الآن.. وفي عصرنا الراهن، حلّ الاستنتاج المنطقي واستقراء القرائن مكان التنبؤات والتهويمات، سواء أكانت قراءة طوالع في فناجين السياسة أو استنطاقاً للجن أو ضرباً للمندل.. وما يُكتب في كل يوم علي امتداد مساحة وطننا العربي يملأ بحراً بالحبر الأسود، وكثيره يتهادي ويكرر بعضه بعضاً، اللهمّ إلا إذا كان هذا التكرار مجرد إعادة إنتاج لغويّة ليس إلا. فالشفافية شحيحة، وتشح أكثر فأكثر كلما اقتربت من حرم السياسة وأروقتها وزواريبها، لأنّ معظم الحكام العرب من خليجهم للمحيط ومنذ زمن عقيم يُملَي عليهم ولا يقرّرون بإراداتهم الحرّة، وتلك كوميديا مؤرشفة محفوظة عن ظهر قلبٍ وأسي من قِبل جماهير الأمة، وإن كانت تستدعي السخرية والبكاء لا الضحك والرّضا لهول مفارقاتها العجيبة وأجنداتها المرعبة! وأكثر مَنْ يثيرون الإشفاق أو الاستنكار هم أولئك اليقينيون الذين لا يشوب اليقين لديهم غبار الشك، فهم يجزمون ويفتون لمجرد أنهم يصدقون السراب المخادع، فيمدون أيديهم إليه لتعود منه أكثر جفافاً وعطشاً! إن مشهد ما عرف ''بالربيع العربي'' في الوطن العربي بدا مشهداً قاتماً وحزيناً، لما حمله معه من مآسٍ وكوارث للعرب، حيث شرّد أكثر من 20 مليوناً من البشر من ديارهم في العراق وليبيا واليمن والسودان وسورية وتونس ومصر، في الوقت الذي أكد فيه النظام العربي الرسمي عجزه عن احتواء ومعالجة هذه المآسي، بل لا نبالغ إذا قلنا إن عدة أنظمة عربية ولاسيما ممالك ومشيخات النفط، كانت مع كل أسف مشاركة في صنع هذه المآسي والكوارث بأموالها وإعلامها.. واليوم إضافة إلي مثل هذه المشاركة العربية المخزية، لا حديث عن ميثاق جامعة الدول العربية ولا عن الأمن القومي العربي المستباح، ولا معاهدة الدفاع العربي المشترك بل تحولت الجامعة العربية في ظل سيطرة بعض دول الخليج عليها ولاسيما قطر إلي أداة بيد ''الناتو'' أو إلي دائرة من دوائر وزارة الخارجية الأميركية، فقد تآمرت علي ليبيا عندما طلبت تدخل حلف ''الناتو'' فيها عسكرياً، وتآمرت علي اليمن، وعلي سورية بشكل خاص، إضافة إلي مساعيها لتصفية القضية الفلسطينية وفقاً لما تريده ''إسرائيل'' إذ وافقت مؤخراً علي مسألة ''تبادل الأراضي'' مع ''إسرائيل''. في زمن ''الربيع العربي'' لم تعد بعض الظواهر السياسية المنتشرة هنا وهناك علي الجغرافية العربية تثير الأسئلة والاستغراب فقط، وإنما أصبحت تحتم علينا التذكير بمسلمات وبديهيات يبدو أن معانيها ومفاهيمها إلتبست علي بعض العرب منذ بداية موسم الهجرة إلي ''الليبيراليات'' الجديدة ودخولهم عصر ''الديمقراطية الصهيو أمريكية''. لقد كنا لأمس قريب نخال أن تلك البديهيات من الحقائق التي لا تحتاج إلي تذكير أو تفعيل، ولا يمكن القفز عليها أو تحريفها أو تزييفها تحت أي ذريعة كانت بل هي من أبجديات كل فعل سياسي وطني أصيل. ولا شك أن في مقدمة هذه الحقائق أنه لا شيء يثمر خارج تربة الأوطان، ولا