عدتُ الي المنزل متأخرا ومُرهقا مساء الجمعة بعد يوم طويل بذلنا فيه، الدكتور عبد الجليل مصطفي المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير وبعض شباب الجمعية والكابتن نادر السيد وأنا، جهدا مُضنيا لوقف مذبحة شارع محمد محمود الثانية. أجري الدكتور عبد الجليل، الذي يعتبره كثيرون الزعيم المجهول لثورة 25 يناير، إتصالات علي أعلي مستوي ،بإخلاص وتجرد وبعيدا عن الاضواء كعادته، بهدف إبعاد الشباب الغاضب عن محيط وزارة الداخلية وإعادتهم الي الميدان لتجنب وقوع حمام دم جديد.. ولما باءت جهودنا بالفشل انصرفنا من عيادته في باب اللوق محبطين ورجعتُ الي البيت لكتابة هذا المقال.. ولما كان الارهاق قد نال مني الكثير فضلت النوم بضع ساعات علي أن استيقظ فجر السبت للكتابة.. وقبيل موعد صحوي زارني في المنام خالي المرحوم عبد الرءوف النقر، صاحب الفضل الاول، بعد الله وأمي وأبي، في تعليمي وتثقيفي.. وهو أول من عرفني علي العقاد وطه حسين ورفاعة الطهطاوي.. كان جميلا ومتألقا وضاحكا كما لم أره من قبل.. استقبلني بالإحضان بحرارة وحنان غير مسبوقين ثم بادرني بالقول، بعد أن جلسنا متجاورين علي المصطبة المجاورة لبوابة بيتنا القديم، " أنتظر بشوق ولهفة حكاياتك عن الثورة والميدان".. قلتُ دون مقدمات.. إنها الحدث الأعظم والأجمل في تاريخ جيلنا، إن لم يكن في تاريخ مصر علي الإطلاق.. قاطعني مبتسما "أراك تجنح الي المبالغة كعادتك".. أجبته من فوري.. لقد وصفها زعماء أجانب بأنها "الثورة الأجمل في تاريخ البشرية".. وصار ميدان التحرير كعبة ورمزا للثورة علي القمع والقهر والظلم في كل أنحاء العالم.. مظاهرات المحتجين علي جشع وتوحش الرأسمالية في أمريكا وبريطانيا اصبحت ترفع أعلام مصر وتطالب أصحاب الحقوق المهدرة بإستحضار "روح التحرير والدفاع عن حقوقهم كمصريين"!!.. واستطردتُ بينما كان خالي عبد الرءوف، وهو قاريء جيد للتاريخ، يتابع حديثي بفخر وفرحة تكاد تقفز من عينيه.. تمنيتُ كثيرا أن تكون معي في ميدان التحرير وخاصة في الثمانية عشر يوما التي سبقت تخلي الرئيس المخلوع.. كانت مصر البهية في أجمل صورها.. نفضت عن نفسها غبار وعفن وتخلف سنين عجاف طويلة تولي أمرها فيها، وفي غفلة منا ومن الزمن، شرار البقر التي بقيت علي المزاود.. كان حكم مبارك عصر إنحطاط بإمتياز.. لم يكن رئيسا بل زعيم عصابة محترفا نهب وبدد هو وزوجته واولاده واصدقاؤهم من كبار اللصوص، كل ما طالته أيديهم من ثروات وكنوز وطن لم يعرفوا قيمته فتعاملوا معه كعزبة أو تكية.. ولكن مصر الولادة التي علمت الدنيا الحضارة والضمير أكدت أنها قد تمرض ولكنها لا تموت أبدا.. انتفض شعب الكنانة ليمحو من تاريخه تلك الجملة الإعتراضية البذيئة والمهينة وخرج بالملايين الي الشوارع والميادين ليقول للحاكم الاسوأ في تاريخه "كفاية" ويسطر الملحمة التي ابهرت كل الدنيا والهمتها بقيم ومباديء ومعاني جديدة.. وأرجو، هكذا خاطبتُ خالي عبد الرءوف، ألا تتهمني بالمبالغة مرة أخري، إذا قلتُ إن ثورة 25 يناير أعظم من الثورة الفرنسية، لأنها، فضلا عن رفعها شعار الحرية والكرامة الانسانية والعيش (وهي كلمة عبقرية تعني في العامية المصرية الحياة والخبز معا)، رفعت شعارا فريدا لم ترفعه أي ثورة من قبل بهذا الوضوح هو "العدالة الإجتماعية".. وهذا الشعار الساحر هو الذي جذب وألهم فقراء وأحرار بريطانيا وامريكا وكل الحركات العالمية المناهضة للعولمة والذين لخصت عبارة "العدالة الاجتماعية" معظم مطالبهم.. كانت أيام التحرير تاريخية بقدر ما كانت رائعة ومبهرة ومبهجة.. ولو قُدر لهذه الثورة العظيمة أن تنجح، وسوف تنجح قطعا، فإن مصر سوف تسترد حتما دورها ومكانتها التي تستحقها في المكان والزمان وفي الجغرافيا والتاريخ.. وهنا سألني خالي منزعجا "وهل هناك أدني إحتمال لفشل الثورة".. فأجبته بأن أخطر ما يواجه الثورة يتمثل في أخطاء وخطايا المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي يتعامل مع الثورة بإعتبارها حركة إصلاحية وليس ثورة تتطلب تغييرا جذريا في الوجوه والاوضاع والسياسات والقوانين القائمة والمستقرة.. لم يعترف المجلس العسكري بالشرعية الثورية وأعانه مستشارو السوء والغرض علي السير في طريق خاطيء كان وبالا علي الثورة ودفعت مصر بسببه ثمنا فادحا ليس أقله ضياع عام من عمرها كان يمكن أن يدفعها خطوات علي طريق النهضة المنشودة.. وتواجه الثورة كذلك خطر ثورة مضادة ومنظمة يديرها ويمولها فلول نظام مبارك.. ورغم وضوح مخططات أعداء الثورة وتكرار المذابح التي ترتكب ضد الثوار مثل موقعة الجمل الاولي والثانية (في بورسعيد) ومذبحة محمد محمود الاولي والثانية، إلا أن المجلس يتخذ موقف المتفرج ولا يتحمل مسئوليته في وقفها بما يوحي بالتواطؤ.. ولكن اخطر ما يواجه الثورة هو ما أسميه فسادا وأنانية النخبة.. فقد تحول معظم الرموز الذين زعموا الانتساب للثورة، وخاصة من الشباب، الي آلات إعلامية والي فراشات تجذبها أضواء الفضائيات حتي إنه ليخيل لك أنهم يقيمون في مدينة الانتاج الإعلامي.. وهؤلاء لا يكلفون أنفسهم الدفاع عن الثورة أو يحاولون شرح أهدافها للناس وخاصة بعد ان انقلب قطاع عريض من الشعب علي الثورة.. وعيب هؤلاء القاتل كما اتصوره أنهم لا يقومون بأي جهد خالص لوجه الله والوطن والثورة.. ولا يتحركون إلا إذا كانوا في الصف الاول في مواجهة الكاميرا بالضبط ،وإذا تراجعوا للصف الثاني وانحسرت عنهم الاضواء فإنهم ينسحبون للبحث عن مبادرة أخري يتصدرونها.. وهنا تساءل خالي عبد الرءوف منزعجا "أراكَ تخليتَ عن تفاؤلك الدائم".. وقبل أن أجيبه صحوت مفزوعا علي صوت المنبه..