يعد المفكر المصري الدكتور عاطف العراقي -أستاذ الفلسفة الإسلامية- من المثقفين العرب الذين يتخذون مواقف حاسمة في الدفاع عن قضايا التنوير والحريات، كما تصدي للتفكير اللاعقلاني والتعصب والخرافة، علي مدي نصف قرن، قدم خلالها عشرات الكتب التي أثرت المكتبة العربية، نال العديد من الجوائز والأوسمة منها: جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة التفوق في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلي للثقافة، ووسام العلوم والفنون والآداب من الدرجة الأولي، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية. حول المتغيرات التي يشهدها العالم العربي الآن، والعديد من القضايا الفكرية والثقافية، وثورة 25يناير، وغياب الفكر الفلسفي، وتراجع دور المثقفين، والاحتقان الطائفي، ومستقبل الفلسفة، دار الحوار. الحرية والعدالة في تصورك لماذا لم تكتمل أهداف ثورة 25يناير حتي الآن؟ 25يناير ثورة لكنها لم تكتمل بعد، ويجب أن نفرق مثلما قال الأديب توفيق الحكيم بين الثورة والهوجة، لكني أؤكد أنها ثورة وليست هوجة، فقد استطاع هؤلاء الشباب أن يقتلعوا نظاما استمر ثلاثين عاما، وأطاحوا بحاكم مستبد، وضحوا بدمائهم فداء للوطن، ومنهم من أصيب بعاهات مستديمة من أجل الحرية والعدالة، وما أخشاه هو أن ينهار الاقتصاد، وتدخل مصر في كارثة الديون والأزمات المالية، لأنه لا يمكن قيام أي مجتمع إلا بقوة الاقتصاد، وكنت أنتظر أن يقوم شباب الثورة بدور بعد ثورتهم المجيدة، وان يقفوا صفا واحدا لحماية الثورة، وتحقيق المزيد من المكاسب. كيف تري انعكاس المتغيرات السياسية علي تطور الفكر الفلسفي؟ الفكر الفلسفي لا ينشأ من فراغ، وكل فكر فلسفي جاد لابد أن تكون له نتائجه المؤثرة، وهو ما نراه بوضوح في الثورة الفرنسية مع فولتير، والثورة البلشفية مع كارل ماركس ولينين وستالين، لذا أتوقع أن تكون لهذه الثورة نتائج جذرية وجبارة في تطور الفكر الفلسفي في مصر، لكن علينا ألا نتعجل ذلك، لأنه لا يمكن أن ينتج عن أي ثورة فكرا إلا بعد مرور فترة زمنية، عندما تتبلور نتائج الثورة، أؤكد أن للثورة بصمات ستظل في عقول ووجدان ليس الشعب المصري فقط، ولكن في وجدان شعوب العالم، خاصة أن الدول العربية في أكثرها مازالت تعاني من الطغيان وحكم الفرد الواحد. الأقلام الحرة لماذا تراجع دور المثقفين في المجتمعات العربية؟ لا يوجد بين المثقفين أيديولوجية عربية مشتركة للأسف، أقصد الأساس الفكري، فمثلا أيديولوجية الثورة الفرنسية تبلورت حول الحرية والإخاء والمساواة، وكل المثقفين والمبدعين الفرنسيين تأثروا بتلك الشعارات، فلكل دولة أيديولوجية فكرية كالبرجماتية في أمريكا، والأيديولوجية الروحية العقلية في فرنسا وألمانيا. فأين الشعار الذي من المفروض أن يوجد بعد ثورة يناير؟ وكان يجب علي الجميع أن يتآلف ويتحد بعيدا عن الطائفية والمذاهب المتعددة، لأن ذلك لا يمكن أن يؤدي إلي أيديولوجية فكرية، وهذا التنازع الدائر بين تلك التيارات سيؤدي حتما إلي نتائج سلبية، فالعبرة بالتآلف وليست العبرة بالصدام بين أبناء الوطن الواحد. كما أن المثقف لا يستطيع أن يعمل إلا في مناخ حر ديمقراطي، وإذا غابت الديمقراطية، قد يساهم ذلك في أن يخشي المفكر من أن يجهر بأفكاره، بالإضافة إلي أن وسائل الإعلام مازالت تجامل أصحاب