مستقبل لمشروع أو مقاربة سياسية تستعير مصادرها ومفردات مضامينها وآليات تنفيذها من خارج بيئتها وحدودها أو تستمد عوامل ''قوتها'' المزعومة و''شرعيتها'' الموهومة من وراء البحار. ولكن يبدو أنه زمن استعارة الجلود واستبدالها كما تستبدل ربطات العنق، وصار بالإمكان الانقلاب علي القناعات والدوس علي الثوابت حتي الوطنية أو العربية منها دون حياء.. إنه زمن أصبحت فيه مفاهيم الوطنية والسيادة والكرامة في قاموس بعض العربان من المفاهيم البالية، ويُنعت كل من يستخدمها أو يرفعها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه بالمتخلف ومن أصحاب اللغة والمواقف الخشبية.. وأنه في قطيعة مع عصر المفاهيم الرخوة والزئبقية التي استوردوها. نعم، لقد تحولت بعض الدول العربية إلي دُمل متورمة علي خارطتنا العربية وهي ترفع يافطات تناقض جوهرياً المهام التي أوكلتها لنفسها، بل وتدعي احتكار تمثيلها والناطق الرسمي الأوحد بإسمها، متعامية علي حقيقة ماثلة أمامنا تتعدد شواهدها في ساحاتنا العربية النازفة، حقيقة تقول أن الاستقواء بالأجنبي واللهاث وراء عونه والاستئساد علي الأوطان ببوارجه ودباباته إنما هي من عوامل التعقيد لأوضاعنا وأيسر المسالك لتفكك نسيج مجتمعاتنا وبالتالي أقصر البوابات للهيمنة ومصادرة قرارنا السيادي وإجهاض تطلعات شعوبنا المشروعة في الحرية والرفاه والكرامة. والأغرب من كل هذا أن أعراب قطر.. لم تدرك بعد، رغم المآسي والكوارث التي تسببوا فيها، أنهم بسلوكاتهم تلك أصبحوا عنواناً من عناوين اعتلال الأوطان وجزءاً من المشاكل القائمة لا من الحلول التي تنشدها المجتمعات العربية لتجاوز مأزقها وأزماتها الراهنة. اِِنها حالة شاذة وغير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر.. حالة مزرية من الفوضي والضياع والانحطاط والدونية السياسية التي لم تجند لفضيلة التضامن العربي لحساب الفراغ العدمي القاتل فحسب، بل أيضاً لحساب فعل التواطؤ، وقوة التآمر، وخطيئة الاستقواء بالمستعمر الأجنبي علي الشقيق العربي، وجرائم التورط في تشجيع وتمويل الانقسامات والمواجهات الجغرافية والديموغرافية داخل الاقطار العربية، وفقاً للحزازات الطائفية والعشائرية والجهوية والعرقية. أنظروا ما أشد أحقاد حكام العرب علي بعضهم بعضاً، وما أفدح خلافاتهم ومنافساتهم وحساسياتهم، وما أسود قلوبهم ونفوسهم ودخائلهم، وما أقبح قبلاتهم وحفلات تبويس اللحي أمام عدسات التلفزيون، فيما هم يخبئون الخناجر المسنونة خلف ظهورهم، وتحت عباءاتهم المذهبة والمقصبة، استعداداً لغرسها في صدر أي واحد منهم تصيبه مصيبة، أو تنتابه حالة ضعف، أو تدور عليه الدوائر. أنظروا ما أقل وفاقهم واتفاقهم، وما أندر مشاعر الإخاء والوفاء في صدورهم، وما أبعد المسافات بين أقوالهم وأفعالهم.. فهم في واقع الأمر كذبة وجهلة وقتلة وخونة لا يحفظون عهداً ولا ذمة، وهم فاسدون ومستبدون وأقرب