«مصر تمر الآن بمرحلة عنق الزجاجة». كنت أظن أن تلك الجملة التابوه والمعلومة الأكلاشيه مقصورة فقط على النظام البائد. أتذكرها جيدا من بين غيامات وغياهب ودهاليز طفولتى المتوحدة. ظل الرجال ذوو الكرافتات المسؤولون عن حكم مصر على مدار سنينى الماضية وحتى الآن يقولون نفس الجملة ويؤكدون نفس المعلومة «مصر تمر الآن بمرحلة عنق الزجاجة.. مصر تمر الآن بمرحلة عنق الزجاجة» ومع تكرارها أصبحت مثلها مثل باقى الأكلاشيهات الأخرى المميزة لعصر مبارك: «القلة المندسة»، «المواطن محدود الدخل»، «الأجندات الخارجية».. إنها كلمات وجمل من فرط ما سمعناها فقدت معناها، فقدت خاصية القدرة على تحريك عقولنا تجاه أى فكرة معينة عند نطقها بخلاف فكرة الدعوة على قائليها بأنه «الله يخرب بيوتكو». وهى الدعوة التى يبدو أن السماء قد استجابت لها بالفعل! لهذا.. عندما سمعت الدكتور حازم الببلاوى نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية، يؤكد مؤخرا أنه «مصر تمر الآن بمرحلة عنق الزجاجة» لم أستبشر خيرا، فأبسط قواعد علم نفس الثورات يقتضى منا أن نتخلى عن تلك الجمل التابوه المميزة للنظام الساقط والسابق والبائد، خصوصا إذا كانت الجملة عبثية تماما مثل حكاية مصر المحشورة فى عنق الزجاجة منذ فترة من الزمن تقترب من الستين عاما تقريبا. تأملوها معى قليلا وحاولوا تفصيصها وفهمها والخروج منها بأى معنى مفيد. مبدئيا.. من الذى حشرها تلك الحشرة السودة؟ الرئيس المخلص عبد الناصر والرئيس البطل أنور السادات وضعاها داخل الزجاجة، أما الرئيس المخلوع فهو الذى حشرها تلك الحشرة المهببة فى العنق. طب بقالها قد إيه بالظبط داخل الزجاجة؟ منذ 59 عاما بالتمام والكمال. طب كيف انحشرت بالظبط؟! لا أحد يعرف شيئا عن ملابسات ذلك الحادث الأليم، فهو عبارة عن سلسلة متصلة ومتواصلة من الأحداث المتعاقبة هى التى أفضت بمصر إلى ذلك المصير الخنيق.. وكل ما نعلمه أننا ولدنا فوجدنا مصر محشورة فى عنق الزجاجة! طب إذا كان الوجود بداخل الزجاجة حيث الاختناق والزحام والمشكلات الاقتصادية (وهى المقصودة فى الأساس بالحشرة فى ذلك العنق) يعد رمزا منطقيا ومنطقا رمزيا لمصر ما قبل الثورة.. ألم يكن من المنطقى أن يسهم مناخ ما بعد الثورة فى زفلطتها من عنق الزجاجة إلى الخارج حيث الهواء الطلق والحرية غير المجتزأة والبراح السياسى والاقتصادى والاجتماعى؟! هل ظللنا ثلاثين عاما فى عنق الزجاجة ثم قمنا بثوره لنظل برضه فى عنق الزجاجة؟! يا نهار أسود.. أليس لنا من ذلك العنق خروج؟! أليس لنا من تلك الحشره عتق؟! لنا طبعا.. ولكن بعد أن تشعر وزارة الداخلية بداخليتها وبأنه مايصحش تسيب فلول أمن دولتها يعيثون فسادا فى البلد ويخطفون الناشطين السياسيين من الشوارع ويحققون معهم فى أماكن مجهولة ويعتدون على قيادات الأحزاب الجديدة على الطرق المقطوعة وغير المقطوعة (الاعتداء الأخير على أحمد أبو بركة المستشار القانونى لحزب الحرية والعدالة كان بجوار وزارة الداخلية نفسها).. وبعد أن نسمع من أى مسؤول فى البلد كلمة واحدة توحد ربنا عن التعليم فى الفترة المقبلة، فكل تأخير فى بناء التعليم من أول وجديد معناه جيل جديد غير قادر على استخدام عقله، وبعد أن تمتنع الفضائيات والجرائد تماما عن استضافة أو نشر تصريحات الفصيل القادم إلينا من غياهب الكهف، الذى خرج من الكهف فضرب النور فى وشه فقرر العودة إلى كهفه مرة أخرى والتحدث إلينا من هناك.. ينبغى علينا الإيمان بأنهم لا يصلحون (بجد) للاشتراك فى بناء بلد، إذ كيف تطلب من مقاول هدد أن يصبح بين عشية وضحاها مقاول بناء؟! إذن.. الداخلية وتظبيط الأمن، التعليم وتظبيط المستقبل، الإعلام وتظبيط العقل.. عناصر ثلاثة قد يكون فى تظبيطها تظبيطا لباقى العناصر (السياحة والاقتصاد والصناعة والزراعة والصحة والرياضة والفن) وبالتالى نتزفلط بقى من عنق الزجاجة إلى خارجها بعد طول حشرة، بينما فى الطرمخة عليها طرمخة على باقى العناصر.. وعندها سوف نتزفلط برضه من عنق الزجاجة بس مش إلى خارجها .. لأ .. إلى داخلها!