تناولنا بالتحليل في سلسلة المقالات السابقة مصطلح »الاستخبارات الاقتصادية« أو »الذكاء التنافسي« وذكرنا ان المصطلح ينتمي لعلم تمازجي حديث يجمع بين عدة نماذج علمية تنتمي لعلوم متعددة بهدف تحقيق المنافسة الاقتصادية علي اسس علمية ومنهجية. وعلاقة مفهومي »اللغويات القانونية« و»الاستخبارات الاقتصادية« تتمثل في الاهتمام بالبعد القانوني مع البعد الاقتصادي، اضف إلي ذلك بعد التنبؤ من اجل التدخل السليم لتحقيق ميزة تنافسية. والنقطة المحورية هنا تتمثل كذلك في تبني عدة نماذج لإدارة واستباق الازمات، ولاشك ان ملف المياه والازمة القائمة مع دول حوض النيل بعد الاتفاقية التي وقعتها اغلب دول المنبع بعيدا عن موافقة دولتي المصب مصر والسودان.. لاشك ان هذا الملف يحتاج في تحليله إلي نماذج علمية مركبة حتي تكون نتائج التحليل في خدمة »التفاوض المركب« COMPLEX NEGOTIAN الذي لابد ان يكون نهجنا في المرحلة القادمة في التعامل مع هذه الازمة. وفي البداية لابد ان نعترف بصراحة ووضوح ان استراتيجية التفاوض التي انتهجتها مصر في هذا الملف منذ بدأت مؤشرات الازمة بحاجة إلي التقويم الامين والموضوعي للتعلم منه. فلقد اخفقت هذه الاستراتيجية .. وكان من الواضح انها ستخفق لوجود عدة اوجه لم يكن المفاوض المصري المسئول عن هذا الملف منتبها لها.. ويأتي في مقدمة هذا التحليل الاولي ما يلي من عوامل: 1- لم ننتبه لخريطة الحجج التي كان يتم تبادلها والترويج لها عن مصر في آلة الاعلام وفي اروقة اكاديمية غربية وافريقية تثير المخاوف من مصر وتصفها بالدولة التي ادارت ظهرها لدول المنبع كما كانت تصف الاتفاقيات الحاكمة للعلاقات بين مصر ودول المنبع (9291-9591) بانها اتفاقيات تنتمي للإرث الكولينيالي/الاستعماري.. كما لم ننتبه لتلك الحجج الاخري التي كانت تركز علي وجود حالة من الاستعلاء والانانية لمصر كما ورد في تلك الحجج الجائرة .. كل ذلك وما يماثله من حجج اثار مخاوف عميقة ونوعا من العداء بين دول المنبع ومصر.. والسؤال هنا هل كان من الممكن التدخل المبكر وازالة تلك المخاوف من جانبنا؟ والاجابة نعم. بالطبع.. كان يمكننا ليس فقط عن طريق تفنيد الحجج ولكن عن طريق ممارسات علي ارض الواقع تتعامل مع كل هذه الحجج بشكل فعال وممكن وهو الامر الذي لايزال متاحا بالطبع. 2- لم نتعامل مع تلك المخاوف »فنفخ فيها من نفخ.. وخاصة اسرائيل«.. »بحرفية عالية« وهنا يمكن ايضا التصدي لها.. 3- لم نتعامل تفاوضيا بشكل فعال مع طلب دول المنبع بإعادة التفاوض حول الاتفاقيات القائمة RENGGO TEATION ففكرة »اعادة التفاوض« حول اي اتفاقيات قانونية هو امر مشروع ووارد.. ومصر نفسها »مارست حق اعادة التفاوض عند الانتقال من اتفاقية 9291 إلي اتفاقية 9591 لقد كان انكار المبدأ مستفزا لدول منابع النيل وقد كان من الممكن الدخول في محاكاة أو حتي اعادة تفاوض ونحن نملك اوراق قوية للحفاظ علي حصتنا بل زيادتها خاصة بالاتفاق علي انتهاج مبدأ التفاوض المركب لحل المشاكل ووجود وفرة في مياه النهر تضيع هباء. 4- اعتمدنا علي المنهج القانوني المستمد من الاتفاقيات ومن القانون الدولي وهو منهج ينبغي توظيفه بالطبع ولكنه يحتل زاوية واحدة لا تكفي وكان تمسكنا به احاديا منعزلا عن طبيعة المخاطر والمستجدات علي ساحة العولمة الفوضوية والجائرة.. بمعني ان هناك وقائع كثيرة كانت تجعلنا ادراك ان تركيا مثلا لم تستجب لكل نداءات سوريا والعراق بحقوقهما القانونية والانسانية فيما يتعلق بالانهار التي تمر بالاراضي التركية والسورية والعراقية.. ولا داعي للتذكير بعلاقة اسرائيل بما يسمي »بالقانون الدولي« في كل شيء سواء في المياه أو ابسط حقوق الفلسطينين علي كافة الاصعدة. كان اسلوب ادارة الازمة يراهن اساسا علي هذه »الاحادية الحقوقية« كما انه وكما لاحظ د.مصطفي الفقي كان اعتقادنا الاساسي في هذا الملف علي »مفتش الري« وهذا دور مهم ومطلوب ولكنه كذلك ليس كافيا علي الاطلاق بطبيعة الازمة وتركيبها. 5- يستحق المنهج الاعلامي لاستباق الازمة نظرة خاصة لاستباق ما قد تبقي لنا من ادارة هذه الازمة الممتدة.. باختصار التناول الاعلامي الاستباقي لما يحدث في دول المنبع لم يكن موجودا وهذا يتطلب تناول هذا الدور بالتفعيل في اطار منظومة متكاملة لدبلوماسية المسار الثاني من رجال اعمال ومنظمات اهلية مصرية وتبادل البعثات والاكاديمية وغير ذلك مما ينبغي تفصيله في سياق اخر.. وللحديث بقية والله ولي التوفيق.