هل تأتي جوائز الدولة لهذا العام مغايرة عن سابقتها في أعوام طوال.. فتأتي بمثابة الطلقة الاشارية الكاشفة والراغبة في التغيير والتغيرّ؟! هل تعلن عودة الروح للثقافة الوطنية والمصرية والتي افتقدناها عبر سنوات وعقود طويلة؟! هل تؤشر علي رد الاعتبار للمثقف، وللقامات الثقافية والفنية الكبري التي تجاهلها المسئولون عبر أزمنة طويلة رغم كونها كانت ولا تزال بمثابة المصابيح المنيرة التي أضاءت حياتنا بالبهجة والاستنارة وهي تجمع بين المقعة والمعرفة الحقة.. فجعلتنا نسبح بقدرة الخالق، ونحن نتأمل جمال مخلوقاته، وقدرتهم علي العطاء والابداع، والتنوع، والسمو. فجائزة النيل وهي أعلي الجوائز وقيمتها400ألف جنيه، عندمايتحول اسمها من جائزة'مبارك 'حيث الشخصنة إليجائزة'النيل'وهو رمز مصر في الحياة، والنمو والتدفق فهذا انجاز عندما تذهب في هذا العام للشاعر'أحمد عبد المعطي حجازي' والمخرج'داوود السيد 'والكاتب' محفوظ عبد الرحمن'والفنانة'محسنة توفيق'.. فهذا انجاز مضاف وكأن الجائزة تنفض عنهاغبار السنين، حيث كانت تمنح للمحاسيب، والاتباع، وكل منيسير في الركب ليطبل ويزمر!! أما أصحاب المواقف، والمبادئ الحرة لأجل الله والوطن، والذين يقبضون علي جمر الحقيقة.. وقد كانت تتعامي عنهم عامدة ومتعمدة، فتنفيهم، وتهمشهم.. ودائما ما كان الشعار الحاكم'ذهب المعز وسيفه'مع تفضيل دومًا أهل' الثقة علي أهل الخبرة '.. وإنغلق الأمر بقواعد بيروقراطية زائفة وشكلية في لجان متعددة وطرق معقدة للترشيح وجمع الأصوات وتوزيعها حسب الرغبة والطاعة!! وقد تنبع من هنا الدهشة الكبري في الجائزة التقديرية لأسماء كبري تعد علامات هامة في ميادينها وتخصصاتها المتنوعة وهم أنفسهم لميفكروا فيالجائزة مثل الروائي المبدع محمد ناجي ود.جلال أمين والشاعر سيد حجاب وقديكون السبب في ذلك وعيهم بفساد الأمكنة، وانسداد الشرايين في أروقة'المجلس الأعلي للثقافة'وهويحمل ميراثًا ثقيلاًمن السلبيات ومخلفات عصر مبارك المخلوع عليامتداد30عامًا.. والذي تباهي وزير ثقافته الملاكي'فاروق حسني'، الذي جلس فيالوزارة مايقرب من نصف قرن!! تباهي بأنه ادخل كبار المثقفين المصريين الحظيرة!! بل وجعل من الحياة الثقافية المصرية مايشبه الكرنفالات الاستهلاكية الشكلية، فتسبح البلاد في مجموعة من المهرجانات التي لا تغني ولا تشبع من جوع! وهو صاحب مصطلح'الصهللة الثقافية'التي تعم البلاد!! نعم الميراث الثقيل في الزيف والفساد فالثقافة المصرية بعد الستينيات التينهضت نهوضًا كبيرًا ربما نلخصه في مقولة شاعت وقتها'إن القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ'انتكست نكسة كبيرة.. ففي السبعينيات انقلبت الموازين.. منذ هجرة العقول والانتصار للأمية الثقافية! ومحاربة المثقف العضوي بالأساس، وتشويه صورته عبر الفنون ولتشهد علي ذلك أعمال'عادل إمام'و'محمد صبحي'الكوميدية!! أما في الثمانينيات فقد جاء عصر التجريف الأعظم للعقول حيث عصر'المخلوع 'وإشاعة السطحية والركاكة والغثاثة والبعد عن كل مايحمل رؤية نقدية جادة أو قيمة وطنية أصيلة، أويدعو إليتغيير جذري للنهوض من الغيبوبة التي تعاني منها الأمة.. وبالتالي عندما جاء المعزول د.مرسي بدا له أن الأرض ممهدة لضرب أعمدة الدولة ومنها الثقافة.. فجاء بوزير ثقافةيتقدمه الحمق السياسي'علاء عبد العزيز 'وتدعمه الجماعة ليصبح معولاًيهدم ما تبقيمن أمل في قيادات الوزارة فيتم عزلهم واستبدالهم بكوادر إخوانية أي أخونة الثقافة وهوالأمر الذي رفضه جموع الفنانين والمثقفين وأقاموا اعتصاما استمر مايزيد عن الشهر في مقر الوزارة ولميفضوه إلا بعد انتصار جموع المثقفين للثورة في'30يونية'.