ليس فيما يحدث في مصر ما يدهش، لكن الأكيد أن فيها االكثير مما يثير الغضب...والحزن...وإذ نراقب جميعاً ( والعالم من حولنا) الجولة الثانية من الانتخابات عقب قراري المحكمة الدستورية العليا المتوقعين فإننا نفعل ذلك من باب الفضول مجردين من أي حماسٍ حقيقي كون هذا الصراع يدور بين الرجعي والأكثر رجعيةٍ وبين مدرستين في الإقصاء، وبعيداً عن محاولات التذاكي أو إدعاء الحكمة بأثرٍ رجعي، فإني لازعم أن المتتبع الموضوعي لمجرى الأحداث لم يكن ليجد أية صعوبةٍ في التنبؤ بالاستعصاء الذي آل حال الثورة إليه من خلال مراقبة تحركات النظام المرتبكة أحياناً وتخبط الإخوان المسلمين في كل الأحيان فضلاً عن تعاليهم على سائر القوى الثورية ، الأمر الذي لا يجاريهم فيه سائر قوى الإسلام السياسي؛ وفي سياق هذا المنعطف التاريخي من عمر مصر المديد ومن عمر الثورة الأقصر يتعين علينا أن نتناول بالتحليل ظاهرة الانتكاس هذه مسلطين الضوء على ما نحسبها الآليات الأساسية التي اسُتغلت إلى الوصول إلى هذه المحصلة. النظام والإخوان...الإخوان والنظام...هذا هو المحور الأساسي الذي ارتكز عليه النظام في شن هجمته المضادة والمفتاح لفهم ما وصلنا إليه ...وجها العملة الواحدة والطرفان الأكثر حضوراً على الساحة السياسية طوال الثلاثة عقودٍ السابقة... يعرفان بعضهما البعض جيداً ويفهم كل طرفٍ منهما الآخر أتم معرفة، 'عشرة عمر‘ كما يقول المصريون... حتى حين يتبادلان العنف فإنهما ما يلبثان أن يستأنفا تلك العلاقة القديمة التي تتراوح شداً وجذباً بينهما وفق آليةٍ شديدة التعقيد تكرست عبر السنين حيث أدرك الإخوان عقب تجربةٍ مريرةٍ قاسية أنهم لاقبل لهم ولا طاقة على إسقاط النظام عن طريق العنف أو الضربات المرهقة فقبلوا بما يلقيه إليهم نظامٌ أدرك قيمتهم كصمام أمان يستوعب الغضب والسخط الشعبي عبر بعض الخدمات الاجتماعية وثقافةٍ ترسخ مفاهيم القبول بالنصيب والقدر والتسليم والتعويض في وقتٍ لاحق في مكانٍ آخر بعيدٍ عن سلطة النظام واهتمامه ... لقد استفاد النظام من أخطاء كافة الأطراف وأولها وأخطرها وأبعدها أثراً كان انسحاب الثوار من الميادين وقد انطلت عليهم أولى الأكاذيب-الأساطير بأن المجلس خلع مباركاً ليتوج الحراك الثوري ويطيح بالنظام. إثر ذلك، وإذ تقدمت المنظومة الأمنية-الاستخباراتية (التي كانت قد أضحت قلب نظام مبارك في أعوامه الأخيرة) لتولى مسؤولية قيادة سفينة النظام وسط ذلك البحر ذي التيارات الثورية العديدة المتلاطمة، مد النظام يده للإخوان (وسائر القوى الإسلامية من ورائهم)، إلى ذلك الفصيل الذي يفهمه ويعرف كيف يتعامل معه، إلى ذلك التنظيم المفتون بنفسه والمهووس بالحفاظ على بقائه وعلى هيكله التنظيمي بتراتبيته الصارمة التي تعتمد الانصياع للأوامر على غرار المؤسسة العسكرية، لجأ النظام إلى 'الشيطان الذي يعرفه‘ على رأي الإنجليز...فالإخوان ليسوا كالتيارات المدنية، وخاصةً الشبابية والجديدة، وإنما هم محنكون، ليسوا بحالمين ولا تستبد بهم الحماسة، وربما لا تعنيهم الثورة بمثاليتها بقدر ما يعنيهم مقدار ما تتيحه لهم من مكاسب، ومن يدري ربما المركز الأول...عرف النظام كيف يستغل نهمهم وجشعهم للسلطة فتمكن عن طريقهم من تفتيت التجمع الثوري الذي كانوا جزءاً منه، ولم يكتفِ بذلك وإنما استغل شبكتهم التنظيمية وتأثيرهم ونفوذهم على الجماهير ليدفع بالاستفتاء على التعديلات الدستورية وما تلاه وما شابهه من خطواتٍ مشؤومة أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن...