و العمل بقلبه الأمني-الاستخباراتي ريثما تحين اللحظة المواتية و تصل تجربة ذلك الرئيس و الجماعة من ورائه إلى الفشل التام فيتمكن من كنسه إما إزاحةً أو عن طريق صناديق الاقتراع، و إني لأجزم بأن ذلك يفسر ما بدا من توجس د مرسي في خطاباته و خوفه العميقين من المؤسسة العسكرية و حرصه على ممالأتها و تملقها و تهدئة خواطرها بالإضافة إلى حرصه في نفس الوقت على أن يبدو بسيطاً و شعبوياً على سجيته ليكتسب تعاطف الجمهور الأعرض و يعيد استمالة الشارع الذي نفر من الجماعة و يحشد الشعب وراءه ليستقوي به أمام نظامٍ متنمرٍ له لا يغفر لهذه الثورة إهاناته و ما أجبرته عليه من تنازلات و يتحين الفرصة للانقضاض عليها بعد تفريغها من محتواها. أعود فأقر بأن د مرسي فاجأنا جميعاً بهذه الخطوة، فهي ليست متعجلة فحسب و إنما تتميز بالصدام مع كل الأطراف و معاداتها (فيما عدا الجماعة و سائر الأحزاب الإسلامية الممثلة في المجلس بالطبع) فقد عادى المجلس العسكري و أعلى سلطة قضائية في البلاد و الكثير من القوى والأحزاب و المفكرين في بلدٍ منقسمٍ على نفسه...وكأني به أدرك الكمين الذي أوقع هو و جماعة الإخوان المسلمين فيه أنفسهم حيث حُرموا من المجلس و أي سلطةٍ فعلية و تسلموا منصباً شرفياً فارغاً ليساقوا و يُسار بهم إلى فشلٍ ذريع يلامون عليه و يُلصق بهم و تكتمل صورة الإخفاق بحملةٍ شعواء من قبل إعلامٍ غير نزيه ليس أحب إلى قلبه من التشنيع و التقبيح لكل ما تقوم به الجماعة! في يقيني أن د مرسي ( و الإخوان خلفه) قرر القفز إلى الأمام...قرروا أن يقامروا ليستعجلوا الصدام الحتمي الآن قبل أن يحدث و قد لحق بتجربتهم الفشل و فقدوا رصيدهم تماماً في الشارع...قروار أن يحرجوا المجلس العسكري و يضعوه في مأزق الخيار بين الكشف عن رفضه لرئاسة د مرسي و نواياه الانقلابية و بين ابتلاع هذه الإهانة مما سيكرس من وضعه كرئيسٍ فعلي و وضع الجماعة معه. لا أستبعد أن تكون الحال قد تغيرت حين يمثل هذا المقال للنشر، و ربما يخرج الصدام من حيز الاحتمال إلى نطاق الواقع الذي قد يكون دموياً...لا أستطيع أن أجزم بشيء، إلا أنني أراقب و أتخوف...أتخوف لعلمي بأن ما يقارب التسعة و أربعين بالمائة كانت قد أدلت بأصواتها للفريق شفيق...تسعةٌ و أربعون بالمائة فضلت نظام مباركٍ كأغبى و أقبح ما يكون قمعاً و فساداً ، و عليه فإني أدرك أن الانقلاب لو حدث فإنه سيجد للأسف الشديد من سيدعمه إما صراحةً أو بالصمت الموافِق المرحِب... استعصاءٌ بشع ذلك الذي وصلنا إليه حيث تتمزق مصر بين فصيلين رجعيين، لكن طريق العودة للوراء بات مسدوداً ...علينا أن نتعلم من أخطائنا آملين و عاملين صوب أن يصبح هذا الاستعصاء رافعةً لتخطي هذه الثنائية المقيتة و عنواناً لانتصاراتٍ مقبلة. Comment *