إلي أصحاب المزارع وشيوخ القبائل، منهم الي قادة الدول ورجال السياسة ورموز الأوطان وفرسان المشاريع التنموية والتحررية. ولعل من أبرز فضائل الثورات الشعبية التي أسقطت حتي الآن حكام مصر وتونس وليبيا، أنها قد فضحت هؤلاء الحكام الأصنام، وعرتهم حتي من ورقة التوت، وأثبتت أنهم ليسوا أكثر من جهلة يدعون الحكمة، ولصوص ينتمون الي حزب علي بابا، ومتسلطين يحكمون من خارج الدستور والقانون، وعشائريين يستبيحون مقدرات الأوطان لحساب أنجالهم وأخوانهم ونسائهم وأزلامهم. وإذا كانت كل هذه البلاوي قد تكشفت لدي أولئك الحكام الثلاثة المخلوعين، فماذا يخبئ للحكام الذين مازالوا يتربعون علي أرائك السلطان؟ وأية مخازٍ سوف تتفضح عندما تصل الثورات الشعبية الي ديناصورات مشيخاتهم وأصحاب خزائن قارون الخليجية؟ وماذا ستقول فضائيات العهر الإعلامي إياها حين يتهاوي سلاطين التخلف والأمية والرجعية الذين اعتقلوا شعوبهم في أقبية العصور الوسطي؟ إنها المسافة الخطرة والوعرة تلك الواقعة ما بين ميدان الجريمة الراهن والأهداف المنوطة بالمشروع الاستعماري الكبير وهي مساحة مشوشة ومفعمة بالتناقضات وقد تدفقت إليها تداخلات مركبة صار الأبيض بموجبها أسود، وتحول القتل وسفك الدم الحرام فيها إلي جهاد وأصبح العدو الغربي الصهيوني في مساراتها صديقاً وشقيقاً وحليفاً، واتخذ المتخلف فيها موقع التوجيه والقيادة وكأنما هو يسوس ويسوق قطيعاً من الإبل أو الغنم، هي المسافة العقدة حقاً وحقيقة وما دامت بلا قواعد فكرية وبدون محددات أخلاقية فهي تصلح كما هو الحال لأمرين متلازمين للكذب من جهة وللجريمة المنظمة من جهة أخري وفي تفرعات هذين الأمرين تتوضع بصورة واقعية المواقف القادمة من الموت والذاهبة إلي الموت. فالأمريكيون يبحثون عن مصالحهم وينفذون برامجهم وأفكارهم ومشاريعهم، وكذلك يفعل الإسرائيليون مستفيدين من كل شيء. أما العرب فيقفون مذهولين ضائعين مذعورين قلقين مسلّمين أن لا حول إلا بمزيد من الارتباط بالأمريكيين. والأمريكيون كلما احتضنوا هؤلاء، أظهروا في تصرفاتهم وكأنهم يحتضنون مادة كريهة مسمومة بشعة، لابد في وقت معين من التخلص منها ورميها وتدميرها، وكل التجارب السابقة قد أكدت ذلك. فمعظم النظام الرسمي العربي يقف في بؤرة عري تاريخي لم يسبق له مثيل. وربما لم يشهد التاريخ المعاصر هذا القدر من التبعثر وانعدام الوزن والمكانة السياسية، وهو يبدو اليوم مستسلماً للقوي الغربية والمخطط الصهيوني تحركه في اتجاهاتها. وبهذا المعني، المشروع الأمريكي: الشرق أوسطي والإصلاحات الديمقراطية المعولمة، لا تعني غير الشر الموجه للأمة ''ليل ونهار'' بقفازات حريرية وألوان زاهية، تخفي حقيقة رغبة الإدارة الأمريكية التدخل في الشأن الداخلي العربي و الإسلامي، وإعادة التجزئة ورسم خرائط وكيانات جديدة تنسج رؤيتها العقيدية ومصالحها الاستراتيجية ''من وجهة نظرها''. فسقف المطالب