تمثل احتياطات الغاز الطبيعي المكتشف في منطقة شرق البحر المتوسط فرصة ذهبية و ثروة ثمينة لجميع دول المنطقة, والتي تشمل مصر وإسرائيل وتركيا وقبرص ولبنان وسوريا وفلسطين, بشكل قد يدفعها للتصارع والتنافس الشرس فيما بينها للاستحواذ علي النصيب الأكبر منها, في ظل غياب اتفاق واضح حول الحدود البحرية لمناطقها الاقتصادية الخالصة. في الجزء الأول من هذه الدراسة, الذي نشر في الأسبوع الماضي, تناولنا أهمية هذه الاكتشافات, والفرص التي توفرها لدول المنطقة, وأهم التحديات التي تواجه تطوير وتصدير هذه الاكتشافات. اما هذا الجزء ففيه نتعرض إلي أهم ردود الفعل الإسرائيلية تجاه هذه الكميات الهائلة من الغاز المكتشف, ونطرح عدد من المقترحات المفيدة لزيادة فرص التعاون بين دول المنطقة حتي يكون المكسب للجميع في النهاية. ينظر صانعو السياسة الإسرائيلية للاكتشافات الضخمة من الغاز في شرق البحر المتوسط باعتبارها' فرصة لا تعوض' لإشباع الطلب المحلي من الغاز الطبيعي لعدة سنوات قادمة, بل ويعتبرها البعض' مكافأة من الرب' حتي تتحول إسرائيل إلي أحد أهم وأكبر الدول المصدرة للغاز الطبيعي في العالم خلال العقد الحالي. ففي الفترة من يناير2009 إلي يونيو2010, أعلنت شركة نوبل إنرجي الأمريكية ومجموعة' دلك' الإسرائيلية عن اكتشاف حقول للغاز الطبيعي في المياة الإسرائيلية في شرق البحر المتوسط, يبلغ إجمالي احتياطياتها حوالي810 بلايين متر مكعب(29 تريليون قدم مكعب), موزعة علي حقلين كبيرين( لفياثان, وتمار) وأربعة حقول متوسطة الحجم( داليت, ودولفين, وتانين, وشيمشون). وتفيد التقديرات بأن الاحتياطات المثبتة لهذه الاكتشافات يكفي استهلاك إسرائيل من الغاز الطبيعي علي مدي ال150 عاما المقبلة, ويتوقع أن يؤمن دخلا يجاوز240 بليون دولار في حالة تصديره, أي نحو ضعف المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية للدولة اليهودية منذ تأسيسها في عام1948, والتي قاربت140 بليون دولار في عام.2012 مخاوف وهواجس أمنية وفي نفس الوقت, ومن ناحية أخري, تنتاب العديد من الدوائر الأمنية الإسرائيلية هواجس ومخاوف من إمكانيات شن هجمات إرهابية مسلحة من سيناء المصرية أو غزة الفلسطينية ضد حقول الغاز الطبيعي المكتشفة حديثا في منطقة شرق البحر المتوسط. كما تخشي هذه الدوائر أيضا من هجمات الصواريخ البحرية, التي قد تكون بحوزة عدد من الفصائل الفلسطينية في غزة, علي منشآت تطوير هذه الحقول. وربما تكون هذه الهواجس وراء قرار الحكومة الإسرائيلية مؤخرا بإسناد مهمة حماية حقول الغاز وعمليات التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط إلي الوحدة'13' في سلاح البحرية, وذلك في سابقة هي الأولي من نوعها تحت مبررات الحفاظ علي تزويد إسرائيل بالغاز وعدم تعرض منشآت استخراج الغاز في البحر المتوسط لآية هجمات محتملة. ومن ناحية أخري, مال قادة إسرائيل إلي توثيق التعاون العسكري والاستراتيجي مع اليونان وقبرص في الآونة الأخيرة, مما دفع عدد من المراقبين إلي الإشارة إلي إمكانية تبلور شراكة إستراتيجية ثلاثية بين هذه الدول, من أجل الاستئثار بموارد الغاز الهائلة في شرق المتوسط والاستيلاء عليها بالقوة علي حساب الدول العربية وتركيا. حيث أجرت إسرائيل واليونان مناورات عسكرية مشتركة في عام2008, ووقعتا اتفاقية للتعاون والدفاع العسكري في سبتمبر عام.2011 كما وقعت قبرص مع إسرائيل اتفاقية عسكرية تسمح لسلاح الجو والبحرية الإسرائيلية بالتدخل في حال وجود أي تهديدات لمنشآت الغاز القبرصية في البحر. كما تبادلت الدولتان الزيارات الرسمية ذات المستوي العالي, وأهمها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي, بنيامين نتانياهو إلي قبرص في