منى.. طفلة ضمن 20 مريضا بالسكر محجوزين داخل قسم الغدد الصماء والسكر بمستشفى أبو الريش، ويتناوبون جميعا على جهاز واحد لقياس السكر، ويبتاعون المحاليل والسرنجات ويُجرون الأشعة والتحاليل الطبية اللازمة على حسابهم الخاص أو من التبرعات والمساعدات الإنسانية، كما يستعملون نفس الأسِرّة حينًا، في ظل كثافة الأعداد المترددة على المستشفى الجامعي، وكثير من الأحيان لا يجدون الفيتامينات والأدوية المكملة لهم حين تتكرر نوبات الهبوط معهم. الطفلة التي لم تتجاوز 12 عاما، محجوزة داخل المستشفى الجامعي لأكثر من 10 أيام من أجل ضبط نسبة الجلوكوز في الدم، نتيجة نقص المستلزمات الطبية داخل «أبو الريش» وتوقف التوريد من قبل شركات الأدوية والمستلزمات الطبية؛ لتراكم مديونيات المستشفى، وكانت منى تصرخ طوال الوقت في والدتها المغلوبة على أمرها «عايزة أروح بيتنا أنا كرهت المستسفيات والحقن والتحاليل وكل ده ومفيش نتيجة». وقبل أن تغادر الطفلة الصغيرة المستشفى، فوجئت الأم بإصابتها نجلتها بالتهاب رئوي إثر عدوى ميكروبية انتقلت إليها من أحد المتواجدين معها داخل الغرفة، ما تسبب في ارتفاع درجة حرارة جسمها واستلزم بقاءها ثلاثة أيام أخرى داخل قسم الباطنة للعلاج من الوافد الجديد. منى ربما تكون أحسن حالًا من حوالي 16 مليون مريض سنويا يترددون على ما يقرب من 92 مستشفى جامعي في القاهرة وسائر المحافظات، بحسب تأكيدات عبد الغفار، أمين اللجنة العليا للجامعات، يعاني جميعها من أزمات نقص الأدوية الحيوية والمحاليل المهمة والمستلزمات الطبية التي لا غنى عنها لأي مريض، وتصاعدت خلال الأسابيع القليلة الماضية بصورة كبيرة، دفعت عدد من مدراء المستشفيات الجامعية للتقدم باستقالتهم، أبرزهم في قنا والإسكندرية والمنوفية وبني سويف وأسيوط والزقازيق؛ بسبب نقص الإمكانيات وتحميل وزارة التعليم العالي الأطباء ما لا يستطيعون توفيره للمرضى المترددين على هذه المستشفيات. تعويم الجنيه سبب الأزمة الأزمة بدأت قبل شهرين، بحسب الدكتور محمد أحمد عمر، مدير مستشفى قنا الجامعي وأحد المتقدمين باستقالتهم قبل أيام؛ بسبب استمرار الأزمة دون حل أو تدخل من قبل الوزارة، خاصة بعد قرار تحرير سعر صرف الجنيه مقابل باقي العملات الأجنبية الأخرى، ومن ثم توقفت شركات الأدوية عن توريد المستلزمات الطبية اللازمة لهم؛ نتيجة ارتفاع سعر الدولار والفارق الكبير في العملة الذي تتحمله الشركات وحدها ويكبدها ملايين الجنيهات من الخسائر السنوية. عدد كبير من المحافظين في المنوفية وأسيوط وبني سويف رفعوا مذكرة تفصيلية وتقارير مجمعة بالأزمة إلى الدكتور أشرف الشيحي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي؛ من أجل سرعة التدخل وإنقاذ المستشفيات الجامعية من شبح الإغلاق، حتى لا تتوقف فجأة عن تقديم أي خدمات صحية للمواطنين نتيجة توقف شركات الأدوية والمستلزمات الطبية عن التوريد بالأسعار القديمة، وإصرارهم على رفع سعر التوريد، مع مراعاة فارق العملة "نحو 7 جنيهات" الذي تتحمله الشركات وحدها اليوم، ما يهدد نحو 47% من إجمالي المرضى المصريين المترددين على المستشفيات الجامعية، خاصة أن غالبيتهم من الفئات البسيطة أو معدمة الدخل ممن يعتمدون في علاجهم على التبرعات والمساعدات الإنسانية. وطلب المحافظون عبر المذكرة المعروضة على وزير التعليم العالي توفير نحو 2 مليار جنيه إضافية على الميزانية السنوية المخصصة للمستشفيات، البالغة نحو 660 مليون جنيه، كدفعة أولية لإنقاذ المستشفيات الجامعية من شبح التوقف والإغلاق، وجاء رد الشيحي، بحسب مصدر داخل الوزارة – فضل عدم ذكر اسمه- أنه عرض الأمر على الدكتور عمرو الجارحي، وزير المالية؛ لتوفير الاعتمادات المطلوبة، فرد عليه "نجيب لهم فلوس منين". وزيرا الصحة والتعليم العالي يتبادلان الاتهامات في المقابل، انشغل وزيرا التعليم العالي والصحة، خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، بخلاف من المسؤول عن أزمة نقص الأدوية والمستلزمات الطبية داخل المستشفيات، وتصريحات وزير الصحة عن مسؤولية التعليم العالي والمستشفيات الجامعية عن نقص الأدوية، قائلًا : "المستشفيات دي ما بتعملش حاجة ومابتعالجش أكتر من 10% من المرضى ولو مش عارفين تشغلوها هاتوها لنا واحنا ندورها كويس". ومن أبرز نواقص الأدوية والمستلزمات الطبية التي رصدتها «البديل» داخل مستشفيات الجامعة في قصر العيني وأبو الريش والدمرداش، أدوية الشرايين التي تدخل في عمليات القلب، وأدوية