الأمريكية والصهيونية ترتفع أمام العرب يومياً، ويكاد المختصون والمراقبون في سائر الأقطار العربية، يجمعون علي أن ''النظام العربي'' في حالة وهن وتفكك شديدين، بل هناك من يذهب إلي ما هو أبعد من ذلك في نعي ''النظام العربي'' والسير في جنازته إلي حالة الاضمحلال. وهذا ليس بجديد، فالأنظمة العربية لم تنجح يوماً في حل أي أزمة سياسية واجهت المنطقة طوال العقود الماضية بمعزل عن التدخل الغربي ومشاريعه، وذلك لسببين: الأول، عجزها عن إيجاد حلول عربية تحافظ من خلالها علي المصالح الوطنية للدول العربية وسيادتها وعلي المصالح القومية، نتيجة افتقارها سيادة القرار ووطنيته، ومثالنا علي ذلك جدار المقاطعة للكيان الصهيوني الذي تحطم علي مدي السنوات الأخيرة رغم ما يسببه ذلك من ضرر علي القضية الفلسطينية.. أما السبب الثاني فيكمن في ارتباط مصالحها مع المصالح الغربية وخروجها من دائرة المصالح القومية العربية. ففي هذا الزمن العربي الأسود الذي بلغنا فيه قرارة الهاوية، من كان يصدق أن مشيخة قطر المحمية المجهرية علي ساحل الخليج، تختبيء تحت إبط قواعد حربية أمريكية، يمكن أن تتصدي لكتابة تاريخ العرب الجديد بمداد النفط والغاز، وتتطوع لتروج خديعة جديدة في عقول العرب، تنسيهم خديعة لورانس العرب وكل الاستحقاقات المرّة التي حصدوها من قمح ''الشريف حسين'' وثورته العربية الكبري، ومن كان يصدق أن شيوخ هذه المحمية البطرة سوف يطلقون خيولهم في موكب الناتو للسطو علي ليبيا واليوم يعاد نفس السيناريو لتقسيم سورية، ويشدون قاهرة المعز من أذنها كي توقع علي قراراتهم الجاهزة في محفل عربي عليل. هو الزمن العربي الأسود، الذي عليك فيه أن تصدق كل الأكاذيب الفاقعة، وتطرد من وعيك كل الحقائق الناصعة، وأن تقتنع أن هذا المشهد الكاريكاتوري الذي تتداوله أيامنا الحاضرة من مسرح إلي آخر، هو حصة العرب الوحيدة من دنياهم، مشعوذون بلباس القادة، وثورات ملثمة لا تكتمل طهارتها إلا بقذائف حلف الأطلسي، وقرارات استراتيجية كبري يستقبلها العرب علي هواتفهم الجوالة رسائل نصية من مكتب ''جيفري فيلتمان وفورد'' في واشنطن، لتقرير مصير أمة مليئة بالدول المختبئة خلف علامات الاستفهام! والمعركة الحاسمة بين الوجود والفناء والموجات، تداهم الميدان العربي بأنواع من التحريض ومن الإغراء الهمجي، الذي لا يتوقف ولا ينضب، والذي تستثمر في تغذيته موارد غزيرة أيضاً لا تتوقف ولا تنضب، ومنها المال الخليجي وبخاصة القطري، ومنها البشر ومنها الخطاب الديني الإسلامي الذي اعتمد أن يفرغ الإسلام العادل من مضمونه، ويطلقه إدعاءات مزيفة في أكبر معركة لتشويه الحقائق وافتعالات الصراعات المجانية، حتي ولو أدي ذلك إلي تدمير البيت علي ساكنه، أو إلي وضع الإنسان العربي في مواجهة أخيه الإنسان العربي، يشوهه ثم يرديه قتيلاً، ثم يقول ها أنا قادم من الحرية إلي الحوريات العين في الجنة الموعودة. إنها