العهد البائد، حتي الآن مازلنا نري ذات الكتاب الذين اسميهم بالثعابين الذين يغيرون جلودهم من فصل إلي آخر، في حين يحجمون عن أصحاب الأقلام الحرة الثورية، فضلا عن الخلط "الشنيع" بين الدين والسياسة، الذي بلغ حد التهديد والإرهاب من جانب أصحاب الذقون الطويلة، بجانب الأموال التي تضخ بالمليارات وتمنح لجماعات تتستر بالدين، والدين منهم براء، كل ذلك ساهم في تراجع دور المثقفين. مرت ثمانية قرون دون أن ينجب العالم العربي فيلسوفا واحدا.. ما تفسيرك؟ توجد أسباب لا تعد أدت إلي خلو العالم العربي من مشرقة إلي مغربة من الفلاسفة، من بينها هجوم المفكر الديني أبو حامد الغزالي علي الفلسفة والتفلسف، متهما الفلاسفة بالكفر، ما أدي إلي أن هاجرت الفلسفة من المشرق إلي المغرب، وهناك حدثت محاكمة ابن رشد آخر الفلاسفة وتم نفيه وإحراق أكثر كتبه في الميادين والشوارع، فالعالم العربي المعاصر لم ينجب فلاسفة، نظرا لان الفلسفة مازال ينظر إليها نظرة تكفير، ما يؤكد كلامي أنه قبل أيام احتفلت كل دول العالم المتحضر بذكري الفيلسوف العربي ابن رشد في حين لم تذكرها وسائل الإعلام المصرية بكلمة واحدة!! لذا لا أعتقد أن يكون هناك مستقبل للفلسفة في ظل المناخ السائد. التراث الثقافي هل يمكن أن ينال صعود التيار الإسلامي من التراث الثقافي المصري؟ لا أظن ذلك، فالنهضة الفكرية التنويرية في مصر والتي بدأت مع رفاعة الطهطاوي، وقد أثرت كتاباته في صياغة وبلورة الاتجاهات الحرة التنويرية في أكثر شعوب العالم، اعتقد أن مصر بعطائها الفكري الذي استمر لأكثر من قرن من الزمان ستقف بالمرصاد أمام كل محاولة لطمث الفنون والآداب، فأين يذهب تراث الخالدين أمثال طه حسين، ونجيب محفوظ؟ وماذا نفعل إزاء كبار الفنانين الذين صاغوا وجداننا منذ عشرات السنين أمثال نجيب الريحاني ورياض السنباطي وأم كلثوم وغيرهم؟، أعتقد أن الرصيد الأدبي والفني سيتصدي لكل من يحاول الاعتداء علي التراث الثقافي. هل اسهم غياب الفكر الفلسفي في انتشار الخرافات؟ بالتأكيد.. لأن الشعب العربي متدين في أعماقه، ولا يصدق إلا الخطاب الديني، لذلك فنحن في حاجة إلي الخطاب الديني المستنير وأبرز مثال لهذا الخطاب هو الشيخ محمد عبده. يري البعض أن البترول في الدول العربية اسهم في تراجع الثقافة التنويرية.. هل تؤيد ذلك؟ نعم.. لقد حدث ما اسميه بظاهرة البتروفكر، أي كيف يكون الفكر نابعا من البترول في الدول العربية، وكان من المنتظر أن يكون البترول وسيلة لدعم الثقافة، لكنه أدي إلي تراجع الثقافة التنويرية، فظاهرة البتروفكر محورية في التراجع والتخلف، لذا يجب أن تنتهي تلك الظاهرة. كيف تفسر ظاهرة الاحتقان الطائفي، وغياب روح التسامح في المجتمع المصري؟ يتجلي الاحتقان الطائفي عندما تغيب المساواة في الحقوق بين مختلف الطوائف، فالمسيحي يدافع عن وطنه ويشارك في الحروب جنبا إلي جنب مع المسلم، لذا يجب أن تتساوي كل الحقوق بينهما، وقد اختفت روح التسامح نظرا لعدم المساواة التي نشهدها في التفرقة بين المسيحي والمسلم سواء في عدد الوزراء أو في تقلد المناصب أو في قوانين دور العبادة وغيرها من العوامل التي تثير الفتن وتدعو للاحتقان، وأناشد رجال التعليم أن يفحصوا كل الكتب المدرسية لإزالة أية عبارة قد تؤدي في ظاهرها أو باطنها إلي التمييز بين أبناء الوطن الواحد.