ولعل نظرةً أعمق تبرز الأسباب البسيطة الشديدة الوجاهة لذلك التقارب، فالطرفان، أي النظام والإخوان شديدا اليمينية وتقليديان، يفتقران لأية نظرةٍ علمية أوموضوعية لطبيعة المجتمع والآليات التي تحكم علاقات طبقاته ويرتعبان لمجرد ذكر أي شيءٍ يتعلق بإعادة هيكلة المجتمع صوب عدالةٍ اجتماعية حقيقية، كما أنهما إقصائيان بطبيعتهما الأساسية، وليس أدل على ذلك من أن الإخوان الذين سال لعابهم للمزيد من السلطة ما أن حازوا أغلبية المقاعد في المجلس الهزلي الهزيل عاطل الصلاحيات الذي تم حله حتى تنكروا لبقية القوى الثورية ونأوا عنها، ليثبتوا أن ثوب الديمقراطية غريبٌ عليهم (كالنظام تماماً ) وأن العمل الجماعي كان شراً اقتضته اللحظة الثورية فما أن انقضت وحانت بادرة تقسيم الغنائم (من وجهة نظر قياداتهم) وأومأ لهم النظام كانوا أول الاطراف التي نفضت يدها من ذلك التجمع، وإني لعلى يقين من أن قياداتهم كانت تدرك ذلك من قبل الانضمام إلى الثورة، وليتهم اكتفوا بذلك وإنما وفروا غطاءً من مشروعيةٍ كاذبة لكل جرائم العسكر. لقد حاول نظام مبارك (الذي لم يسقط) في اختزال الواقع (والصراع السياسي بالتبعية) إلى الثنائية التي يفهمها ، أي هو والإخوان واشترك الطرفان في إقصاء الآخرين، وهو بذلك كان يهدف العودة إلى لعبةٍ قديمةٍ تفرغ الثورة من محتواها... وللأسف فقد نجح إلى حدٍ بعيد ... وفي رأيي الشخصي فإذا كان هناك ما يدعو للعجب في مسار هذه الثورة فهو حماقة قيادات الإخوان المسلمين الذين لم يروا وهم يتمادون ويتساقطون أسرى نشوة السلطة ما رآه سائر المراقبين من استغلال النظام لهم ومن تحينه الفرصة للتخلص منهم بعد أن يقضي غرضه منهم، وربما دون مقابل... ولما كان الثوار لم يحسموا الثورة ولم يطيحوا بالنظام القديم، فإن الأخير راهن على عامل الوقت والفوضى الأمنية التي أشاعها وإشاعات الخراب الاقتصادي وضوضاء الإعلام المحير والغير نزيه ليستهلك ويستنزف شعباً مرهقاً من الأساس؛ ألأعجب من ذلك أنه بعد أن أشاع وكرس أسطورة 'سقوط النظام السابق‘، وفي خطوةٍ أزعم أنها غير مسبوقةٍ في التاريخ، تقدم ليستولي على مفردات الثورة فإذا بنا أمام النظام الذي لم يسقط يفسح المجال لكل من أراد نقد مبارك ونظامه، بل وسبهما بأقذع الشتائم وها هو ايضاً يتباكى على الشهداء ويزايد على مكاسب 'الثورة العظيمة‘ ... باختصار، وفي مفارقةٍ ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، نحن أمام نظامٍ يملك من الصفاقة والوقاحة ما يكفي لأن يؤمم الثورة ويطرح نفسه كخير ممثلٍ لاستكمال والحفاظ على منجزات ثورةٍ قامت لإسقاطه ! نظامٌ نجح في التآمر على الثورة حتى بلغ من الاستخفاف بها إلى درجة ترشيح رئيس وزارةٍ أقاله المجلس العسكري بعد الثورة لفشله المخزي إلى منصب الرئاسة...ليس ذلك فحسب وإنما دعمه حتى يصل إلى الجولة الثانية على الرغم من تهديده باستخدام العنف ضد الثوار... إذا كان النظام مديناً لطرفٍ ما سوى منظومته الأمنية فيما حققه من بقاء فهو جماعة الإخوان المسلمين بامتياز، لذا فعلى الرغم من كوني أتوقع عنفاً من النظام تجاه الجماعة ، فإني لأؤكد أنه سيحرص على عدم القضاء عليها وإنما سيقتصر على إعادة تحجيمها و'قص ريشها‘ كما يجري التعبير الدارج الشهير... لا يهم أي المرشحين سيكسب الانتخابات، إذ بعد حل المجلس والإعلان الدستوري المكمل بات جلياً أن أياً من الرجلين لن يكون سوى رئيسٍ شكلي بينما سيحكم الأمن وسائر أجهزة وشخصيات ما يسمى بالدولة العميقة. أود أن أكرر وأؤكد أن الثورة لم تبدأ بعد لنتحدث عن موتها...هي جولةٌ، فهمنا منها الكثير عن واقعنا إثر سقوط الكثير من الأقنعة، ولعل الأهم هو الاستفادة من الدروس والأخطاء استعداداً لجولةٍ أخرى حتمية. Comment *