لقد أرادوها وزارة'للجماعة'علهميستنبتون رموزًا ثقافية، ورغم الجدب الذييعانون منه في المجال الثقافي والفني منذ نشأتهم عام1928.. فلم تعرف لهم رموز ثقافية كبيرة، ولا فنان موهوبيشار له بالبنان.. وقديكون أحد أسباب محاولتهم السطو عليوزارة الثقافة هو محاولة دفينة للسطو علي الوثائق التاريخية التي تدين بداية نشأة'الجماعة'وعلاقتها بالاحتلال الانجليزي.. ولكن تلك المحاولة أيضا باءت بالفشل عندما تصدت لها الجماعة الوطنية المصرية علي اتساعها. وقديكون مبدأ'السمع والطاعة'الذييتحكم في الجماعة هو السبب في انتفاء وجود مثقف كبير بين صفوفها ذلك أن الثقافة لا تنتعش أو تعيش وتنمو إلا في ظل جو من الحريات العامة وسيادة القانون والديمقراطية.. أما في ظل الانغلاق والاستبداد والتسلط والحكم الفاشي الذي حاولوا فرضه علي المصريين.. فإن الثقافة الوطنية الأصيلة لابد وأن تنكمش وتختفي بل قد تموت!! ولهذايأتي السؤال المعضلة.. هل من قبيل المصادفة أن تخرج هذه الجحافل الإرهابية من الجماعةيوم فض اعتصام معسكر'رابعة العدوية'في'14يونية'لتحرق بيت ومكتبة الأستاذ'محمد حسنين هيكل'والتيتضم مايقرب من18ألف كتاب ومخطوط نادر.. لماذا هذا العدوان المدمر للمكتبة والكتب؟ وما هذا الحقد الأسود علي الذاكرة الوطنية والقومية؟! أهو عداء مبيت بينهم وبين صاحب المكتبة؟ أم أن الأمريتجاوز ذلك إلي عداء دفين صد العقل الانساني الذيتجسده هذه المكتبة الضخمة وهي تضم مئات وآلاف من المخطوطات النادرة؟ إن الاستاذ'هيكل'دومًاينتصر لوجود المثقف، ولأهميته فيبناء الأمة وتشييد نهضتها.. وهو الأصل في اقامة مصطلح'القوة الناعمة'والتي رددها بعده الأكثرية! ويؤكد عليتفوقها علي القوة الصلدة أي قوة الجيوش، في أزمنة عديدة من تاريخ الأمة المصرية فهل لهذا أحرقوا تلك الكتب والمخطوطات عوضًا عن إحراق الرجل ذاته، الذي كانوايودون حرقه شخصيا لولا عناية الله له.. فقد نجاه بأعجوبة الغياب عن الموقع ما بين البيت والمكتبة في'برقاش'. إن منيعرف الفرق بين أصحاب الذقون في الجماعة وأصحاب العقول النيرة من المثقفين.. يعرف الفرق بين منيحمل السلاح لإرهاب الناس، والوطن.. ومنيحمل الأفكار ليبثها في جنبات المجتمع للتغيير والبناء.. فهليتساويمنيحمل المدفع والخنجر مع منيحمل القلم والريشة؟! الفروق النوعية عديدة بين أصحاب الذقون المتاجرين بالدين والأوطان.. وبين أصحاب العقول.. فقد رأينا الفريق الأوليحمل السلاح ليحرق، ويقتل، ويدمر، ويروّع، ولايعترف بالوطن والوطنية.. لأن دينه هو الجماعة!! أما الفريق الثاني فهم لايملكون سوي الأفكار التي بهايحلمون بتغيير الوطن'المقدس'للأفضل والأجمل والأكثر رحابة وانسانية.. ولهذا عندما نقرأ الجائزة التقديرية مقرونة بأسماء'نهاد'والكاتب'كرم النجار'والمخرج'عصام السيد'.. تدفعنا للتمسك بأهداب الأمل فيأنيسترد المثقف الحقيقي والفنان المبدع مكانته المفقودة، والمفتقدة فيالمجتمع حتي تسطع معها شمس مجتمع مصري جديد.. خال من أمراض التطرف، والتعصب، والاستبداد، والفاشية الدينية، والقبضة الأمنية.. وحتي نقترب معًا وحثيثا من تطبيق شعارات ثورة'ينا يونية'في الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.. علي قاعدة دولة القانون، وحق المواطنة والاختلاف. ملحوظة: تحية خاصة للدكتور'حسام عيسي'وزيرالتعليم العالي في الحكومة الانتقالية الذي رفض جائزة النيل.. لأنه يتقلد وظيفة في الدولة.. وقد رأينا بعض وزراء سابقين يتحايلون علي نيل الجائزة بطرق بهلوانية!!