أتت إقالة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أمس، ضمن سلسلة الإحلال والتبديل التي انتابت إدارة ترامب منذ يومها الأول، وإن اختلفت إقالة الأخير عن سابقيه بأنها نهاية مرحلة وبداية مرحلة للإدارة الأميركية وربما لسياسات الولاياتالمتحدة الخارجية سواء في شكل إداراتها أو إستراتيجيتها. هذه الإقالة التي اعتبرها مساعد تيلرسون "إهانة" خاصة وأن ترامب أعلنها عبر تغريدة له على تويتر، وذلك أثناء وجود تيلرسون في جولة أفريقية، وعقب تصريحات سابقة في الشهور الأخيرة متبادلة بين البيت الأبيض والخارجية جعلت سياقات الإقالة مستهجنة في أوساط صناعة القرار في واشنطن وكذلك الدوائر الإعلامية على اختلاف انتماءاتها، بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي يغرد رموزه منذ أمس بعبارات الاستهجان والتشكيك في مقدرة ترامب على تبرير هذه الخطوة الغير مدفوعة "بمصالح واشنطن" في هذا التوقيت الهام للعديد من ملفات السياسة الدولية. فأمام هذا الواقع يأتي التوقيت لإقالة تيلرسون بشكل رآه منتقدي هذه الخطوة بهذه الطريقة في ردود فعل أولية منذ ليلة أمس أنها تقزم الخارجية الأميركية من مؤسسة تشارك في صناعة القرار الدولي إلى مجرد "مكتب تنسيق ومراسيم"، في حين تمت معظم ما يعتبره ترامب انجازات خارجية لإدارته بعيد عن المؤسسات الأميركية وعبر أفراد مقربين من ترامب مثل صهره جاريد كوشنر. لكن الأبرز في هذه الحادثة أنها تعد نقطة مفصلية في نمط السياسة الخارجية الأميركية للإدارة الحالية، ليست مقتصرة فقط على "استثنائية" إدارة ترامب بين الإدارات الأميركية المختلفة، ولكن كونها أتت كعنوان لمرحلة جديدة اعتبرها البعض "عسكرة للإدارة الأميركية" لم تشهدها واشنطن حتى بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ فتعيين رئيس وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو خلفاً لتيلرسون، وتعيين جينا هاسل خلفاً لبومبيو في الاستخبارات الأميركية يجعلهم بخلفياتهم المتطرفة والمشينة أحياناً –تولت هاسل إدارة سجن سري للاستخبارات الأميركية في تايلند- مع وزير الدفاع جيمس ماتيس "إدارة حرب" عسكرتها تتفوق على كل من إدارة بوش الابن وكافة الإدارات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لم تلغي مبدأ الدبلوماسية والتفاوض كما تفعل إدارة ترامب حالياً. خلفيات بعيدة وقريبة الخلفية المباشرة لقرار الإقالة والتي أورد ترامب بعضاً منها في تغريداته، أن تيلرسون لم يكن على وفاق شخصي معه بالإضافة إلى خلافات بينهم تتعلق بملفات كوريا الشماليةوإيرانوروسيا. فيما كانت الخلفية الأبعد تنقسم إلى قسيمين: الأول ما جرى من إحلال وتبديل في إدارة ترامب التي باتت تقريباً بكاملها من خارج حملته الانتخابية –فيما عدا نائبه مايك بنس وجيمس ماتيس- والتي يعتبرها البعض "إدارة جديدة" بعد حوالي عام واحد من دخوله البيت الأبيض، وهو الأمر الذي لا يشذ عن مناخ الشد والجذب الذي وجد منذ العام الماضي حول إدارة ترامب وكيفية اختيار إدارته وتسيير أعمالها ناهيك عن الملاحقات