محمد الشماع لاشك أن للقضاء في قلب كل مصري قبل الاحترام الحب والتقدير لهذه السلطة وهذه المؤسسة التي تعد واحدة من مؤسسات أخري في مصر كالقوات المسلحة والخارجية ومؤسسات نعتز بقدرتها العالية علي التنظيم واحتفاظها بكوادر تحمي الديمقراطية المصرية وتصون حقوق الجميع وتحمي أمننا القومي. والقضاء المصري تميز طوال تاريخه بالنزاهة. كما أن قضاة مصر أسسوا البنية القضائية والتشريعية للعديد من دول العالم العربي. هذه المقدمة ضرورية قبل الخوض في موضوع شائك ومعقد ويتميز بكمية كبيرة من الخلط وعدم وضوح الرؤية، وهو موضوع الخلط بين سلطة القضاء وسلطة القاضي واستقلال القضاء، فالقضاء كمؤسسة تفصل في النزاعات بين الأفراد من مختلف الاتجاهات وبين المواطن والسلطة التنفيذية وبين هيئات واجهزة الدولة المختلفة طبقا لقواعد قانونية. وقد حدد القانون طرق الطعن في قرارات المحكمة عبر درجات التقاضي المختلفة حتي اذا كان الحكم نهائيا اصبح من الممنوع الخوض فيه أو الاعتراض عليه. ومعلوم أن هذه السلطة التي يتمتع بها القضاة هي في صالح المجتمع كله تماما مثل سلطة الصحافة التي نطالب بتوسيعها لصالح المجتمع وليس لصالح الصحافة والصحفي الذي يبقي في جانبه الآخر مجرد مواطن يخضع للقوانين التي تنظم علاقته بغيره من المواطنين. القاضي أيضا مواطن بكل ما تعني الكلمة من حقوق وواجبات، وهو أيضا إنسان يعني أن له إرادة في السياسة أو الاقتصاد وفي طريقته في التعامل مع جيرانه وغيره من المواطنين مثلما يحكم هو بالقانون في الصباح عندما يجلس علي منصة القضاء. ولثقة الشعب في نزاهة السلطة القضائية تقدمت هذه السلطة لممارسة دور الرقابة والاشراف علي العملية الانتخابية لضمان نزاهتها وشفافيتها، وطبقا لما نص عليه الدستور، وبالتأكيد فإن النتيجة النهائية لجهود القضاء هي في صالح الشفافية وصالح العملية الديمقراطية. لكن هذا لا يجب أن يجعلنا نتغاضي عن حقيقة ان القاضي إنسان له اراؤه السياسية، وان القضاة غير محظور عليهم أن يقتربوا من السياسة ولكن لا يجب أن يعملوا بالسياسة.. وعلينا أن نسأل مباشرة دون مواربة.. هل القاضي في لجنة الانتخابات هو نفسه القاضي علي منصة القضاء؟ قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني هي قضية سياسية أرادوا ألباسها ثوب القضاء الفضفاض إلا انه سقط بها وتهلهل وكان لا ينبغي الزج بها، فهي قضية بلا شك استخدمت سياسيا وهذا وجه الخطأ الظاهر منذ بدايتها. هذه الجمعيات التي تلقت تمويلا أجنبيا وكانت قد قدمت طلبات للترخيص وكانت تباشر نشاطها تحت سمع وبصر الدولة منذ سنوات وشاركت في الانتخابات ثم فجأة اكتشفت الحكومة التمويل لهذه الجمعيات بطرق متعددة، أو بدأت الحكومة تقلق من هذا النشاط والتمويل المفرط فكان تحريك القضية وعقد مؤتمرات صحفية للوزيرة وقضاة التحقيق واتخاذ اجراءات خاصة بعد تلقي الحكومة معلومات ان هذه الجمعيات لها نشاط ضار بالمجتمع، والمعالجة للقضية كانت خاطئة. اقحام القضاء في قضية سياسية كان خطأ ولكن ما دام قد قدمت هذه القضية للقضاء فكان ينبغي أن ننتظر حتي يصدر حكم المحكمة وفي يد السلطة المختصة أن تعفو عن المتهمين أو لا تعفو! تصاعدت أزمة قرار الافراج عن الأمريكيين المتهمين في قضية التمويل الأجنبي وسفرهم للخارج علي مختلف الأصعدة، وما اثير حولها من ضغوط سياسية وراءها. هذه القضية يجب أن تفتح أعيننا وتثير خوفنا وقلقنا علي ما يمكن أن يصاب به القضاء من احتكاكه بالسياسة فلا يكون مثل الطبيب الذي جاء لمعالجة مريضه فاكتسب العدوي! والسياسة مريضة ليس في ذلك شك والخوف كل الخوف أن يكتسب القضاء العدوي دون أن يتمكن من علاج المريض. لقد