رغم الحالة التي يمر بها الشارع المصري، من اضطرابات نوعية، وعدم التوازن.. ورغم الإحباط البادي علي عموم الناس.. في القادم الذي لمَّا يأت بعد.. وفي المأمول الذي لم يتحقق، وكأنهم عاشوا أسري سراب علي مدار ثلاث سنوات.. وطحن دون طحين.. ورغم أنهم أسقطوا نظامين، وأشعلوا ثورتين، وأطاحوا برئيسين.. وهم في سبيلهم إلي انتخاب رئيس جديد، ويغالون في أحلامهم معه وبه وهو 'السيسي' !! إلا أنهم متمسكون بثوابت لا تخطئها العين وهي الأمن، والعدل، والحرية. فمن يصطدم مع هذا الثالوث الذي صار مقدسًا في ضمير المصريين، فإن مصيره ينتظره، وله في 'المخلوع' وبعده 'المعزول' أسوة حسنة!. ولعل التغيير الوزاري الأخير كان أحد أسبابه الرئيسة انعدام تحقق هذا الثالوث، الأمر الذي يأمله غالبية الناس في التشكيل الجديد للحكومة، وإذا كان رئيس الحكومة الجديد، توفرت فيه 'كاريزما' القبول الشعبي العام المهندس إبراهيم محلب، فربما لأنه لم يبعد عن هذا الثالوث، وقد استثني من الحكومة القديمة، لأنه كان أشبه بخلية نحل، لا تمل ولا تكل في العمل الدؤوب، وفي إيجاد صيغ جديدة، وحلول مبتكرة لمشكلات تفاقمت، وتراكمت عبر سنين إن لم تكن عقودًا!. لكن السؤال الجماهيري الآن: ماذا عساه فاعلًا بعد أن صار 'المايسترو' والمسئول عن الملفات الساخنة التي لا تحتمل التأجيل - في مقدمتها محاربة الإرهاب - لأن في تأجيلها أو التباطؤ في إيجاد حلول خلاقة وملموسة.. آثارًا اجتماعية ضارة تنبئ بإضطرابات أشد وعنف أكثر شراسة!! إنه حمل ثقيل حقًا. لكن بداية الألف ميل تبدأ بخطوة. تعتمد أكثر ما تعتمد علي المكاشفة، والمصارحة، ومن ثمة تتخلق الثقة المفقودة بين السلطة والشعب. فقد شب الشعب المصري عن الطوق حقًا، لقد نفض عن روحه وجسده ما كان قابعًا ومكبلًا لطاقاته، ولقدرته عن التعبير. لم يعد يخاف، ولم يعد يستكين للصوت القوي أو الجمهوري. إذا كنت من المؤمنين بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وتبني الأمم.. فإنني أضم صوتي عاليًا للاهتمام بالثقافة والمثقفين. بل إعادة تصويب نظرة الدولة أو الحكومة لها. هذه النظرة شابتها أخطاء فادحة، منذ أن فضلنا أهل الثقة علي أهل الخبرة. ثم تجاوزناها بعد أن صارت إحدي الركائز والبديهيات.. ليبني عليها أفكار غاية في الرجعية والتخلف، والانتهازية والتبريرية. الأمر الذي يجعل في النهاية المثقف في وضع مخزي بالنسبة لمجتمعه والذي صار فصيل فيه يكفره بجرة قلم أو طلقة رصاص، أو مخز مسموم!! واضعين في الاعتبار أن التطرف يبدأ من العقل.. وعلينا أن نطهر هذه العقول بأصحاب العقول النيرة. وحتي نقترب من الصورة المأساوية. فها هو المهندس 'محلب' يحتار في اختيار وزير ثقافة جديد لوزارته. هل لأنه يحدد القيمة والقيم المتوفرة في ذاك دون ذاك؟!.. الأمر الذي دفعه في النهاية إلي استمرار الأوضاع علي ما هي عليه دون تغيير.. واستمرار الوزير القديم في أغلب الظن 'صابر عرب' في موقعه