كان اتفاق إخراج مسلّحي جيش الإسلام، المصنوع والمدعوم سعوديا، من دوما السورية قد بدأ تطبيقه بالفعل، وشرعت الدفعات الأولى من الإرهابيين في الخروج بالحافلات، عندما أوقفت العناصر الإرهابية تطبيق الاتفاق النهائي، المُنسّق بواسطة مركز المصالحة الروسي بدمشق، فجأة، وقامت برشق العاصمة السورية بدفعات من الصواريخ، أي لم تكتفِ ب"تعليق" الاتفاق بسبب خلافات داخلية بينها، مثلا، أو لوضع شروط جديدة على الدولة السورية. كفلت الخطوة التكفيرية بإفساد الاتفاق وإعادة قصف دمشق تحركا عسكريا سوريا على الأرض، إذ كان معلنا من الحكومة السورية أنه إما اتفاق انسحاب وإما حسم عسكري، ولم تمرّ ساعات على إعادة إطلاق التقدم العسكري السوري حتى أُطلقت الحملة الإعلامية عن استخدام السلاح الكيماوي، علما بأنه يستحيل، علميّا، ألا يؤثّر إطلاق غاز سام في دوما على جنود وقادة الجيش السوري الميدانيين أنفسهم وقد كانوا على مسافة أقل من 2 ك.م من قلب البلدة، فضلا عن الموقف العسكري على الأرض السهل حسمه بالأسلحة التقليدية وبأقل خسائر ممكنة، ودون إثارة عاصفة سياسية دولية، للتعامل مع مساحة محدودة جدا ومحاصَرة من كافة الجهات، بل وتم إقرار اتفاق تسوية فيها بالفعل. المحددات الأمريكية للضربة لا تهدف الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية المرتقبة لسوريا، إن حدثت، لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، ولا يمكن لضربة عسكرية تحقيق ذلك وفق الشروط والمعادلات الإقليمية والدولية الحالية، مع بقاء واقع استراتيجي قائم، يتمتع بالثبات، هو أن "الحرب الشاملة" لن تكون في صالح الطرف الغربي بحال، في ظل جبهة مواجهة طويلة ومعقّدة، ممتدة من الكيان الصهيوني وشرق البحر المتوسط إلى العراق وحتى الخليج العربي والإمارات ومملكة آل سعود جنوبا. ويدرك العقل المخطط الغربي جيدا أن هامش "المغامرة" محدود، إذ قد تثير الحرب الإقليمية الواسعة تداعيات مركّبة يستحيل، موضوعيا، احتواؤها، ولن تكون حال قيامها هائلة التكلفة فقط، بل غالبا ما ستؤدي إلى تراجع حاد، وتاريخي ربما، في المصالح الغربية. وبافتراض أن مؤسسة الرئاسة في الولاياتالمتحدة، وخلفها فرنسا وبريطانيا، قد حمّلت التكلفة الماليّة والاقتصادية على مملكة آل سعود خلال زيارة بن سلمان للغرب، التي زامنت مسرحية الكيماوي، إلا أن مؤسسة الحرب والاستشراف السياسي في الولاياتالمتحدة تعلم، على عكس ترامب، أن الأمر وعواقبه يتجاوزان التكلفة الماليّة البحتة. تكتسب الضربة "شرعية دولية" من خارج مجلس الأمن والأمم المتحدة عن طريق مشاركة أطراف غربية كبرى، فرنسا وبريطانيا، وغطاء سياسي هو "استخدام السلاح الكيماوي". تهدف الضربة، حال حدوثها، إلى خصم جزئي من القدرات العسكرية الإيرانية في سوريا، أي ضرب أكبر تلك القدرات وأكثرها تطوّرا وخطورة، وهو الملف الأهم أمام الطرفين الغربي والصهيوني، والذي يمكن التعامل معه عسكريّا على خلاف ملف الحضور العسكري الروسي هناك. من ناحية أخرى يُفترَض للضربة المرتقَبة عدم استنفار محور المقاومة (على تنوّع مكوّناته في دائرته الجغرافية) وروسيا نحو حرب إقليمية، منعا لدحرجة الموقف إلى نقطة اللاعودة، مع اعتبار أن الكيان الصهيوني في الواقع الاستراتيجي الحالي للمنطقة نقطة ضعف في المحور الغربي، وليس قوّة متقدمة على الأرض يُعتمَد عليها؛ وفي هذا الإطار يُعَد الصمت الإيراني والروسي الطويل على الضربات المحدودة السابقة للولايات المتحدة والطرف الصهيوني إلى سوريا، مؤشرا على إمكانية توجيه ضربة "جراحية" محدودة تستهدف بنك أهداف إيرانية وسورية ضيقًا، يحدده الطرفان الأمريكي والصهيوني، في ظل انتشار إيراني "مستقرّ" ومتناثر جغرافيّا في سوريا، ومقروء استخباريّا للطرفين. تحقق الضربة "الجراحية" المحدودة حزمة محدودة من الإنجازات المرحليّة، بالمنطق الأمريكي الحالي؛ أولها إنهاء "الاستقرار" العسكري الإيراني في سوريا ومنظومته، كحد أقصى، أو تهديده جذريّا كحد أدنى، وفي ضوء ذلك قد تركّز الضربة على ما يُفترَض أن يكون مصنعا للصواريخ على الساحل السوري، يعمل بخبرات وإمكانات إيرانية، والثاني تهديد الحضور الروسي في سوريا، وفرض واقع أنه لا يستطيع منع الولاياتالمتحدة وحلفائها من التحرك بحريّة متى أرادوا، مما يمثّل، حال حدوثه، انتكاسة للوضع القائم في الشرق الأوسط منذ عام 2015، حيث فاعلية روسية كاملة في المنطقة في مقابل فاعلية أمريكية محجّمة، والإنجاز الثالث ردع الدولة السورية، وحليفيها الإيراني واللبناني، عن التمدد عسكريّا نحو الجنوب حيث حدود الجولان المحتلّ، أي تسجيل "سابقة" أمريكية يمكن تكرارها فيما بعد بضرب أهداف سورية، تحت أي عنوان سياسي مشابه لعنوان "الكيماوي" أو مختلف عنه، والإنجاز الرابع تبرير وتمثيل الأموال السعودية المدفوعة من أجل "ضرب إيران" أو إضعافها، واستجلاب المزيد من الدعم المالي الخليجي، والمزيد من المال مطلب دائم لترامب، بإجراء عملي على الأرض ضد إيران، وتعويض مملكة آل سعود عن انسحاب وكيلها العسكري، الفصيل الإرهابي جيش الإسلام، من العاصمة دمشق بعد محاولات مستميتة لمنع ذلك، وقد أُثير حادث الكيماوي في منطقة سيطرته قبل انسحابه منها بساعات، بمعنى آخر تعبّر الضربة حال حدوثها عن تتويج عملي لتحالف المملكة – أمريكا – الكيان الصهيوني ضد سورياوإيران، ونقل التحالف من مربع المفاوضات والتنسيق السياسي والاستخباري إلى أرض الواقع.