تمثل احتياطات الغاز الطبيعي المكتشف في منطقة شرق البحر المتوسط فرصة ذهبية وثروة ثمينة لجميع دول هذه المنطقة, والتي تشمل مصر وإسرائيل وتركيا وقبرص ولبنان وسوريا وفلسطين بشكل قد يدفعها للتصارع والتنافس الشرس فيما بينها للاستحواذ علي النصيب الأكبر منها, خاصة مع غياب اتفاق واضح بين أغلبية هذه الدول حول الحدود البحرية لمناطقها الاقتصادية الخالصة. في الجزء الأول من هذه الدراسة نتناول أهمية هذه الاكتشافات, والفرص التي توفرها لدول المنطقة, وأهم التحديات التي تواجه تطوير وتصدير هذه الاكتشافات الهائلة. اما في الجزء الثاني, الذي سيتم نشره في الأسبوع المقبل ان شاء الله, فسنتعرض إلي أهم المواقف الإسرائيلية تجاه هذه الاحتياطات, والتي من شأنها إشعال الصراع حولها, ونطرح عددا من المقترحات المفيدة لزيادة فرص التعاون بين دول المنطقة, حتي يكون المكسب للجميع في النهاية. احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي تم اكتشافها في منطقة شرق البحر المتوسط منذ عام2009, خاصة في إسرائيل وقبرص, الأمر الذي دفع باقي دول المنطقة لتكثيف جهودها من أجل اكتشاف المزيد من هذه الاحتياطات, حيث طرحت مصر مناقصة كبري للتنقيب عن الغاز في مايو2012, كما قامت لبنان وتركيا وسوريا واليونان بجهود متعددة حتي تحصل علي نصيبها من كعكة هذه الاحتياطات الضخمة التي تقدرها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بنحو122 تريليون قدم مكعب من الغاز, و1.7 مليار برميل من البترول القابل للاستخراج من الناحية الفنية. أهمية إقليمية وعالمية تمثل اكتشافات الغاز الضخمة في شرق المتوسط منعطفا تاريخيا مهما لدول المنطقة, التي تعد فقيرة نسبيا في مصادر الطاقة الأولية( البترول والغاز الطبيعي). فهي من ناحية تسمح لها بزيادة استخدام الغاز الطبيعي علي المستوي المحلي, وبالتالي تقليل وارداتها من الخارج. كما توفر هذه الاكتشافات, من ناحية أخري, فرصا كبري لهذه الدول لتصدير الغاز إلي الخارج, سواء عن طريق إقامة محطات تسييل الغاز أو إنشاء أنابيب لنقل الغاز إلي الأسواق العالمية. ومن جهة أخري, تمثل إمدادات الغاز المكتشف في شرق المتوسط أهمية ملموسة من وجهة نظر الأسواق العالمية لأنها لن تكون في مرمي نيران قوة بعينها, نظرا لسهولة حركة هذه الإمدادات داخل حوض البحر المتوسط كله, وعبر قناة السويس شرقا وغربا, وشمالا وجنوبا, وذلك علي عكس الإمدادات الواردة من الخليج العربي إلي بقية دول العالم, والتي تمر في معظمها عبر مضيق هرمز, مما يضع هذه الإمدادات تحت رحمة التهديدات الإيرانية بغلق المضيق من آن إلي آخر. ومن ناحية أخري, تنبع أهمية الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط من التصاعد الدراماتيكي لأهمية السيطرة علي موارد الغاز الطبيعي ليس فقط بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط, مثل قطر, ثاني اكبر الدول المنتجة بعد روسيا, بل أيضا للاتحاد الأوروبي والصين بصفتها من أكبر المناطق استهلاكا في العالم. فالغاز الطبيعي يعد مصدرا آمنا ونظيفا نسبيا للطاقة مقارنة بالطاقة النووية والفحم, وبالتالي فهو البديل الأمثل لاستبدال محطات توليد الكهرباء العاملة بالطاقة النووية, خاصة بعد كارثة محطة فوكوشيما اليابانية, وتلك العاملة بالفحم, الذي يتسبب في انبعاث كميات هائلة من الكربون. ونظرا لكون التكلفة الاقتصادية لاستخدام الغاز بدلا من طاقة الرياح أو أي مصدر بديل آخر للطاقة هي أقل