يعود ليلاً بعد أن زار قبر ولده مرة أخرى، يتحاشى تلك النظرات المتسائلة في عيني امرأته، يغلق خلفه باب الغرفة ويستلقى على الفراش انتظارا للغد، يمر بمخيلته كل تلك الليالي التي يستيقظ فيها على صوت بكاء زوجته، التي تنسى موت ولدها وتهرع ليلاً إلى غرفته لتغطيه كما اعتادت، فتلسعها برودة الفراش، ويخنقها صمت الغرفة فتنهار باكية، يتجاهل دمعتين أصرتا على اقتحام الوجه، ويقهر عينيه حتى تغمضان محاولاً النوم. تحاول الزوجة من جانبها أن تتجاهل تجهم الزوج، تعرف أنه يتحمل ما لا يطيقه بشر، تتحسس ذلك "الألبوم الصغير" الذي لا يفارقها منذ وفاة صغيرها في يناير قبل الماضي، تحتضن عيناها الصور في لهفة، تتوقف طويلاً أمام تلك الصورة التي ارتدى فيها الصغير زياً عسكرياً، تبتسم في مرارة عندما تتذكره وهو يصرخ سعيداً "عايز ابقى ظابط لما أكبر"، تنكر روحها الصمت وتبدأ في النواح دون وعي، تتذكر في لوعتها كيف انقضى الحلم ورحل الصغير دون حتى أن يودعها. يقتحم النواح أذني الأب، يرتجف قلبه، يستعين بالوسائد محاولاً أن يمنع نفسه عن سماع نواحها، يفشل فينهض ليخرج لها، مطالباً إياها بالاستعداد للذهاب إلى المحكمة. يقولون في الآثر أن القتيل لا ترتاح روحه، ولا يبرد جسده إلا حين يقتص من قاتله، ترتعش جثة الشهيد الصغير، الذي قتلته يد غاشمة في ميدان التحرير يوم 28 يناير، والروح تخبرها أن الغد هو موعد المحاكمة، وأن القصاص صار قريباً، وأن من دهسه بالسيارة سوف يختطفه حبل المشنقة، يسمع رغماً عنه نواح أمه ويشعر ألم أبيه فيبتئس ويردد في خشوع ملائكي "ولكم في القصاص حياة". يعلن القاضي حكمه، يهتز ميزان العدالة على الحائط خلفهن فيميل كما اعتاد كل شيء في هذا الوطن أن يميل. يعود الزوجان ليواصلا الحزن وفقدان الحياة رويداً رويداً، وجسد الشهيد يواصل الانتفاض وكأن السيارة تواصل دهسه دون توقف. السفاح حصل على مؤبد قد يأتيه بعدها بالبراءة، ووزير داخليته حصل على نفس الحكم، بينما من نفذ بيده حصل على البراءة، في إشارة واضحة لمنهج الشرطة القادم...اقتل أبناء وطنك ولا تخف، فالبراءة جاهزة. فشل العدل على أن يصل بر مصر، ربما لأن فيزا الفساد تأبى أن تسكن جواز سفره، اكتفى القاضي باتهام النيابة بضعف الأدلة ليريح ضميره، واكتفى النائب العام بحماية من عينوه، وشارك الصامتون في مواصلة دهس الشهداء. وعادت الثورة للشارع خجلة من شهدائها، في فرصة أخيرة لمواصلة الحياة، إما باجتماع واتفاق القيادات على التوحد، أو الموت للأبد. اتحدوا أو موتوا.... ولن يرحمكم أحد. Comment *