التخدير، وحقن كيتوفان، وديكلوفين، وسبازموفين، وايمتركس، ولازكس، وأدوية وأمصال علاج الحساسية وفورتاكورتين، والغالبية تعاني من نقص في أجهزة نقل الدم والخيوط بجميع أنواعها والمحاليل الطبية، وأمصال السموم، والسرنجات، والكانيولات التي يتم توفيرها عبر التبرعات. كما يعاني مرضى الغسيل الكلوي على وجه الخصوص، من تكدس شديد في وحدات الكلى نتيجة تضاعف أعداد المرضى المترددين على مستشفى "قصر العيني" الجامعي نتيجة إغلاق عدد من المراكز التابعة للجمعيات الخيرية والخاصة بسبب عدم توافر المستلزمات الطبية وفلاتر الغسيل الكلوي. فتش عن قرض «النقد» يقول محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، إن الأزمة بدأت منذ دخول الصيف الماضي، وتحديدا عقب إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي، الذي وافق على إقراض مصر نحو 12 مليار دولار، ومن ثم بدأت تتراكم مدونيات شركات الأدوية لدى المستشفيات الجامعية. وأضاف فؤاد: «الشركات بدأت تجيب ورا بعد ما الجيش دخل في مناقصة الأجهزة والمستلزمات الطبية دون تنسيق أو اتفاق مع المجلس الأعلى للجامعات، المسؤول عن توريد الأجهزة والمستلزمات للجامعة، وتوقف توريد المستلزمات الطبية عن الشركات منذ منتصف سبتمبر الماضي، ومن ثم أصبح وضع الشركات صعب للغاية، وأوضاع المستشفيات أصعب». وأوضح فؤاد ل«البديل» أن كل المحافظين تقدموا بتقارير ومذكرات إلى وزير التعليم العالي يحذرون من توقف المستشفيات الجامعية في غضون أسبوع، حتى أن رئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن حذرهم قائلًا: "إلحقونا الناس هتاكلنا في الشارع لو المستشفيات دي قفلت أبوابها". الميزانية لا تكفي «البلد كلها بتتعالج هنا في قصر العيني».. هكذا قال الدكتور فتحي خضير، عميد طب قصر العيني بالقاهرة، والذي لم ينكر وجود أزمة حالية في المستلزمات الطبية وبعض الأدوية الاستراتيجية التي لا غنى عنها للمرضى المترددين على المستشفى الجامعي، وأرجعها إلى نقص الميزانية السنوية المخصصة للمستشفى، التي لا تزيد عن 660 مليون جنيه، ما يدفع الجامعة لسد العجز والنقص الشديد في المستلزمات والأدوية باللجوء إلى أموال التبرعات والتمويل الذاتي ومساعدات المجتمع المدني. وطالب خضير بضرورة إعادة النظر في الميزانية المخصصة للصحة في مصر؛ من خلال إعادة ضبط المنظومة ككل للخروج من الأزمة التي بدأت منذ أن كان طبيبا مقيم في مستشفى الجامعة عام 1984 حتى اليوم، بحسب تعبيره. وحول توقف شركات الأدوية عن التوريد للمستشفيات الجامعية، أوضح خضير ل«البديل» أن الشركة التي لا تلتزم بالاتفاقيات المبرمة مع الجامعة، وتكتفي بسداد الغرامة ودفع الشرط الجزائي، ويتم قطع التعامل معها، بحجة أنها غير قادرة على توريد الأجهزة والمستلزمات الطبية بالأسعار المحددة طبقًا للمناقصة السنوية. الدورة السريرية لحل الأزمة وأكد عميد قصر العيني أن خطوات مواجهة الأزمة، تم اتخاذها مبكرًا؛ حيث تبرع الدكتور جابر جاد نصار، رئيس جامعة القاهرة، بنحو 20 مليون جنيه لتجديد قسم الأشعة داخل مستشفى أبو الريش الجامعي وتوفير المستلزمات الطبية اللازمة لمستشفى قصر العيني، فضلًا عن حملة التبرعات الكبيرة من قبل المجتمع المدني. وعن خطة تطوير «قصر العيني» وتحسين كفاءة الأسِرّة التي يصل عددها إلى نحو 5 آلاف و200 سرير، أكد خضير أنه يكون من خلال ما أطلق عليه "الدورة السريرية"؛ بجعل متوسط جلوس المريض على أسِرّة المستشفيات الجامعية 4 أيام فقط، بدلًا من 10 أيام (أي ثلث العدد الحالي) لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المرضى المترددين على مستشفيات الجامعة، ما يساهم في تزويد المستشفيات الجامعية بأجهزة طبية حديثة وضمان جودة الإشعة والتحاليل المستخدمة. استيراد 200 صنف دوائي ناقص وأكدت مصادر ل"البديل" أن جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة أسند إلى الشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات "فاكسيرا" استيراد نحو 50 صنفا من أدوية مشتقات الدم بنحو 250 ألف فاكتور 8 و75 ألف فاكتور 9 و300 ألف أنتي آر اتش، كما وقعت وزارة الصحة والسكان بصفة رسمية عقدًا مع الشركة المصرية لتجارة وتوزيع الأدوية لاستيراد نحو 150 صنفا من الأدوية الناقصة بالسوق المحلي، تصل في غضون أسبوعين من توقيع العقد سوف يتم قصر توزيعها على مستشفيات الجامعة، أبرزها أدوية الأورام وآرتامين والميستنون وكيتواستريل ونحو 300 ألف حقنة ألبومين.