حتى أحلامنا انكمشت.. صارت أقصر كثيرًا من ظلنا فى رابعة النهار.. هل لأننا تخلفنا عن شمس المجتمعات التى تعتلى قمم الجبال، وتتشبث بهامات النخيل فيتخلل نورها.. مسام الطير، والبشر، والحجر.. هل تركنا أحلامنا خلفنا.. وصرنا نركض فى اتجاه القادم بين اليأس والرجاء؟! نعم ظل المصريون يحلمون بشعارات الثورتين يناير ويونيو من حرية، وعيش، وعدالة اجتماعية، وكرامة انسانية إلى أن أصابهم الملل.. وهبط علي قلوبهم الاحباط.. ما هذا الذهول الذى داهم معظم الوجوه السمراء والأيادى الخشنة من بسطاء مصر.. بل وبسطاء النيل العظيم؟! هل هو الغلاء الذى يحرق جيوبهم الفارغة، ويكوى صدورهم المشتاقة؟! هل هى مشكلات التعليم التى تداهم الأسر المصرية منذ الحضانة وحتى الجامعة؟! أم أنه الفساد الذى يعترف به القاصى والدانى.. والذى جعل من عتاة فساد الأمس مثل «حسين سالم» يخرج كالشعرة من العجين.. تخرج يده بيضاء من غير سوء.. رغم أنها لوثت عقودًا تلو عقود.. من سمسرة وتربح من عرق المصريين ناهيك عن قضية الغاز وبيعه لإسرائيل؟! أم أنه ذلك «الدولار» اللعين، الذى يهان ويذل فى معظم الدول الأوربية المتقدمة، فتهبط قيمته، ويقل وزنه فى الأسواق.. فى حين يتحول لدينا إلى ما يشبه البلطجى أو الفتوة.. يستقوى على الجميع وفى المقدمة المواطن فيتعامل معه فى استعلاء واستغلال.. ويتدخل فى شئون حياته صغيرها وكبيرها.. ليحولها إلى جحيم لا يطاق من اشتعال تكلفة الحياة ومكوناتها الأساسية!! من الأشياء اللافتة.. حركة الشارع المصرى.. حركة المركبات والسيارات.. وأيضًا حركة المارة والجمهور.. وبينهما حركة «التكاتك» التى تعبث فى الشوارع الرئيسية دون قانون رادع.. إنه مشهد أقرب إلى العشوائية.. إلى الارتباك العام.. وكأنك تشاهد وربما تنخرط فى حالة صراع لا حالة نظام وانسياب فى الحركة.. منذ عقود ولت، عندما بدأت أتعلم فن السواقة.. نعم فن.. له أصول وقواعد وأخلاق ينبغى أن تتبع.. فقد كانت أول عبارة قالها لى معلمى الأسطى محمد: لابد أن تعرفى أن السواقة.. فن وذوق وأخلاق.. فأين هذه المقولة مما يحدث فى الشارع المصرى الآن.. الذى ما أن يختفى عسكرى المرور.. إلا وينقلب الحال.. وكأننا صرنا فى بحيرة من الأسماك المتصارعة.. الكبير يهدد الصغير.. والصغير يتطاول على الكبير.. أما الجمهور فقد يلجأ إلى أن يمرق من أمام السيارة.. وإن لم تنتبه.. فربما يزج بك مجرمًا رغم أنفك!! أين تقع المسئولية.. على الدولة أم علي الجمهور والمارة أم على السائق؟ إن المسئولية تتوزع على الجميع وتتشابك وتتعقد، وتتحدد، أمام القانون الذى يظهر ويختفى! فما أحوجنا إلى قانون صارم يستشعر به الكل فى انضباط أشد لحركة الشارع فى الأفرع قبل الميادين.. وبعدها نتحدث عن أخلاق الزحام التى لابد من مجابهتها، وتصويبها.. بالتعليم السليم.. والقضاء على الأميّه.. ونشر الثقافة الجادة، وتوزيعها توزيعًا عادلاً بين الناس، وفى ربوع مصر من أنحائها إلى أنحائها. أكد علماء الاجتماع فيما أكدوا عليه.. فى محاولة لإعادة بناء الشخصية الوطنية.. على دعامتين أساسيتين: التعليم السليم، والثقافة الجادة.. وبهما تضمن الوعى الصحيح الذى يقودنا إلى تقعيل دور المواطن فى عملية البناء والاستقرار، والنهوض.. ونحن مضطرون أن نتجاوز عملية إصلاح «التعليم» الذى بشهادة رئيس الجمهورية يحتاج إلى 12 عاما!! وربما هذا الأمر.. وللأسف الشديد.. يدفع بانتشار الفساد والآفات في العملية التعليمية أكثر مما هو منتشر الآن.. وقد ظهر جليّا فى امتحانات الدور الثانى، وعملية التسريب المتكررة للامتحانات وكأنهم يقولون «على عينك يا تاجر».. دون وازع من ضمير.. أو قانون رادع! أما فى شأن الثقافة الجادة.. التى تضاءلت من حياتنا.. واختفت تحت ركام السطحية، والغثاثة، والتنكيت والتبكيت على كل ما هو جاد وعميق فى الحياة والمجتمع.. فقد استرعى انتباهى فى كلمة وزير الثقافة «حلمى النمنم» فى ختام مهرجان المسرح القومى.. أنه من واقع نشرة المهرجان.. التى كانت تصدر يوميا على امتداد ثلاثة أسابيع.. لمتابعة الأنشطة الفنية.. قد غاب عنها الرؤية النقدية العميقة والرصينة.. وتساءل الوزير ساخرًا: هل اختفى النقد وتوقف على قلمى الراحلين د. على الراعى، والأستاذ فاروق عبدالقادر.. وبدورى أجيب على الوزير فى أمرين.. الأول أن الأستاذ فاروق عبدالقادر.. وبدوري أجيب عن الوزير في أمرين: الأول أن الأستاذ فاروق عبدالقادر هجر قلمه النقد المسرحى.. بعد أن داهمه اليأس فى محاولة إصلاح المسرح.. منذ زمن فاروق حسنى وزير ثقافة المخلوع.. أى منذ عقدين أو يزيد!! أما الأمر الثانى فكيف يعيب الوزير «حلمى النمنم» غياب النقد.. بينما معظم المجلات الثقافية المتخصصة تقفل أبوابها.. وتمحى من الوجود.. وهى بالأساس الميدان الحقيقى لازدهار النقد الثقافى العام.. والنقد المسرحى بخاصة.. وجاءت آخره مجلة المسرح المهددة الآن بالاقفال!! فهل سخرية وزير الثقافة من اختفاء النقد المسرحى فى محلها.. أم هى فض مجالس كما يتردد فى المأثور الشعبى الجمعى المصرى؟!