كتب: سايمون هندرسون وديفيد شينكر تعد حقول الغاز المكتشفة شرق المتوسط من أكثر ملفات الطاقة تعقيداً من حيث الاستخراج والنقل والتوزيع والبيع، ليس لاعتبارات تقنية ولكن لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى. فكل من المراحل السابقة تتشابك فيها عوامل جيوسياسية وإستراتيجية بشقيها السياسي والاقتصادي على مدى بعيد، من حيث الفرص والمخاطر التي يشكلها ثاني أكبر الاكتشافات النفطية في المنطقة بعد منطقة الخليج، بالإضافة لتوقعات بأن يفوق إنتاج شرق المتوسط من الغاز الطبيعي مستويات دول الخليج ويقارب اكتشافات واحتياطي الغاز الروسي –الأكبر من حيث الاحتياطي والإنتاج والبيع على مستوى العالم- في المستقبل القريب. في السياق نفسه، يوازي هذه الثروة النفطية الكبرى تعقيدات سياسية متزايدة على مستويات الدول المعنية التي تقع الاكتشافات في حيازاتها البحرية، وما يتعلق بهذا الشق من خلافات ومشاكل حول الحدود البحرية لكل بلد، وبالتالي حصة كل منهما في الاكتشافات الغاز، وأفق تكتلات اقتصادية بين بعض من هذه الدول قامت على أساس تقاسم العائد المستخرج مثل تكتل "إنرجي ترينجل" الذي يضم قبرص وإسرائيل واليونان، والاتفاقات الثنائية بين دول شرق المتوسط مثل التي عقدت أواخر 2014 وأوائل 2015 بين مصر واليونان وقبرص، كذلك مدى الصراعات الممكنة والتي تشكل عامل هام يحول اكتشافات الغاز في هذه المنطقة من فرص للتعاون الاقتصادي والسياسي إلى تهديد بصراعات قد تصل إلى المستوى العسكري، بالوضع في الاعتبار أن كل من تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل وفلسطين –قطاع غزة- ومصر وقبرص واليونان، وكل ما بين هذه الدول من مشكلات يصعدها اكتشافات شرق المتوسط. وبخلاف الحدود البحرية والصراعات الإقليمية بين هذه الدول، فإن هناك أطراف دولية وإقليمية على صلة سلباً أو إيجاباً بهذه الاكتشافات سواء من ناحية التنافسية أو المشاركة أو التوزيع وما له بعلاقة مباشرة بسوق الطاقة العالمي، الذي يعاني في الأصل من تقلبات تغير من مواقف القوى الإقليمية والدولية، من ناحية الاستفادة أو الضرر من مسارات بيع الغاز للسوق الأوربي والدولي، فمن ناحية إستراتيجية يشكل غاز شرق المتوسط فرصة للتقدم الإقليمي والحيوي لدول مثل إسرائيل التي أصبحت دولة مصدرة للغاز بعدما كانت دولة مستوردة، ومن ناحية أخرى يشكل فرص للاستثمارات الدولية وخاصة القادمة من الصين وروسيا وإيطاليا لضمان حصة مستقبلية لعشرات السنوات من الغاز المصري المكتشف حديثاً في حقل "ظهر"، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى خلق فرص تعاون وتجاذبات تنافسية بين كل من القاهرة وتل أبيب. ومن ناحية أخرى يشكل فرص تنافسية وصراعات فيما يخص كل من اليونان وقبرصوغزة. في هذا السياق نشر معهد واشنطن لسياسيات الشرق الأدنى تحليل لكل من مدير برنامج الطاقة وسياسات الخليج، سايمون هندرسون، وديفيد شينكر مدير برنامج السياسات العربية في المعهد، تناولوا فيه أفق التقدم وفرص التعاون والصراعات المتعلقة باكتشافات غاز شرق المتوسط، سواء من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية. وفيما يلي نص التحليل بتصرف:
"حوض النيل" و "حوض دول المشرق العربي" لا تمثّل كميات النفط والغاز في المنطقة التي تُعرف جيولوجياً ب"حوض النيل" و"حوض دول المشرق العربي" سوى جزء صغير من تلك المكتشفة في دول الخليج. وحتى مع ذلك، فإن التوقعات الحالية والمستقبلية في شرق البحر الأبيض المتوسط (وخصوصاً الغاز، ولكن بعض النفط أيضاً) قد تحسّن بشكل كبير اقتصاديات مصر وقبرصولبنان فضلاً عن إسرائيل والأردن. وتدعم التطورات الأخيرة في المنطقة هذا التفاؤل. أولاً، تعمل مصر بسرعة من أجل وضع حقل الغاز البحري "الظُهر" في الخدمة. وتدّعي القاهرة أن الحقل أكبر من "ليفياثان"، رغم المستويات المرتفعة من كبريتيد الهيدروجين الذي يجب إزالته في منشأة برية قيد الإنشاء حالياً. يُذكر أن شركة "بي پي" البريطانية وشركة "روسنفت" الروسية اشترتا حصصاً في الحقل وسوف تعمل "إيني" الإيطالية على تطويره. ولكن في حين تأمل مصر باستعادة مكانتها كدولة مصدّرة للغاز، إلا أن الطلب المحلي المرتفع قد يجعل هذا الأمر حلماً بعيد المنال. وفي الوقت الراهن، يتمّ توجيه جميع الإنتاج المحلي نحو توليد الكهرباء، ويجب أن يتم شحن الغاز الطبيعي المسال الإضافي إليها أسبوعياً من قطر لهذا الغرض. ومع ذلك، لا تزال المنشآت الصناعية في مصر تعاني من نقص، كما أن محطتي تصدير الغاز الطبيعي المسال في دلتا النيل عاطلتان تقريباً. وعلى أساس هذه الخلفية، تبدو واردات الغاز الاسرائيلي جذابة تجارياً، على الأقل في هذا الوقت. ثانياً، تأمل قبرص – التي تقع "المنطقة الاقتصادية الحصرية" الخاصة بها على مسافة قريباً جداً من حقل "الظهر" – أن تقوم الشركات الدولية باكتشافات جديدة بعد أن خيّبت الآفاق المحلية أملها في السابق، علماً بأنه لم يتمّ بعد استغلال الحقل الوحيد المكتشف وهو "أفروديت". ونظراً إلى عدد سكان الجزيرة الضئيل، سيكون معظم – إن لم نقل كامل – إنتاجها من الغاز في النهاية مخصصاً للتصدير، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التعاون مع إسرائيل و/أو مصر. وربما تكون موافقة تركيا ضرورية أيضاً. ثالثاً، بعد سنوات من التأخير، صدّقت الحكومة اللبنانية على مراسيم في يناير قسّمت "منطقتها الاقتصادية الحصرية" البحرية إلى عشر مناطق امتياز استكشافية كما أعدّت عملية تجارية لمنح التراخيص. غير أن ثلاثاً من هذه المناطق تقع على طول الحدود البحرية الجنوبية التي أعلنتها لبنان من جانب واحد، والتي تكمن وراءها المياه الإسرائيلية. ولكن بيروت لا تعترف رسمياً بعد بإسرائيل، ولم تتضمن مستندات استدراج العروض اللبنانية أي من الاقتراحات التي أُعدّت بوساطة الولاياتالمتحدة لتقسيم المنطقة البحرية المتنازع عليها، لذلك قد تواجه عملية منح التراخيص بعض المشاكل. ووفقاً لخبراء في هذه الصناعة، فإن واحدة من الكتل الثلاث موضع البحث هي الأكثر احتمالاً لاحتواء الغاز بكميات تجارية، ولكن من الصعب تصوّر وجود رغبة لدى أي شركة تنقيب دولية في الحصول على ترخيص في منطقة قد تكون موضوع نزاع قانوني بل حتى عسكري. وتشمل العراقيل المحتملة الأخرى اتخاذ القرار بشأن المناطق اللبنانية التي ستستفيد في البداية من أي تدفقات جديدة للغاز، وكيفية تقسيم أي إيرادات قد تنتج في النهاية عن عمليات التصدير بين الفصائل المسلحة المختلفة في البلاد. رابعاً، يملك قطاع غزة التي تسيطر عليه حركة «حماس» حقلاً بحرياً غير مستغل يُعرف باسم "غزة مارين" يمكن استخدامه لتوليد الكهرباء في القطاع وكذلك في الضفة الغربية. غير أنه من الناحية التقنية، تعود ملكية الحقل إلى السلطة الفلسطينية التي مقرها في رام الله، والتي تتردد في الاستثمار في مشروع قد يدعم منافسيها في «حماس» من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.