رغم ضعفه وهوانه علي منتقديه الكثر، ورغم ما تعانيه الوزارة من خواء في الداخل، وتنافس وتطاعن يصل إلي الفساد بين القيادات، والإدارات.. بفعل التجريف التاريخي منذ زمن المخلوع مبارك، وزاد عليه عام 'المعزول' مرسي ومحاولة أخونة الوزارة عنوة! إن أغب الناس يرون في وزارة الثقافة أنها أشبه ما تكون وزارة للزينة أو وزارة فتارين. فقد كانت أيام المخلوع للمهرجانات وللصهللة كما صكها وزيره التاريخي 'فاروق حسني' بعد أن جلس علي المقعد طيلة ربع قرن.. وها هو يطل علينا عبر الفضائيات المصرية يمنحنا تلك الحكمة ويجعلها سارية المفعول!! إن أوضاعنا الثقافية المصرية، أوضاع بائسة بفعل الماضي التاريخي. المؤلم والفاسد، منذ أن هجر السادات العقول من مصر.. وبعد أن أطلق علي المثقفين جماعة من 'الأرذال'!! ثم أتي زمن 'المخلوع' 30 عامًا وأطلق وزيره التاريخي تعبير أن كبار المثقفين دخلوا الحظيرة! أما في عام 'الرماد' عفوًا عام 'المعزول'.. فقد أراد وزيره علاء عبد العزيز أن ينزع مصرية المثقفين ووطنيتهم بأن يؤخون الوزارة عن بكرة أبيها! إن الميراث ثقيل، والتركة لا ينبغي أن يتحملها فرد أو وزير.. إن الحكومة مطالبة بتكوين فرق عمل.. مثل الكشافة، لتقف علي عمق الخراب، وعلي حقائق الأمور، من تضخم الجهاز الإداري، ومن تحكمه في الإنتاج الفني الذي شح وبهت مع إدراك الأسباب.. ومن السطو علي أماكن العرض وأخص بالذكر 'المسرح' الذي صار كاليتيم علي مائدة اللئام!! المشكلات عديدة في مجالات الفن المختلفة من مسارح، وسينما، وفن تشكيلي، وكتاب ونشر.. لكن من الحكمة معالجتها، والخروج بنتائج تليق بمصر بمكانتها ودورها إذا ما وضعنا في الاعتبار.. تغييرًا حقيقيًا داخل دروب هذه الوزارة التي تكلست عبر عقود طوال.. بحيث ينبغي أن يتولي القيادة للأفرع.. شباب واع من داخلها.. يرفع شعار زواج السلطة بالثقافة بدلًا من زواج رجال الأعمال بالسلطة.. ولعله الشعار القديم ذاته الذي تحقق في ستينيات القرن الماضي، والذي به قادت مصر الدوائر الثلاث العربية، والأفريقية الإسلامية. إن الرسالة التي أبغي إرسالها لرئيس الوزراء الجديد المهندس 'محلب' أنه ينبغي أن يرد الاعتبار للمثقف وللثقافة حتي تستعيد ريادة مصر في محيطها الصغير والكبير بل نستعيد قبل ذلك أخلاقيات الشارع التي انفلتت وتحول معها التسامح المصري الأصيل بعدوانية وشراسة التكفيريين الجدد، وإذا أراد حقًا أن يساهم في إرساء دعائم الجمهورية الثالثة الناهضة بعد استكمال خريطة المستقبل.. عليه أن يكتسب صفة المنقب والمكتشف ليلحقهما بالبناء والمهندس.. بحيث تتعانق أيادي البناء والتعمير بعقول التنوير والتحرر وأصحاب المواقف الفكرية الجادة في تحصن أسانيد التكفيريين ومزاعمهم المنتشرة وسط الشباب المضلل، وليكن شعاره الجديد لبناء مصرنا الجديدة. يد تبني وعقل حر يشيد.إن رد الاعتبار للثقافة والمثقفين. هو المقدمة الأساسية للتصدي للإرهاب واقتلاعه من جذوره.