لاحظت سمة سائدة بين أهالى القاهرة، فما أن يركب أحدهم سيارته حتى تتحرك يده تلقائيا لتضغط على مفتاح تشغيل الراديو، للاستماع إليه!! وبما أنى سكندرية، وعادة الاستماع للراديو كادت أن تندثر فى عروس البحر، فقد حاولت معرفة السر وراء ارتباط أهل (كايرو) بالراديو!! ولاحظت أنها عادة مرتبطة بالتواجد خارج المنزل، فالراديو هو رفيق الطريق فى السيارات والأتوبيسات ..الخ إنه وسيلة للتغلب على الأوقات الطويلة التى يضطر أهل العاصمة لقضائها فى الطرق وسط الزحام وأزمة أوقات الذروة وإشارات المرور التى يقال عنها – على سبيل التندر والسخرية - أنها تضئ بالأخضر مرة واحدة خلال الأسبوع!! فالراديو وسيلة للتسلية ومتابعة الأحداث أثناء الاختناق المرورى، ولذلك ارتبط المستمعون بالبرامج التى تبثها الإذاعات خلال الفترات المتزامنة مع موعد الذهاب والعودة إلى ومن المدارس والعمل. لكن للأسف متابعتى القصيرة لبعض البرامج الإذاعية أصابتنى بما يشبه الصدمة بسبب هذا الكم من الصخب والضحكات المبالغ فيها وبعض الألفاظ والكلمات التى لدى تحفظات كثيرة بصددها!! فإن الراديو يرتبط فى ذهنى بذكريات الطفولة، حينما كانت الأسر المصرية كلها حريصة على الاستماع إليه فور الاستيقاظ من النوم أثناء الاستعداد لمغادرة المنزل، فكنت أستمع إلى أغانى الصباح تصدح من الراديو فى بيتنا، وتتسلل ذات الأغانى قادمة إلينا من بيوت الجيران (يا صباح الخير يا اللى معانا .. الكروان غنى وصحانا) و (الشمس بانت من بعيد) والعبارة الشهيرة للمتألقة ايناس جوهر (غمض عينيك وامشى بخفة ودلع، الدنيا هى الشابة وأنت الجدع، تشوف رشاقة خطوتك تعبدك، لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع، عجبى) ...وغيرها. كما ارتبط الراديو بالأجواء الرمضانية، والحرص على سماع آيات القرآن الكريم قبيل المغرب، وانطلاق مدفع الإفطار ثم الفزورة يتبعها مسلسل اذاعى، وبعدها تبدأ مشاهدة التليفزيون، قبل أن يأتي زمن سحب فيه البساط من تحت أقدام الاعلام المسموع لحساب المرئى. وتذكرت حكايات (تيته) رحمها الله عن بداية ظهور الاذاعة، فقد كانت فى البداية فى منتصف العشرينات من القرن الماضى بمجموعة من الاذاعات الأهلية سمحت بها الحكومة المصرية ومنحت تراخيص لمن يرغب فى البث، وكان مداها قصيرا لا يصل إلا لمساحة محدودة، واستغلها التجار للترويج عن بضائعهم مع بث أخبار اجتماعية وأغاني، ولكن تحول الأمر إلى فوضى وتصفية حسابات وشتائم وفن هابط مما جعل الحكومة تسحب التراخيص فى منتصف الثلاثينات بسبب شكاوى المستمعين مما يتم بثه، وظهرت الإذاعة المصرية الحكومية بالتعاون مع شركة ماركونى الانجليزية، وتم تمصيرها وإلغاء عقد ماركونى عام 1947تفريبا. ولا ينسى أحد ممن عاشوا تلك الفترة الجملة الخالدة (هنا القاهرة) التى نطق بها أحمد سالم أول مذيع مصرى، وظلت علامة مميزة للإذاعة المصرية. وتحكى لى أمى عن الراديو الضخم الذى كان يتوسط الغرفة الرئيسية بمنزل جدى – مكان تجمع الأسرة – وجرت العادة أن يوضع على حامل عال منعا لعبث الأطفال به - وربما لالتقاط الترددات - وبالتأكيد هذا الوصف يتطابق مع كل بيت مصرى فى تلك الفترة حيث كانت البيوت منشابهة، تحكى لى أمى عن سامية صادق (ما يطلبه المستمعون)، وبابا شارو الذى عشق صوته كل أطفال مصر،وأبلة فضيلة معشوقة الصغار والكبار، وصفية المهندس فى برنامج (إلى ربات البيوت)، وآمال فهمى (على الناصية)، وفقرة الأغانى التى تذاع فى الثانية ظهرا وتتزامن مع انتظار الأسرة لعودة الأب (جدى) من المحكمة حيث كان يعمل قاضيا، ويصل فى تمام 2.30ظ ليجد مائدة الطعام فى انتظاره، ويجتمع الوالدان بأبنائهما مع الاستماع إلى نشرة الأخبار أثناء تناول الطعام، وبعد قيلولة الغداء تبدأ الأمسيات الأسرية السعيدة وأيضا تصاحبها الإذاعة المصرية ببرامجها ومسلسلاتها وأغنياتها. وبالطبع لا تنسى الأجيال السابقة الخميس الأول من كل شهر حيث يجتمع الجمهور العربى كله من الخليج للمحيط من أجل سماع حفل (الست) أم كلثوم، لقد كانت عادة لا يخالفها أحد، ثم ظهر عبد الحليم ليخطف قلوب العذارى ويجبر بعض الآباء على منع بناتهم من الاستماع لأغنياته العاطفية!! فكانت الفتيات ينتهزن فترة الصباح قبل عودة الآباء من أعمالهم للظفر بسماع أغنية من أغنيات العندليب!! أتخيل أحيانا لو أننى عشت هذا الزمن الكلاسيكى الهادئ، حيث تجتمع الأسرة حول الراديو بعد تناول الغداء وأثناء شرب الشاى للاستماع إلى فقراته والترويح عن النفس بعد عناء اليوم، الأب يقرأ بعض المقالات التى لم يتسع الوقت لقرائتها صباحا، فى حين تواصل الأم أشغال التريكو، وتهتم الفتيات ب (الكانافاه) ويرغب الأولاد تغيير محطة الإذاعة لولا وجود الأب أثناءالاستماع. حينما أفكر بالراديو لابد أن أتذكر نادية (مريم فخر الدين) وهى تستمع للمطرب أحمد (عبد الحليم حافظ) فى فيلم حكاية حب!! ونوال (فاتن حمامة) وهى تصغى لغناء سمير (العندليب) فى فيلم موعد غرام، ونداء (من حكمدار العاصمة الى أحمد ابراهيم القاطن بدير النحاس لا تشرب الدواء، الدواء فيه سم قاتل) فى فيلم حياة أو موت، وغيرها من المشاهد الخالدة بالسينما المصرية وخاصة تلك المعبرة عن لحظات التفاف الشعب حول الراديو للاستماع إلى خطب (الريس) ونشرات الأخبار ..الخ لقد كان الصوت المنبعث عبر الأثير يطلق العنان لخيال المستمع ويجذب انتباهه ليتفاعل مع ما يتم بثه. وكانت للإذاعة دورًا هامًا في تشكيل وعي ووجدان المجتمع المصري، ومصدرا أساسيا للثقافة مع الترفيه، ولكن هل ظل البث الإذاعى محافظا على مستوى ووقار مذيعيه والأسلوب الراقى مهما تنوعت نوعية البرامج؟! للأسف، لم تعد الإذاعة المصرية تتسم بالمستوى اللائق بمكانتها الرائدة كأول إذاعة فى الوطن العربى. لقد أصبح البث الإذاعي عبارة عن ضحكات مائعة ودعابات مبتذلة بين المذيعين فى محاولة لادعاء خفة الدم و(الروشنة) يتخللها المادة البرامجية !! وتحول البث الإذاعى إلى حالة من الصخب والضوضاء!!!! ولا أدرى من أين جاء هؤلاء بفكرة ارتباط البرامج الخفيفة بالابتذال و(الاستظراف) والمبالغة فى الصوت العالى والضحك؟! ألم يتعلموا الفارق بين حوار مذيع ومذيعة عبر إذاعة مسموعة على الملأ وبين جلسات الاصحاب على المقاهى؟! ألم تستمع إحداهن للأستاذة ايناس جوهر وبرنامجها تسالى وكيفية نطقها لكلمات المبدع صلاح جاهين بكل (خفة ودلع) دون أى تدنى !! والرائعة سناء منصور بأسلوبها وصوتها المميز ومهنيتها وثقافتها، وغيرهن كثيرات من رائدات العمل الإذاعى اللاتى كانت أصواتهن تعبر بكل حرفية عن المشاعر المختلفة فتشعر بضحكة المذيعة فى صوتها دون ضحكات رنانة، وبدون اللجوء لأسلوب سوقى مبتذل، وكانت اللغة العربية الرصينة البسيطة سبيلا للوصول إلى قلوب المستمعين وعقولهم. باختصار .. فى هذا الزمن كان الرقى عنوانا للإذاعة المصرية!! أناشد مسئولى الإذاعة بكل محطاتها عقد دورات تدريبية للعاملين بالإذاعة للاستماع إلى التراث الإذاعى المصرى، ومحاولة الاستفادة من تلك الكنوز، بدلا من أسلوب جلسات (المصطبة) التى ينتهجها البعض.