خيارات تصدير أخرى يكمن خيار تصدير الغاز الأكثر جاذبيةً في الشرق الأوسط في خط أنابيب مقترح تحت سطح البحر يمتد من حقل "ليفياثان" الإسرائيلي إلى تركيا، سواء عبر قبرص أو من خلال الالتفاف حول الجزيرة من ناحية الشرق. فالطريق الأول قد يطرح مشاكل كبيرة نظراً إلى غياب أي تسوية سلمية في البلد المقسّم، الذي احتلت فيه القوات التركية شمال الجزيرة منذ اندلاع أزمة مع اليونان في عام 1974. وقد تحسّنت علاقات إسرائيل مع تركيا في الآونة الأخيرة لكن ربما ليس بالقدر الكافي لتوقيع اتفاق لإمداد الغاز أمده عشرين عاماً يرافقه استثمار كبير في خط أنابيب باهظ الثمن. ويتمثّل احتمال آخر (رغم أنه من الصعب تصديقه) في مد خط أنابيب تحت سطح البحر من حقل "أفروديت" و/أو "ليفياثان" إلى قبرص، وجزيرة كريت اليونانية وبرّ اليونان الرئيسي. وسينطوي أي تغيير على إمداد كابل بحري يُعرف باسم "الموصل" من أجل ربط شبكات الكهرباء الإسرائيلية والقبرصية واليونانية.
الحقائق الاقتصادية مقابل السياسية يقيناً، أن أحدث المشاكل التي تمر بها المنطقة تطغى على كل هذه التطورات البطيئة والمحدودة. فالأردن يرزح تحت وطأة ضغوط اللاجئين السوريين، كما أن شكل لبنان المستقبلي يرتبط على الأرجح بولاية الرئيس بشار الأسد في دمشق. وفي الوقت نفسه، تؤثّر إيران من بعيد على الوضع في شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال تزويد الجهات المعادية بالصواريخ الموجّهة القادرة على ضرب الحفارات النفطية البحرية ومنصات الإنتاج، من بين الإجراءات الأخرى المزعزعة للاستقرار. ومع ذلك، فإن الضوء الأخضر الذي أُعطي لحقل "ليفياثان" في فبراير يعني أنه أصبح بإمكان إسرائيل جلب الغاز إلى الشاطئ في وسط البلاد بدلاً من القيام بذلك في عسقلان، حيث تقع المنشآت ضمن نطاق صواريخ غزة. وعلى نحو مماثل، من شأن وجود إمدادات ثابتة للغاز الإسرائيلي أن يقلّص اعتماد الأردن شبه الكامل على الإمدادات التي تصل عبر البحر في العقبة، وربما تنهي مخططاته لاستيراد الغاز العراقي براً أو بناء مفاعلات نووية روسية. إن أمن الطاقة يتعلق بتوافر بدائل بقدر ما يتعلق بأي رغبة في الاستقلال في مجال الطاقة. وكانت الدبلوماسية الأمريكية قد لعبت دوراً محدوداً وغير فعال دائماً في تشجيع التنقيب التجاري عن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض الأوسط. لكنه دور لا بدّ من مواصلة الاضطلاع به حتى لو بقيت المصالح التجارية المحرّك الرئيسي لإبرام الاتفاقات المتعددة الأطراف.