كلما ضاقت السبل بالناس، قالوا: 'فين الجيش؟'.. وكلما اكتشفوا أنهم أمام نظام 'مبارك جديد'، مضاف إليه غياب الأمن ومزيد من التردي الاقتصادي والدوران في الفلك الأمريكي، سألوا: 'الجيش هينزل إمتي؟'.. لم يتوقف الأمر عند السؤال: بل ذهب الكثيرون لما هو أبعد من ذلك، وحددوا موعد نزول الجيش إلي الشارع للإطاحة بالنظام الحاكم.. البعض قال: 'في عيد تحرير سيناء'، وعندما مرت الذكري ولم يحدث شيء، قالوا: 23 يوليو، وقال آخرون: 6 أكتوبر. في حين أكد البعض أن ساعة الصفر ستكون 'الشهر المقبل'.. يوم الإعلان عن أسماء المتورطين في حادث رفح، الذي استشهد فيه 16ضابطًا وجنديًا مصريًا.. وكلما مر شهر، قال هؤلاء: 'الشهر المقبل'.. بل هناك من بات يحلم أن ينام ليستيقظ علي أصوات الطائرات الحربية، ويري الدبابات قد عادت إلي الشوارع والميادين. الأمر لم يعد مقصورًا علي عامة الشعب، أو من يُطلق عليهم 'حزب الكنبة'، بل امتدت المطالبات بعودة الجيش إلي النخبة التي طالبت فيما مضي 'بسقوط حكم العسكر' وراح ناشطون وسياسيون يرددون ذلك سرًا وجهرًا. ولم تقف المسألة عند مجرد المطالب، فمؤخرًا أعلن د.إبراهيم درويش رئيس حزب الحركة الوطنية المصرية عن نجاح حزبه في جمع نصف مليون توكيل للجيش للتدخل ضد حكم الإخوان.. وقبلها تحرك مواطنون في العديد من المحافظات من تلقاء أنفسهم وحرروا توكيلات للجيش. وفي عمومية القضاة الأخيرة طالب المستشار عبد العزيز أبوعيانة رئيس نادي قضاة الإسكندرية الشعب المصري بالتوجه لمكاتب الشهر العقاري لتحرير توكيلات لتفويض المجلس الأعلي للقوات المسلحة في إدارة البلاد وإنقاذها وشعبها من الجرائم التي تقع عليه من جماعة الإخوان. في المقابل للأسف أو ربما لحسن الحظ لا أدري يواجه الإخوان وبعض رموز التيار الإسلامي هذه الرغبة المتزايدة، أو المطالبة بعودة الجيش، بالتهديد والوعيد، علي طريقة مبارك: 'أنا أو الفوضي'.. لكن بشكل أكثر عنفًا: 'نحن أو الحرب الأهلية'!!.. دون أن يسألوا أنفسهم: لماذا يتمني الكثيرون الآن الإطاحة بالنظام الحاكم رغم وقوفهم في الطوابير ليمنحوه أصواتهم؟!!.. وما الذي يدفع الناس للذهاب إلي مكاتب الشهر العقاري لعمل توكيلات لوزير الدفاع.. ولماذا يثق الشعب في الجيش دون غيره؟!!. لقد أصبحنا أمام قطاع من الشعب المصري لا يمكن تحديد حجمه علي وجه الدقة، لكنه كبير وفي تزايد فقد الثقة في النظام الحاكم ومعارضيه، ويري هؤلاء أن الفريقين يتصارعان علي كرسي الحكم.. دون أن يكون لفريق منهم قدرة حقيقية علي إدارة شئون البلاد.. وكلنا يلمس ذلك.. ولعلنا نسمع الآن من يقول: 'ولا يوم من أيام مبارك'!!!. هؤلاء بالطبع لا يمتدحون نظام مبارك بقدر ما يعبرون عن غضبهم من النظام الحالي، ولسان حالهم يقول: 'نصف العمي.. ولا العمي كله'.. خصوصًا أن مرسي وعشيرته وأنصاره قدموا نموذجًا للدولة الفاشلة.. العاجزة عن القيام بأبسط أدوارها. وفي الوقت الذي بات واضحًا أن الإخوان لا يمتلكون من الكفاءات ما يؤهلهم لحكم البلاد، زادت رغبتهم في استبعاد الجميع والاستئثار بكل شيء.. وربما يكون هشام قنديل وآخرون، خير مثال علي ذلك. حالة فقدان الثقة في الإخوان، والرغبة في عودة الجيش، تنتشر بسرعة كبيرة مع تردي الأحوال الاقتصادية والأمنية، ويساهم في انتشارها، الغباء السياسي الذي يتميز به النظام الحاكم ومعارضوه. فالنظام الحاكم، تحركه رغبة متوحشة في السلطة، دفعته للصدام مع أركان الدولة، 'الجيش والمخابرات والقضاة والصحفيين.. والأزهر والكنيسة'، دون إنجاز حقيقي أو ملموس علي الأرض أو إيجاد حلول ولو أولية لأزماتنا المتفاقمة.. ناهيك عن احتراف الكذب، والتضليل وسلسلة الوعود التي لا تتحقق.. والنهضة الفشنك، وغيره. أما المعارضة فمازالت تعيش أجواء نظام مبارك، وتخاطب الجماهير 'من فوق' عبر شاشات الفضائيات أو من خلال المؤتمرات الصحفية، بديلا عن النزول للشارع وتكوين قواعد شعبية. وبين هذا وذاك.. ومع أداء رصين من المؤسسة العسكرية، ورغبة في عدم الدخول إلي معترك السياسة، بدأ الجيش يستعيد ما فقده من رصيد خلال الفترة الانتقالية ويتجاوز آثار تطاول البعض عليه، وربما قدمت أزمة النظام الحاكم مع مدن القناة بروفة أولية لنزول الجيش مرة أخري لإدارة شئون البلاد. وفي تقديري، نحن أمام أمرين.. الأول: أن تفيق الجماعة من غيبوبتها، وتفهم لماذا يطالب الناس بعودة الجيش؟