تحمل القضاة ما هو فوق الاحتمال خلال هذه الانتخابات وعاشوا ظروفا صعبة ومن العدل ان تحاول السياسة المريضة وتجتهد لمساعدة نفسها علي الشفاء قبل أن تنقل أمراضها إلي رجال القضاء الذين يمكن أن يقودها الانخراط في الشأن السياسي إلي تغليب جانب الإنسان والمواطن فيهم علي جانب رجل القانون المرتفع فوق الحسابات والانحيازات السياسية. وهذا من شأنه أن يؤذي السياسة والقضاء معا لان دخول القاضي المتمتع بالحصانة طرفا في صراع سياسي طبيعته الاختلاف والجدل يمكن أن يضر ولا ينفع. هناك مطالب تشريعية لنادي القضاة تستهدف المزيد من الاستقلال للسلطة القضائية، وهي مطالب مشروعة وعامة للقضاة تلتقي مع مطالب فئات أخري مثل الصحفيين ممثلي السلطة الرابعة حيث تسعي النقابة إلي ضمانات أكثر للصحفي لكي يمارس وظيفته بشكل أفضل وكلها مطالب تصب في خانة الإصلاح السياسي الذي لابد منه ولا رجعة عنه. وهذه المطالب التشريعية للقضاة يمكن التشاور فيها بين القضاة انفسهم لتقديم مشروع يرضي عنه القضاة، علما بأن التشريع في صورته النهائية هو مسئولية مجلس الشعب، أي أن كلمة نادي القضاة فيه ليست نهائية كما أن كلمة مجلس القضاء الأعلي ووزير العدل من الجانب الآخر ليست نهائية ايضا وهناك نواب لهذا الشعب منتخبون ومهمتهم اصدار القوانين. ولكن من منا يختلف علي ضرورة استقلالية السلطة القضائية، واهمية وجود ضمانات لمنع تدخل أي سلطة في اعمال السلطة القضائية، ووضع قيود علي القاضي الذي يستقيل أو تنتهي مدة خدمته بعدم جواز تعيينه في وظائف مدنية إلا بعد ثلاث سنوات، كما لا يجوز ندب القاضي اثناء الخدمة حتي لايتعرض لاية اغراءات، وان تكون ميزانية القضاء مستقلة وكل امور القضاء في يد مجلس القضاء الأعلي وان مثل هذه الأمور تضمنتها مشروعات قوانين من بينها مشروع المستشار أحمد مكي وهو من رموز القضاء الشامخين وكذلك مشروع القانون الذي اعده نادي القضاة واعتقد أنه لا توجد فروق كبيرة بين المشروعين أو أي مشروعات أخري تهدف إلي الاستقلال الكامل للقضاء وتعيين رؤساء المحاكم ونقلهم والتفتيش القضائي واختيار وتعيين النائب العام، باختصار كل احوال القضاء، وهذا ما يتضمنه مشروع قانون استقلال السلطة القضائية الذي اعده نادي القضاة برئاسة المستشار أحمد الزند الذي فاز بثقة رجال القضاء لدورة جديدة. نعم للقضاء وضع خاص ولا ينبغي لرجل العدالة أن ينغمس في السياسة، ولكن القاضي في النهاية مواطن والدولة هي التي استدعته للاشراف علي عمل سياسي، فهل اعلان رأية اصبح جريمة تضعه أمام لجنة الصلاحية وتضع تاريخه علي منصة القضاء في كل مساءله؟ اتساءل فقط ألم يكن من الممكن تفادي هذا التشابك وتعقيد الخيوط؟ ولا يعني هذا الدعوة إلي انخراط القضاة في العمل السياسي، وهو أمر اخشي ان تنزلق اليه الأمور بسبب ازمة التمويل الاجنبي لمنظمات المجتمع المدني. اعتقد أن هذه الأفكار يمكن أن تكون موضوع حوار داخل أسرة القضاء نفسها بعد انتهاء الجهد الشاق في الاشراف علي اصعب انتخابات برلمانية شهدتها مصر، وانتظارا لأول انتخابات رئاسية حقيقية ستشهدها مصر. كما يجب ان يفتح باب الحوار السياسي بين الأحزاب والقوي السياسية المختلفة حول الأسلوب الأمثل لإدارة انتخابات نزيهة ونظام وطريقة المشاركة في الاشراف علي الانتخابات اية انتخابات بعيدا عن أي تأثيرات. كل ما نرجوه أن تصل الأزمة إلي نهاية مرضية لاطرافها تعيد للأسرة القضائية وحدتها حفاظا علي مصالح المتقاضين، وحفاظا علي استقرار مصر، وان يتحقق الاستقلال الكامل للقضاء خاصة في وجود قوي تتربص بها قد اسفرت هذه القوي عن وجهها القبيح في الأزمة وبدأت تستغلها في الضغط علي مصر.