جمهورية عنق الزجاجة كان تقسيم ألمانيا إلي أقاليم تم ضمها لدول الجوار المعتدي عليها، من بين ما أسفرت عنه 'معاهدة فرساي' التي أعقبت الحرب العالمية الأولي، غير أن الحلفاء المنتصرين تركوا شريطا ضيقا في المنطقة الغربية الواقعة علي الحدود مع فرنسا، مما أغري سكان ذلك الإقليم في يناير 1919 إلي إعلان تأسيس دولة أسموها آنذاك 'جمهورية عنق الزجاجة المستقلة' استمرت حتي احتلتها فرنسا في فبراير 1923 قبل أن تعود لحضن ألمانيا مرة أخري في نوفمبر من عام 1924 كان هذا منذ ما يشارف علي قرن من الزمان، ولكن يبدو أن ثمة فكرة ما أطلت من اسم تلك الدولة هي التي ألهمت حكام مصر علي مر السنين لإرساء قواعد عنق الزجاجة في أركان الدولة حتي صارت العبارة عند المصريين من الفلكلور الشعبي المتوارث عبر الأجيال، فلا شك أنه مصطلح موحٍ استعذبه الحاكم، واعتاده المحكوم فبات يمثل أسلوب حياة لا ننسلخ عنه، بل أننا عشنا أبا عن جد محشورين داخل ذلك العنق اللعين أكثر مما قضينا في بطن الزجاجة نفسها، وبالطبع لا نعرف شيئا عما يدور بخارجها، ولكن المشهد المثير أننا بسبب تزايدنا مع شدة تدافعنا وتسابقنا نحو الخروج بلا استراتيجية ولا وعي أو مجرد تنظيم، أدي إلي تمدد هذا العنق لمستوي لا يتناسب إطلاقا مع حجم الزجاجة، وشيئا فشيئا تنكمش الزجاجة إلي أن تصبح بحجم قبضة يد الوليد، بينما يستطيل عنقها ليعبر السحاب البعيد، انظروا.. نحن الشعب الوحيد المستأثر بذلك السيناريو العجيب، ففي حين يمتلئ العالم بأطفال الأنابيب، ننفرد نحن المصريين باختراع اسمه 'أطفال الزجاجات' وكل يوم نسقط في القاع فنقذف بأنفسنا ونلتصق بالعنق محاولين الخروج، نتشبث بالأمل دون جدوي فنسقط من جديد لنعيد الكرة تلو الكرة.. فهل ننجح في الخروج ولو مرة!! ما كان م الأول!! أضحك من أولئك 'الإخوان' وأسيادهم وأذنابهم، وأنا أراهم يتحولون من المطالبة بدعم شرعية صندوق نص الليل، وعودة الاستبن الشرعي بعد إعادة نفخه من جديد، وما يستلزمه ذلك من ضرورة استمرار الكفاح المسلح ضد الشعب المصري ناكر الخير والجميل، وسهرات الأنس الصباحي التي طالما استمتع فيها بمنولوجات الرئيس الفكهي الله يرحمه، فالرحمه تجوز علي الميت والحي، كم صرخ هؤلاء 'الإخوان' وأطلقوا استغاثاتهم المسرحية الرديئة في كل ركن من زوايا الأرض البيضاوية، وصرفوا دم قلب 'التنظيم الدولي' علي المؤتمرات والندوات واللقاءات والتظاهرات، ناهيك من المساحات المدفوعة الثمن في جميع وسائل الميديا المنتشرة بين سائر بقاع الكوكب، أراقبهم دائما بفخفخينا من الدهشة والاشمئزاز والسخرية، مع قطع من الاستنكار والأسي، مغطاة بكريمة الغضب المخفوقة، ذلك المشروب الكريه الذي مرر حلوق المصريين بسبب ما أصابهم من عصابة 'الإخوان' طيلة سنة حكمهم السودة، وما سبقها وما تلاها. أهزأ من أوهامهم وأنا أراها تنحسر كل يوم نحو أغطية المصارف التي خرجوا علينا منها، حتي أنهم في أوائل هذا الشهر أصدروا من بروكسل ما وصفوه: بوثيقة المبادئ العشرة 'من أجل استرداد ثورية يناير، واستعادة المسار الديمقراطي' وجاءت كلها بالطبع خالية تماما من 'كلاشيهات' الماضي السحيق كعودة الرئيس الشرعي، والانقلاب، وحكم العسكر، بل أنها اقتصرت علي جمل إنشائية من نوع: العدالة الاجتماعية، وتمكين المرأة والشباب، وضمان الحقوق والحريات، وإصلاح مؤسسات الدولة.. مجرد كلام فارغ نحفظه عن ظهر قلب من بتاع لجنة سياسات جمال مبارك وصحبته الحلوة.. ويستمر التراجع وانحسار الأوهام، ولم تعد الأماني ممكنة.. فلحسن حظنا 'طنط أماني' ماتت محروقة.. إيه دنيا!! وذلك حتي السبت الماضي حينما أطلقوا المدعو 'إعلان القاهرة' المكمل لوثيقة بروكسل، وفيه 'صفصفت' أحلامهم علي: وجوب الاصطفاف لاستعادة ثورة 25 يناير، والمسار الديمقراطي!! يانهار اسود.. ما كان من الأول، عالم غريبة والله، كان لازم نشخط فيكم يعني؟! أتوقع أن يستمر تقهقرهم حتي يولوا أدراجهم في بيانهم المرتقب قريبا والذي سيشددون فيه بمنتهي الحزم والصرامة: علي حتمية التمسك بصرف 20 جنيهًا لكل نفر من الرجالة عشان يروحوا ونخلص من أم الليلة دي. فرار العقول الدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل، والدكتور طارق حجي، والدكتور مصطفي السيد، والدكتور مجدي بيومي، والدكتور ابو بكر الصديق، والدكتور محمد عبده، والمهندس كريم رشيد، والمهندس هاني عازر، كلها أسماء لعلماء مصريين، وغيرهم كثيرون فروا إلي خارج مصر ليحققوا نجاحات كونية لم تكن لترد يوما بخواطرهم لو أكملوا حياتهم في مسقط رؤوسهم، وكان عبد الله عاصم أو من يعرف بالمخترع الصغير هو آخر من لحق بهؤلاء، وبغض النظر عن أسباب تركهم لبلدهم التي وإن اختلفت في تفاصيلها فإنها تندرج جميعا ضمن قائمة العوامل الطاردة لأمثال أولئك النوابغ. إلي إذن متي سنستمر في تنفير العباقرة وهم أمل أي دولة تحلم بغد واعد، هم القاطرات التي تستطيع دون غيرها سحب المجتمع كله في اتجاه المستقبل، فهل سيذهب أمثال هؤلاء ويبقي لنا أمثال الدكتور العريان، والدكتور البلتاجي، والمهندس عبد الماجد..؟