، وتعرف أن إدارة بلد بحجم مصر تختلف عن إدارة جماعة سرية.. لكن هذا مستبعد حتي الآن.. وتقول المؤشرات إنه لن يحدث!. الأمر الثاني: استمرار الإخوان في سياسات الإقصاء والصدام مع مؤسسات الدولة الراسخة، يصاحب ذلك أداء اقتصادي أسوأ من نظام مبارك قائم علي مد اليد، والسمسرة، والرضوخ لتعليمات البنك الدولي.. والتعامل مع الشعب المصري بسياسة الصدقات أو 'حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة'.. رافعين شعار 'نحن أو الحرب الأهلية'!!. وهنا ستتحول المطالبات والنداءات بعودة الجيش إلي رغبة شعبية لن تجدي معها التهديدات ولن يقف أمامها أحد، لا ميليشيات ولا حماس، ولا أمريكا التي سرعان ما ستتخلي كعادتها عما راهنت عليه وتبحث عن وسيلة جديدة لاستيعاب الأوضاع بما يحقق مصالحها.. وللإخوان في مبارك وغيره من قادة دول الربيع العربي أسوة حسنة. وليسأل أهل الحكم الآن أنفسهم: أين ذهب مليون عسكري أمن مركزي؟!!.. وأين اختفي 'جهاز أمن الدولة'؟!!.. وهل الحاكم وأجهزته أقوي من الشعب؟!. عمليات تخويف المصريين من الحرب الأهلية لن تجدي، فالناس تموت في اليوم مائة مرة، ومصر بعد الثورة ليست كما كانت قبلها، ومن يسترجع ما جري في مدن القناة منذ شهر تقريبًا أثناء وجود الجيش يعرف أن تهديدات هؤلاء ما هي إلا مجرد 'مهيصة، ومهيصة فارغة'.. فغضب الشعوب لن يقف أمامه أحد، ومن تنفسوا هواء الحرية من الصعب إعادتهم مرة أخري إلي عشش الدجاج حتي لو بذلوا في سبيل ذلك أرواحهم. وليسأل الحزب الحاكم نفسه أيضًا: أين ذهب أنصاره في الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، أثناء وجود الجيش؟!!.. ولماذا التزموا بيوتهم أو بادروا بحلق ذقونهم؟!!.. ولماذا كان الملتحون منهم ينفون علاقتهم بالإخوان والتيارات الدينية؟!!.. ألم يذكرهم ذلك بضباط الشرطة وأفراد الأمن المركزي الذين خلعوا ملابسهم العسكرية وهربوا قبل أن يكتشف الثوار أمرهم؟!!. ولا أريد هنا أن أذكر السادة أعضاء مكتب الإرشاد بما جري حول مسجد القائد إبراهيم عندما أعلن أنصارهم أنهم 'ذاهبون ليؤدبوا شعب الإسكندرية'!!.. ولن أذكرهم بما جري أمام مقر الجماعة في المقطم. لكن أقول لهم: استمراركم في تجاهل مطالب الناس المشروعة وأهداف الثورة التي راح المئات في سبيلها، ينذر بانفجار.. والإخوان والتيارات الدينية هم أول من سيلجأ للجيش لينقذهم من الغضب الشعبي في حال تصاعده.. وهو في تصاعد.. وقتها لن ينفع الندم.. وستلقي الجماعة نفس مصير الحزب الوطني.. 'وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون'. نحن أمام كرة ثلج تتدحرج وتتحرك بسرعة فائقة منذ الإعلان الدستوري 'الكارثة' الذي أصدره مرسي.. الكرة تكبر يومًا بعد الآخر، وإذا ظل النظام الحاكم في غيبوبته سيصبح 'الجيش هو الحل'، أو علي طريقة الإخوة 'حازمون'.. 'الجيش.. لازم نازل'. لا أجد وصفًا يليق بالهجمة الأخيرة التي يشنها الإخوان وأنصارهم علي القضاء.. فالمسألة تعدت حدود 'الغباء السياسي'، ليس فقط لأن النظام أي نظام يستمد هيبته من تنفيذ القانون.. والاعتداء علي القضاء ينتقص من هيبة النظام ومشروعيته.. ولكن أيضا لأن المعركة خاسرة.. ونهايتها معروفة. أسوأ ما في ارتباط جماعة 'حماس' ب'الإخوان'.. الشعور السلبي الذي تكوَّن لدي الرأي العام المصري تجاه 'الصراع العربي الصهيوني'.. وهنا يجب أن ننتبه جيدًا للفرق بين أي فصيل سياسي فلسطيني، والقضية الفلسطينية. فصراعنا مع الكيان الصهيوني صراع وجود وليس صراع حدود.. ودفاعنا عن حقوق الشعب الفلسطيني واستقلاله من النهر إلي البحر هو دفاع عن مصر ووجودها.