والتحقيقات القضائية المتعلقة بمعظم أشخاص هذه الإدارة. والثاني هو الخلافات التي برزت بين ترامب وتيلرسون تجاه عدد من القضايا وأخرها معارضة تيلرسون لانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي بالشكل الذي يريده ترامب، بالإضافة إلى ما يتعلق بكوريا الشماليةوروسيا، ومسألة التلويح باستخدام أسلحة نوعية في صراعات الشرق الأوسط، والذي كان تيلرسون يصرح مؤخراً وينسب له أنه ضدها أو متحفظ عليها، وأشهرها تسريب واشنطن بوست الذي وصف فيه ترامب بأنه "رجل أحمق"! الخلفية الأبعد لهذا القرار يمكن تلخيصها من خلال تصريحات ترامب المتتالية منذ أن كان مرشحاً على اعتبار أن الخارجية الأميركية أضحت "واجهة لنشر الضعف والارتخاء" و "تحولها لفرع للحزب الديموقراطي"، وذلك في إشارة إلى أن الخارجية الأميركية التي تولتها منافسته السابقة هيلاري كلينتون، والديموقراطي جون كيري اللذان تضخمت على حد رؤيته خلال عهديهما نفوذ الخارجية الأميركية لأمدية غير مسبوقة، فكان من أوائل القرارات التي اتخذها عبر تعينه لتيلرسون هو تقليص ميزانية الوزارة بمقدار الثلث تقريباً، وتسريح كبار دبلوماسيها وإغلاق العديد من برامجها، وهو ما جعل تيلرسون بمثابة "نائب الشيطان" في هذه المؤسسة الحساسة، والتي جعلت موظفيها على غير ثقة بتيلرسون بالإضافة إلى عدم ثقتهم بإستطاعة رجل أعمال مثله ومثل ترامب أن يضطلعا بتسيير السياسات الخارجية لدولة بحجم وقوة الولاياتالمتحدة، خاصة وأن ترامب عمد بالتوازي مع هذه الاتجاه إلى عدم إطلاق يد تيلرسون في الوزارة، فلم يعتمد ترشيحات الأخير لمسئولي الخارجية الأميركية في مختلف الأقسام، فسرعان ما أصبح الأمر بعد أشهر من "تجميد الخارجية الأميركية" مسار تصعيدي بدل من تسيير على اعتبار أن تيلرسون من طاقم ترامب الأصلي الذي اختاره منذ أن كان مرشحاً. من الشعبوية إلى العسكرة يرى دان بويلان محرر شئون الأمن القومي في صحيفة "واشنطن تايمز" أن إقالة تيلرسون لم تكن مستبعدة سواء لعملية الإحلال والتبديل السابق أو انتهاء مهمة أقلمة أظافر الخارجية الأميركية، ولكن يشير إلى متغير هام في هذا النمط من الإقصاء وهو أن الإدارة الحالية تعاملت مع محاولات تيلرسون إعادة الاعتبار للخارجية بأنه "خروج عن الاتفاق" أي أن مهمته لم تكن أبداً البحث عن سيناريوهات بديلة للتصعيد والصدام حسب معيار الربح والخسارة كرجل أعمال يرى أن الدبلوماسية والعلاقات الدولية مجرد "أعمال"، ولكن كانت محصورة فقط في تقليم أظافر الخارجية الأميركية وجعلها طوع يد إدارة ترامب. هنا نرى أن الإدارة الحالية تتراجع بالخارجية كمؤسسة فاعلة للسياسات الأميركية لفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، والتي كانت عبارة عن شكل دبلوماسي للقوة الأميركية الصاعدة –وقتها- بشقيها العسكري والاقتصادي، فيما تدور السياسة الخارجية والعلاقات الدولية عبر أشخاص بمثابة نقاط وصل واتصال من "أهل الثقة" يمثلهم حالياً جاريد كوشنر، صهر ترامب، والمسئول الأول عن السياسات الأميركية في المنطقة، والملاحق من قبل لجنة "مولر"، والذي