بكثير, يرتقي الغاز بشكل متسارع ليصبح مصدر الطاقة الأهم في العالم. وفي ضوء تنامي أهمية الغاز الطبيعي, ليس من المدهش ان تمثل احتياطات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط فرصة ذهبية وثروة ثمينة لجميع دول المنطقة, بشكل قد يدفعها للتصارع والتنافس الشرس فيما بينها للاستحواذ علي النصيب الأكبر منها, في ظل غياب اتفاق واضح حول الحدود البحرية لمناطقها الاقتصادية الخالصة. فمصر تحتاج إلي هذه الثروة للتعامل مع أزمة الطاقة المستعصية والوضع الاقتصادي المتدهور الذي تواجهه. وإسرائيل تحتاج إليها بعد أن انقطع مورد الغاز المصري شبه المجاني وللفكاك من عزلتها الاقتصادية والسياسية نتيجة تعثر عملية السلام. وسورية تحتاج إليها أيضا لإعادة بناء اقتصادها الذي دمرته المحنة التي تمر بها منذ نحو عامين. أما تركيا, التي لا تنتج لا نفطا ولا غازا فإنها لن تستغني عنها, ليس فقط كمصدر إضافي للدخل, وإنما كمصدر يزيد من أهميتها في المنطقة كدولة عبور للطاقة. ولبنان بحاجة إليها كمصدر للدخل يساعد علي تسديد ديونه الخارجية التي قاربت الخمسين مليار دولار. وقبرص بحاجة إليها لتجنب الوقوع في المأزق الذي يكاد يخرج اليونان من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو. تحديات سياسية وأمنية وتجارية وفي الوقت نفسه, ومن ناحية أخري, تطرح مسألة تطوير موارد الغاز الطبيعي في شرق المتوسط وتصديره, تحديات سياسية وأمنية واقتصادية كبري قد تعرقل التعاون بين جميع دول المنطقة, في ظل اتجاه إسرائيل استنادا إلي قوتها العسكرية والدعم الأمريكي لها إلي الاستحواذ علي حقوق الآخرين في الغاز المكتشف. حيث توجد تحديات سياسية ناجمة عن استمرار الصراع العربي الإسرائيلي. فلا تزال حالة الحرب هي السائدة في علاقة تل أبيب مع لبنان وسوريا, كما لا يوجد ترسيم معترف به دوليا للحدود البحرية بينها وبين مصر ولبنان وبالطبع فلسطينالمحتلة. فإذا ما أضيف إلي ذلك النزاع المزمن بين تركيا وجمهورية قبرص حول مسألة قبرص الشمالية, والتداعيات الإستراتيجية المهمة للثورات العربية, وفي مقدمتها: تعقد العلاقات المصرية الإسرائيلية, وعدم الاستقرار في سوريا, يمكن تفهم مدي تعقد البيئة السياسية والإستراتيجية لتطوير وتصدير الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط. ومن ناحية أخري, يتوجب علي جميع دول المنطقة, بما فيها إسرائيل, توفير الموارد المالية والاستثمارية المطلوبة لإنشاء البنية التحتية اللازمة لإنتاج ونقل وتصدير الغاز, وهي استثمارات هائلة, قد يواجه توفيرها تحديات تجارية,( إمكانية تراجع الأسعار العالمية للغاز الطبيعي نتيجة زيادة الكميات المكتشفة منه حول العالم) وتحديات سياسية داخلية( الجدال حول كيفية استغلال الغاز المكتشف في المنطقة, وما إذا كان سوف يتم توجيهه إلي الاستهلاك الداخلي أم إلي التصدير), وتحديات أمنية( تأمين الحماية لجميع منشآت الغاز الطبيعي والبترول في شرق البحر المتوسط, في ضوء سهولة تعرضها لأي هجوم صاروخي). وفي ضوء الفرص والتحديات التي تمثلها الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط, تفاوتت ردود فعل دول المنطقة بشكل ملحوظ من أجل الاستفادة القصوي من هذه الموارد الهائلة. وفي الأسبوع المقبل ان شاء الله نستعرض موقف إسرائيل من هذه الاكتشافات, ونطرح عددا من المقترحات التي قد تفيد في تخفيض حدة التوتر المتنامي بين دول المنطقة حتي يكون المكسب للجميع في النهاية.