أكبر معركة في التاريخ البشري المعاصر تشهد هذا الأفق من التزوير وهذا المدي من سفك الدم العربي الحرام. إنهم في المحصلة يريدون خلق إنسان ميت سلفاً أو في طريقه إلي الموت ويحاولون في ذلك أن يطلقوا قناعات بأن هذه الأوطان الخارجة عن الطوق الإسرائيلي، لا تصلح للحياة ولا للحضارة ولا للاستقرار، وعلي المواطن المنتمي إليها أن يختار ما بين موت قابع للتو وراء الباب أو موت آخر بطريقة الرحيل عن الوطن كله واستلام وجبات المهانة والذل بحجة أن الحياة مع الذل هي أفضل من الموت مع الكرامة. وعلي وقع انسداد الأفق وغياب الحلول المنطقيّة، تتقدّم السياسات الغربية في انتهازيتها وفاشيتها، كما لو أنّ الدولة تعجز عن سداد الالتزامات تجاه المجتمع، فالأزمة تخلق الحلول قسراً، وكما تجري الصفقات في السياسة، فيحتدم الاقتتال بين الليبرالين والعلمانيين والثورجيين والمتأسلمين، علي خطف الإدارة والحكم والسلطة والمجتمع، كذلك في الاقتصاد، يحضر الصندوق الدولي علي مائدة الابتزاز والتفاوض والقروض 'صندوق النقد الذي أعلن استعداده دعم التحوّلات في دول الربيع العربي، لكن تحت شرط إقامة علاقات مع إسرائيل'، وتسليم إدارة الاقتصاد للحكام الجدد الذين ترضي عنهم، فيسلّم الواقع استبداده واستقراره، ليخرج العرب من التاريخ، فيتقدّم الرجل الأبيض الاستعماري، الذي يحرس الصفقات والمفاوضات.. فلا يبقي غير كفّ يد الدولة عن الانسياق في الشأن السياسي خارج حدودها، لتغرق في المستنقع العنفي والإجتماعي، وعلي وقع إعادة إنتاج الواقع الذي يتأزّم، تنكفئ الدولة إلي تفكيكها وتجزئتها وحضيضها وجاهليتها، فلا يعود سقفها أكبر من حفظ وحدتها، ووقف تمزيق جغرافيتها إلي طوائف ومحميات 'لبنان نموذج قديم، الصومال والسودان نماذج واقعية، اليمن وليبيا وسورية نماذج تحت الطلب'، فتسلّم مفاتيح الاقتصاد إلي تجار الأزمات والحروب والصفقات، لتعلّق مشانق القطاع الحكومي، وتتلاشي الدولة اقتصادياً واجتماعياً، فيسهل ابتزازها سياسياً، إذ ينبغي أن تنتج حالة الهلع العام والفوضي الاجتماعية، واندحار الدولة وتفتيتها، فرصة ذهبيّة للتغيير. فالمآسي العظيمة والكوارث الرهيبة، تولد حالات نادرة، لإعادة صياغة المجتمع والجغرافيا، كما ترغب السياسات النيوليبرالية: أليست مفارقة تاريخيّة أن يلتقي اليوم الإخوان والقاعدة وأمريكا وإسرائيل، علي دعم وتبني عنف المعارضة ضد الأنظمة العربية المشاكسة..؟ هي الردة إذاً، ولا أثر للثورة في المشهد العربي، والردة والرجعية متلازمتان الأمر الذي يفسر لنا ولكل من يريد أن يفهم اعتلاء بعض شيوخ النفط المعممين بالجهل مقعد القيادة في قاطرة هذه الردة العربية السوداء يبيعون في سوقها ويشترون ويدمرون كل قواعد وأسس التقدم ويبذرون أموالهم في مشروع استثماري سياسي يعتقدون أنه سوف يفتح لهم أبواب النعيم. فهل فاتت الفرصة الذهبية علي العرب وانحدروا نحو القرون الوسطي من جديد أم إن إرهاصات ما حدث لم تنته بعد والفعل الثوري يستطيع أن يصحح مساره مرة أخري ويجترح المعجزة التي تبدو اليوم صعبة المنال!؟ ولذلك يتساءل المرء بمرارة كيف ستقرأ الأجيال العربية تاريخها المعاصر، وهل سيكون أمام الطلاب والباحثين مؤلفات ومؤلفين ومؤسسات صادقة وموضوعية علمياً وتاريخياً وواقعياً؟ وكذلك الحال في المؤسسات الأكاديمية والمعرفية في الشرق والغرب التي تُعني بتاريخنا وواقعنا العربي؟ لا شك في أن وسائل الإعلام التحريضي الرخيصة، والتي تعمل علي تزوير الحقائق بدعم مركزي غربي استعماري، ورجعي عربي ستكون من أهم المصادر التي ستضع الحقائق مشوّهة ومسيّسة، وهذا مما مزّق وسيمزّق الوعي والشعور الجمعي العربي والإسلامي، ويفتت الوحدة والتاريخ والمصير، ولاسيما أن المشروع القومي صار هباء منثوراً، وبدأ يتقدم مكانه الإسلام السياسي المدعوم نفطياً وأطلسياً. أمام هذا الواقع يخفت الآن الصوت العربي والإسلامي الحر، ويضعف نشاط القوي الوطنية والعربية والإسلامية التقدمية. يضعف صوت الشارع العربي والمثقف العروبي واليساري والليبرالي تجاه هذا المد الكاسح لبعض مشيخات البترودولار التي خرست لفترة طويلة حقق خلالها الوعي القومي منجزات ساطعة في تاريخنا المعاصر، ولاسيما في فترات نضال حركات الاستقلال والتحرر الوطني العربية ضد الرجعية والاستعمار الغربي. هذا الضعف والخفوت مرحلي وسنلحظ ولا شك في وقت قريب حراكاً فكرياً وشعبياً مندّداً بالمنجز الرجعي الأطلسي، ولاسيما أن القوي المتأسلمة التي وصلت إلي السلطة في بعض البلدان العربية تجابه مجدداً ضغطاً جهادياً إسلامياً مقلقاً يجدّد التضرّر والصدام المجتمعي والسياسي والأخلاقي والديني في كل يوم وفي بقاع عديدة من مشرق الأمة ومغربها، ما سيجعل الاستقرار والديمقراطية وهماً يقض المضاجع باستمرار. وعليه فإن استهداف العروبة لا يقف كما يتصوّر البعض عند منع تحرير فلسطين والوحدة العربية، بل يذهب أبعد من ذلك، إلي ضرب الدولة القطرية ذاتها وتوظيف الايديولوجيات بما فيها ايديولوجية ''الإسلام السياسي'' في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني. فالذي تقرر صهيوأميركياً هو أن نظام المقاومة والعروبة تشكل أكبر خطراً علي المستعربين وعروشهم، فهم مع ضرب غزة، وتهويد القدس، كما كانوا مع احتلال العراق، وتدمير الخط العروبي القومي في تونس وليبيا واليمن والصومال.. فالضمير الدولي بالنسبة لهم ينحصر بالضمير الصهيوإمبريالي، وليس بالضمير الروسي، والصيني، والهندي، والبرازيلي، والجنوب أفريقي، أو دول الإلبا في أميركا اللاتينية. إن مَنْ يتعاطف مع القضايا العربية العادلة ليس من الأصدقاء للعرب المتصهينين. ومَنْ يسعي لتطوير منظومة القوة الإسلامية، والعربية ضد إسرائيل ليس من الأصدقاء من عرب أميركا وإسرائيل. والذي يتمسك بالحقوق العربية، والثوابت المقدسة ليس من هؤلاء المتصهينين، وليسوا