اصطدم بتيلرسون أواخر العام الماضي عشية الأزمة الخليجية –كمثال- وقوض أسباب تصعيدها التي كانت تهدد في المستقبل البعيد مصالح واشنطن في المنطقة حسب رؤيته وقتها. من هذه الزاوية نجد أن عملية الإحلال والتبديل هذه تأتي ضمن صورة أعم وهي "إصلاح" إدارة ترامب شريطة لاستمرارها، عبر توافق بدا في الآونة الأخيرة بين أهم مؤسستين في واشنطن اعتمد ترامب من خلاله مراوحة تجمع ما بين تسوية بينه وبين المؤسسات الأميركية الأهم –السي آي إيه والبنتاجون- لاستمرار إدارته بعيد عن تعطيل تشريعي أو إجرائي من جانب هذه المؤسسات يزيد من إخفاقات هذه الإدارة؛ فاعتمد ترامب رؤية البنتاجون تجاه عدة ملفات أولها وأهمها الاستراتيجية الدفاعية الأميركية الجديدة، التي أعادت أجواء الحرب الباردة بالحد الأدنى وترشح لمزيد من التصعيد بين واشنطن وموسكو وبكين فيما يتعلق بسباق التسلح وتطوير الترسانة النووية وكذا صراعات السيطرة والإزاحة على المياه الدولية؛ أي باختصار عسكرة التنافس بين واشنطن وهاتين القوتين، وهو الأمر الذي لم يعد يصلح معه بقاء رموز إدارة ترامب الشعبوية من ستيف بانون إلى ريكس تيلرسون، الذي يعتبره البعض الأكثر عقلانية بين رموز إدارة ترامب قبل عام والآتيين كلهم –باستثناء ماتيس- من خارج المؤسسات الرسمية، ويحل محلهم أشخاص توافقيين من هذه المؤسسات مثل بومبيو وهاسل وقبلهم ماتيس، والذين يعبروا عن جوهر رؤية هذه المؤسسات ويتقاطعوا مع ترامب في الخطوط العريضة لسياساته إن جاز التعبير. دواعي عملية يمكن اختصار دواعي عملية "الإصلاح" التوافقية هذه والتي كانت ذروتها إقالة تيلرسون في ثلاث دواعي مترابطة هي: * الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة التي أعلن عنها قبل شهرين لا ينسجم معها نمط الدبلوماسية العملية البرجماتية بل نمط الدبلوماسية العسكرية إن جاز التعبير.
* هذا التوجه التصعيدي على مستوى ملفات: كوريا الشمالية، الصين، الاتفاق النووي مع إيران وكذلك سياسات روسيا في الشرق الأوسط يستدعي ما يمكن اعتباره "إدارة حرب".
* هذا التغيير وهذا التوجه ينسجم مع حلفاء واشنطن في المنطقة (إسرائيل، السعودية، الإمارات، مصر) على أكثر من اتجاه متعلق بالأزمة الخليجية أو تسوية الحرب في سوريا والصراع مع إيران وأخيراً تصفية القضية الفلسطينية بشكل مباشر، مع التأكيد أن تيلرسون لم يكن معارض لجوهر السياسات الأميركية تجاه هذه الملفات ولكن متحفظ من حيث الآلية والتنفيذ والتوقيت، والذي لم يكن في صالح هؤلاء الحلفاء الذي استاءوا مثلاً مما فعله تيلرسون في أكتوبر الماضي إبان جولته في المنطقة عشية الأزمة الخليجية.
وبالنسبة لهذه النقطة الأخيرة فيجب الإشارة إلى ما تناوله الإعلام الأميركي مؤخراً حول مدى نفوذ هؤلاء الحلفاء داخل واشنطن وداخل الإدارة الأميركية –عبر كوشنر- في توجيه سياسات ترامب، وهو الأمر الذي يجعل حال تأكيده وتحريكه تشريعياً عبر الكونجرس أو وزارة العدل، مسألة تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية السابقة مجرد تفصيلة هامشية لما تلاها من ت