فبراير عام.2012 وفي ضوء ذلك, لم يكن غريبا أن يتوقع عدد من المراقبين أن تواجه تل أبيب صعوبات كبيرة في التعاون مع باقي دول المنطقة لتصدير الغاز المكتشف في شرق البحر المتوسط, رغم أهمية هذا التعاون لتطوير وتصدير موارد الغاز الهائلة في المنطقة, بل وحذر البعض من إمكانية اشتعال الصراع بين دول المنطقة في ظل التعنت الإسرائيلي والقبرصي إزاء بقية دول المنطقة. فمن ناحية يوجد نزاع لبناني إسرائيلي, ونزاع آخر فلسطيني إسرائيلي حول السيادة علي المناطق البحرية, التي يظهر فيها هذا الغاز. كما ارتفعت أصوات مصرية عديدة, بعد ثورة25 يناير التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك, تطالب بترسيم الحدود البحرية مع تل أبيب, وإعادة النظر في ترسيم الحدود مع قبرص, لكي لا تستولي إسرائيل وقبرص علي حصة مصر من الغاز المكتشف في البحر المتوسط. عقبات صعبة أمام التصدير ومن جهة ثانية, يعد إنشاء محطات لتسييل الغاز الطبيعي قبل تصديره احد أهم التحديات أمام تصدير الغاز الإسرائيلي لصعوبة التعاون مع جيرانها في هذا الخصوص. فإنشاء محطة تسييل علي الخط الساحلي لإسرائيل علي البحر المتوسط, يقف أمامه مخاوف أمنية إسرائيلية من إمكانية تحكم السلطات المصرية في عبور ناقلات الغاز الطبيعي المسال بحرية عبر قناة السويس, عن طريق تشديد ضوابط' السلامة' علي الشحنات الإسرائيلية من الغاز المسال. ومن ناحية ثانية, من الصعوبة بمكان إنشاء محطات لتسييل الغاز الطبيعي في ميناء إيلات علي البحر الأحمر نتيجة ازدحام الساحل بالسكان, والقوانين البيئية المتشددة, وإمكانية تعرضها لهجمات إرهابية أو صاروخية من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية المجاورة. وفيما يتعلق ببناء خط أنابيب لتصدير الغاز الإسرائيلي إلي الأسواق العالمية, توجد إمكانية لبناء خط أنابيب إلي تركيا( عبر قبرص) حيث يمكن أن ينضم إلي شبكة خطوط الأنابيب التي تخدم السوق الأوروبية, وبالتالي تصدير الغاز إلي كل من السوق التركية والأسواق الأوروبية. إلا أن هذا الخيار, رغم جدواه الاقتصادية, باعتباره الأرخص والأسرع إنشاءا, كما أنه يربط إسرائيل بالسوقين الأوروبي والتركي الأقرب, تواجهه, من وجهة النظر الإسرائيلية, تحديات سياسية في المدي القصير, وعقبات تجارية في المدي الطويل. فمن الناحية السياسية, يمنح هذا الخيار بلدين- هما قبرص وتركيا- السيطرة علي صادرات الغاز الإسرائيلية وهاتان الدولتان ليست لهما علاقات جيدة مع بعضهما البعض, كما أن علاقات تركيا مع إسرائيل سيئة. ومن الناحية التجارية, تحوم شكوك وهواجس حول الطلب علي الغاز في أوروبا وأسعاره في الأسواق الأوروبية, وهو ما من شأنه أن يقلل من فرص تصدير الغاز الإسرائيلي إلي تركيا/ أوروبا. ضرورة المكسب للجميع وفي ضوء كل ذلك, يمكن القول انه من المرجح ان تقود اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط تل أبيب إلي مزيد من الصراع مع دول المنطقة ما لم يتم اتخاذ الخطوات الملائمة لتخفيض حدة التوتر, وتشجيع الحوار بين دول المنطقة للاستفادة من الغاز المكتشف في شرق البحر المتوسط في مشاريع مشتركة. فلابد من قيام تعاون إقليمي حقيقي يكون فيه المكسب للجميع دون الانفراد لأي دولة بالاستغلال الأحادي الجانب, الذي قد يضر بالغير ويعبر عن خسارة للجميع في النهاية. ولابد أيضا من مبادرة كبري تهدف إلي اقتسام عوائد الغاز المكتشف في شرق المتوسط, وخلق كيان مؤسسي لأول مرة في التاريخ يضم جميع دول شرق المتوسط. وقبل كل ذلك لابد من توقيع إسرائيل علي معاهدة الأممالمتحدة لقانون البحار والمحيطات الصادرة في10 ديسمبر1982, والتي تتضمن المعايير الخاصة بتنظيم وتقسيم عائد استغلال ثروات البحار والمحيطات.