منه. فالضمير القومي ممنوع، ومحرّم علي أزلام الغرب الصهيوني، والضمير الدولي العادل والديمقراطي ممنوع، والمسموح به فقط هو خدمة إسرائيل عبر أي شكل من أشكال قلة الضمير فهو الغاية الملزم بها الأذناب الذين تربّوا بالحظائر الصهيوأميركية. وعليه فقد صار حصاد التاريخ مقروءاً بما يفعل هؤلاء ونلخصه بأن الضمير الدولي العادل الذي لا يخدم إسرائيل وأميركا ليس مطلوباً. والقانون الدولي الذي يتيح علي أن يأخذ صاحب الحق حقه ليس مطلوباً. والعرب الذين يعملون لعروبتهم ليسوا مطلوبين. والإسلام الذي يعمل من أجل تحرير الأراضي المقدسة ليس مطلوباً. والدول الأجنبية والعربية التي لا تفتح الأبواب لمشاريع إسرائيل ليست مطلوبة، وبناء عليه فالمطلب الوحيد هو تدمير الأمة العربية جغرافية وتاريخاً، ووجوداً، من أجل شرق أوسط يخلو منها. إن الإشكالية المطروحة علي العرب اليوم، هي إشكالية وجود فقد مشروعه، محاط بأسوار محلية وإقليمية ودولية حاضرة المشاريع، والسبب معاناتهم مشكلة التداخل بين ما هو محلي وما هو إقليمي وما هو دولي، وبين ما هو شرق أوسطي وبين ما هو صهيوني، مع ما هو وطني وقومي عربي، وربما كان التحدي الإشكالي متمثلاً في أيهما أقدر علي توظيف الآخر، الأمر الذي يتطلب من العربي التمسك بآليات العمل العربي المشترك وإعطاءها دفعة من الحياة والحيوية تحسباً لمخططات واقعية وتآمرية قادمة. وحتي تكون هنالك رؤية عربية، تحمي الهوية العربية، والنظام العربي من الاضمحلال، وكي لا ينوب الانفراد القطري الذي لا يربطه رابط، ولا يضبطه ضابط عن الإجماع القومي، لا بد من اكتشاف العربي لذاته وحضوره في صنع مستقبله بدلاً من أن يصنع له، وهذا يتطلب تضافر الجهود العربية، لتضييق الفجوة المتزايدة بين الوجدان العربي الذي يرفض الكثير مما يجري، وبين عقل مهزوم الذي يقبل بواقع وزنه فيه كالريشة في مهب الريح. في ظل خريطة التطورات وأنواع الصراعات الواقعة والمستقبلية، لا بد من التساؤل عن دور الجماهير العربية في هذه المرحلة التي يرسم خطوطها أعداء العرب، ذلك هو السؤال الذي لا بد من الإجابة عليه بوضوح، من أجل تلمس الخطي المستقبلية لمنع بناء شرق أوسط علي رفات النظام العربي، لاسيما في هذا الزمن الرديء، الذي يعيش مرحلة التخطيط وإعادة التقسيم ورسم الخرائط للشعوب والكيانات والدول، وعلي رأسها الوطن العربي، نظام أشبه ما يكون بسايكس بيكو جديد. وكي لا يصل الحال العربي إلي ما أعلنه ''برنارد لويس'' الصهيوني عن موت حركة القومية العربية، التي يلاحظ انحسارها اليوم واحتجاب موجتها وتحلل عالمها العربي كوحدة سياسية متماسكة، لا بد من تواجد سورية ومصر في خندق واحد، لأن في مثل هذا التواجد تتواجد العروبة كهوية قومية جامعة، وكإطار للنهوض والتقدم، كما يتواجد الحضور التاريخي والجغرافي الذي يمنع تفتيت العرب ويقضي علي تشتتهم، ويوحد جهودهم ويعزز نضالهم من أجل مستقبل أفضل.